لماذا عزل أمير المؤمنين (ع) قيس بن سعد عن ولاية مصر؟

السؤال: لماذا عزل أمير المؤمنين علي عليه السلام قيس بن سعد عن مصر وولّى مكانه محمّد بن أبي بكر.. إذْ أنّ قيساً كان سياسياً ماهراً وضبط الأمر في مصر بعكس محمّد.. حيث يطعن بعض الناس بإدارة الامام عليّ السياسية التي لم يتمكن بها من السيطرة على مناطق كانت تحت حكمه وآلت إلى معاوية.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

قدّم محمّد الريشهري في موسوعته (الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة والتاريخ ج12 ص 268 - 272) تحليلاً تاريخياً يستعرض فيه الأسباب التي دعت أمير المؤمنين (عليه السلام) لعزل قيس بن سعد، ونحن هنا نكتفي بما جاء في تلك الموسوعة من تحليلات.

كان قيس بن سعد بن عبادة سياسياً ماهراً، وذكياً ودقيقاً، فعيّنه الإمام (عليه السلام) في أوائل أيام خلافته والياً على مصر، وبعثه إليها. وأراد الإمام (عليه السلام) إرسال جيش إلى مصر لدعم ونصرة قيس، بيدَ أنّ قيساً أخذ معه نفراً قليلاً يقلّ عددهم عن السبعة وقائلاً للإمام: حاجتك للجيش أكبر من حاجتي له.

وأخرج محمّد بن أبي حذيفة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وأعوانه وأنصاره من ممثلي عثمان في مصر قبل مجيء قيس إليها، فلما وصل قيس تسلّط على زمام الأمور بسهولة، واعتمد سياسة مسايرة المخالفين، واستطاع بهذه السياسة أن يسيطر على الوضع السائد، ويهدئ العثمانيين، ويحول دون ثورتهم.

واستمرّ هذا الهدوء مدّة هي دون السنة قطعاً، حيث عزل الإمامُ قيس بن سعد واستدعاه وولى عليها محمّد بن أبي بكر؛ وكان شاباً شجاعاً، لكن لم تكن له قدرة قيس السياسيّة.

وكان عزل قيس ونصب محمّد محلاً لسؤال وقدح الكثيرين، وبالخصوص في السنوات التالية؛ حيث ثار الناس على محمّد بن أبي بكر، وآل الأمر إلى إلقاء القبض عليه وقتله وإحراق جسده.

فكان السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا عزل الإمام (عليه السلام) السياسيّ الذكيّ، وعيّن محله هذا الشاب الناشئ، حتى انتهى به الحال إلى شهادته بهذا الشكل المفجع؟

تعزي النصوص التاريخيّة السبب إلى مؤامرة حاكها معاوية لتحقيق أهدافه الخبيثة؛ حيث قيل إنه كان يسعى إلى كسب قيس بأساليبه الخدّاعة، وأرسل إليه عدّة رسائل حرّضه فيها على الطلب بثأر عثمان، بيد أنّ قيساً كان أذكى من أن تنطلي عليه هكذا، بل احترز عن الإدلاء برأيه الصريح في موافقة معاوية أو مخالفته؛ وذلك لما تميّزت به مصر من المحلّ الاستراتيجيّ من جهة، وطمع بني أميّة ونفوذهم فيها، وقربها إلى الشام من جهة أخرى.

بيد أنّ معاوية - هذا السياسيّ الماكر المتأثر بمرافقة وإسناد عمرو بن العاص - ابتدع بمكره رسالة مزورة عن لسان قيس بن سعد مضمونها تأييد معاوية.

وذاع خبر هذه الرسالة في الشام، ووصل خبرها إلى الكوفة وإلى الإمام علي (عليه السلام)، فجمع الإمام (عليه السلام) أعوانه وشاورهم في هذا الموضوع، فكان رأيهم عزل قيس بن سعد وتعيين رجل أصلب منه؛ لانتشار خبر هذه الرسالة بين الجيش وبين عامة المسلمين. جاء في بعض النصوص الإشارة إلى اقتراح عبد الله بن جعفر بعزل قيس بن سعد وتعيين، محمّد بن أبي بكر.

وقد حمل هذا الاقتراح على محبة عبد الله لأخيه محمّد بن أبي بكر؛ حيث كانا أخوين لأمّ واحدة.

وقال بعض المفكرين: إنّ عزل قيس ونصب محمّد بن أبي بكر كان بسبب الضغوط التي تحمّلها الإمام من أصحابه؛ قال العلامة المجلسي: وجدت في بعض الكتب أنّ عزل قيس عن مصر مما غلب أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه واضطروه إلى ذلك، ولم يكن هذا رأيه؛ كالتحكيم، ولعله أظهر وأصوب.

وقال بعض المغرضين: إنّ سبب هذا هو انخداع أمير المؤمنين (عليه السلام) بحيلة معاوية.

والذي وصلنا إليه من مجموع هذه التحليلات والنظريات أنها جميعا بصدد تحليل "النتيجة" لا بصدد تحليل "الأسلوب"، وبكلمة أخرى إن الذي جعل تحت مجهر البحث هو النتيجة الحاصلة من دون لحاظ الظروف المحيطة والعوامل المؤثرة الموجودة أو المختلقة آنذاك. وإنما صبّ النظر على موفقية قيس بن سعد وانهزام محمد بن أبي بكر. مع أن الصحيح هو تحليل هذا الموقف الذي اتخذه الإمام (عليه السلام) مع الأخذ بنظر الاعتبار جميع العوامل المؤثرة، وكل ما له دخل في اتخاذ هذا التصميم من دون غفلة عن الواقع اليومي الحاكم آنذاك، وعلى هذا، نقول في تحليل الموقف:

1 - إنّ قيس بن سعد من الشخصيّات السياسيّة البارزة في التاريخ الإسلاميّ، بل عدّ من دهاة العرب الخمسة، ولا شبهة في ذكائه، ومما يؤيد ذلك الاطمئنان والهدوء الذي خيّم على مصر أيام حكومته.

2 - إنّ محمّد بن أبي بكر كان هو الآخر من الشخصيات البارزة آنذاك، وكان له محبّة في قلوب المصريين، حتى أنّ الثائرين على عثمان طلبوا من عثمان عزل عبد الله بن أبي سرح ونصبه بدله، وحين قام عثمان بذلك سافر المصريّون إلى بلادهم. ولهذا كان من الطبيعي أن يميل المصريّون إلى حكومة محمّد بن أبي بكر حين ولي أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة أيضاّ.

3 - عزل قيس بن سعد في منتصف سنة (36 ه‍) عن ولاية مصر، وولي محمّد بن أبي بكر مكانه، فكان مجموع ولايته على مصر ثمانية أشهر.

وأما محمّد بن أبي بكر فقد استمرت حكومته إلى آخر العام (37 ه‍) وقد حكمها تلك المدة باقتدار تام، ولم تحصل أيّ فتنة أو ثورة.

4 - بعد التحكيم وما أعقبه من تشتت جيش الإمام واشتداد شوكة معاوية وأصحابه، تغيّرت الأوضاع، ومن جملة ذلك أوضاع مصر؛ حيث اعترض العثمانيّون في مصر بعد سُبَاتهم وهدوئهم قبل ذلك. وهجم جيش الشام بقيادة عمرو بن العاص على مصر - التي كان يراها حقه وحصته من صفقة الصلح مع معاوية - وقد استطاع بمؤازرة العثمانيين القاطنين في مصر كسر جيش محمّد بن أبي بكر، ولم تكن الأوضاع مؤاتية للإمام كي يستطيع إرسال الإمدادت العسكرية لإسناد محمّد بن أبي بكر، كما لم تكن قوات محمّد بن أبي بكر بذلك العدد الذي يستطيع مقاومة جيش الشام.

5 - اتضح مما سبق أنّ اختيار محمّد بن أبي بكر ونصبه والياً على مصر اختيار صائب تماماً في ذلك الظرف، كما أنه على وفق القواعد السياسيّة. وتبيّن أنّ مدة حكومته على مصر تعادل حكومة قيس بن سعد بمرتين، وأنّ انكسار محمّد بن أبي بكر ناشئ من عوامل ومؤثرات خارجة عن اختياره.

6 - إن سياسة قيس بن سعد وإن حافظت على هدوء مصر لكنها كانت محطّاً للسؤال والنقد؛ حيث كان الواجب عليه في أوائل خلافة الإمام - والذي هو أوان قمة قدرته - أن يلجئ العثمانيين الذين في مصر على البيعة للإمام؛ فإنه لو كان فعل ذلك لكان اعتراضهم فيما بعد محدوداً لا شاملاً، حتى تتهيأ الأرضية المناسبة لتدخل الجيش الشاميّ، علماً أنّ هذه التصرفات لم تكن مرضيّة عند الثوريين من أصحاب الإمام عليّ (عليه السلام)، بل لعلّ الإمام (عليه السلام) لم يكن موافقاً على ذلك، ولذا فإنّ عزل قيس بن سعد يمكن أن يكون تأييداً لاعتراض هؤلاء الثوريين.

7 - لما ثار العثمانيون في مصر نصب الإمام مالك الأشتر واليا على مصر، وهو رجل شجاع جريء، وكانت سمعته العسكرية طاغية على سمعته السياسيّة.

ومن جهة أخرى: فإنّ الإمام أثنى على هاشم بن عتبة، وأيّد أهليته لحكومة مصر. فتعيين مالك والثناء على هاشم بن عتبة يكشف عن موافقة الإمام على المواجهة العسكرية في مصر، وعدم رضاه بالمداهنة والمصالحة.

8 - إنّ الإمام ذكر قيس بن سعد وقال: إنه صالحٌ لحكومة مصر، بيد أنه لم ينصّبه مرة أخرى، بل بعثه إلى بلد بعيد وقليل الأهمية في هذا الأزمنة مثل أذربيجان.