هل يرى أمير المؤمنين أبا بكر أحقّ بالخلافة؟

السؤال: ذكرت بعض المنتديات السلفية ان الامام علي عليه السلام قال (ما غضبنا إلا في المشورة، وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف له سنة، ولقد أمره رسول الله ص بالصلاة بالناس وهو حي.)، هل قال الامام ذلك؟ وهل هناك اقوال للامام علي في كتب السنة تناقض هذا القول؟

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا يخفى أنّه نزلت آيات قرآنيّة كثيرة في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ووردت أحاديث نبويّة جليلة في فضله، كآية التطهير وآية المباهلة وآية الولاية وآية كمال الدين وغيرها، وكحديث الغدير وحديث الثقلين وحديث المنزلة وحديث الطائر وحديث الولاية وغيرها الكثير، وقد نصّ الصحابة والتابعون وأتباعهم على أنّه ما ورد في فضل أحدٍ من الصحابة ما ورد في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام).

وإنّ جملة وافرة من الآيات والأحاديث دالّة بشكل واضح على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وخليفته من بعده، ومن أوضحها: حديث الغدير، إذ نصّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّ عليّاً أولى بالناس من بعده، وعقد له الخلافة، وأخذ من المسلمين البيعة في غدير خم، وتفصيل هذه الأدلّة في الكتب الكلاميّة.

وقد أخبره النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأنّ الأمّة ستغدر به من بعده، وأنّ ضغائن في قلوب قوم سيبدونها له من بعده، كما أخبره بأنّ القوم سيغصبون الخلافة، ويتجرّؤون على بيت الوحي، ويهجمون على ابنته الصدّيقة الكبرى (عليها السلام)، إلى غير ذلك من الفتن والبلايا، وقد حصل ما قاله وتحقّق ما أخبر به، فغصبوا القوم الخلافة والنبيّ (صلى الله عليه وآله) مسجّى لم يُدفن بعد، وهتكوا حرم بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهجموا على الصدّيقة الزهراء (عليها السلام)، إلى غير ذلك ممّا هو معروف مشهور.

وقد نسب المخالفون لأمير المؤمنين (عليه السلام) جملةً من الأحاديث المكذوبة والموضوعة، في سبيل تصحيح خلافة الخلفاء، ومن جملتها: هذا الحديث الوارد في السؤال، وهو..

ما رواه موسى بن عقبة - ومن طريقه الحاكم النيسابوريّ والبيهقيّ – عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: (أنّ عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب يومئذٍ، وأنّه هو كسر سيف الزبير، والله أعلم مَن كسره، ثمّ قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم، فقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة، ولا كنت فيها راغبا، ولا سألتها الله قط في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة، ولا يدان إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني، فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به، وقال علي بن أبي طالب والزبير بن العوام: ما غضبنا إلا أنا أخرنا عن المشاورة، وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، ثاني اثنين، وإنا لنعرف له شرفه وكبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم بالصلاة للناس وهو حي) [المغازي ص94، المستدرك ج3 ص66، السنن الكبرى ج8 ص152، الاعتقاد ص350].

ورواه أبو بكر الجوهريّ عن عمر بن شبة، عن إبراهيم بن المنذر، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، قال: (غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة، وغضب عليّ والزبير... – إلى أن قال – وقال عليّ والزبير: ما غضبنا إلّا في المشورة، وإنّا لنرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف له سنة، ولقد أمره رسول الله ص بالصلاة بالناس وهو حي) [شرح نهج البلاغة ج2 ص50].

ويلاحظ على هذا الحديث بأمور:

الأوّل: لَـم يرد هذا الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من طرق الشيعة الإماميّة ولا في كتبهم المعتمدة، وإنّما انفرد بنقله بعض المخالفين في مصنّفاتهم، ولا يخفى أنّ مثل هذا الحديث لا يمكن الاحتجاج على الشيعة.

إذن: هذا الحديث غير قابل للاحتجاج به على الشيعة الإماميّة.

الثاني: الحديث يدلّ على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) والزبير بن العوام قالا هذا الكلام: « ما غضبنا إلا أنّا أخرنا عن المشاورة.. » في المسجد أمام الصحابة المجتمعين، وقد وردت أحاديث عديدة في نقل أشياء حصلت آنذاك في تلك الفترة الزمنيّة عن جملة من الصحابة، في حين أنّ هذا الحديث لَـم ينقله أحدٌ من الصحابة، بل لَـم يحفل بنقله جمهور المخالفين، فإنّ أكثر الكتب الحديثيّة والمدوّنات التاريخيّة خالية عن نقله، ولَـم يرد عندهم إلّا من هذين الطريقين.

الثالث: إسناد الحديث ضعيفٌ جداً، ولا يقوم بحجّة:

أمّـا الطريق الأوّل فهو من رواية إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مخبِراً عن الحادثة، لا أنّه يروي الحادثة عن أبيه، وإبراهيم هذا يعدّ في التابعين، فإنّه توفّي سنة (95هـ) أو (96هـ)، وله (75) سنة – كما ذكر المزيّ في [تهذيب الكمال ج2 ص135] وغيره -، فيكون مولده سنة (20هـ) أو (21هـ)، فهو ممّن لم يدرك الحادثة إذ حصلت سنة (11هـ).

وأمّـا ما ذكره بعضهم – من أنّه توفي سنة (76هـ) وله (75) سنة، أو أنّه توفّي سنة (96هـ) وله (95) سنة، فيكون في عداد الصحابة – فهو توهّم ناشٍ عن تقارب رسمي كلمتي (سبعون وتسعون)؛ وذلك أنّ مقتضى ما ذكروه أن يكون مولوداً في السنة الأولى للهجرة، وله عشر سنوات عند شهادة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعند حصول الحادثة المذكورة، في حين أنّه لم يثبت سماعه من النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بل ولا من أبي بكر بن أبي قحافة، وقد ذكر العلماء: أنّ أمَّه وهي أمّ كلثوم بنت عقبة هاجرت من مكّة للمدينة وليس لها زوج، فتزوّجها زيد بن حارثة الذي قُتل يوم مؤتة، ثمّ تزوّجها الزبير بن العوّام وطلّقها، ثمّ تزوّجها عبد الرحمن بن عوف، فهو بلا شكّ مولود بوقت متأخّر بعد السنة الثامنة للهجرة، كما نصَّ الحافظ البخاريّ قائلاً: (وعن يونس عن بن شهاب قال أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن: استسقى بهم النبيّ - صلى الله عليه [وآله] وسلم -، رأى بعضهم في كتابٍ: أنّ النبيّ - صلى الله عليه [وآله] وسلم - استسقى بهم. ولا أراه يصحّ؛ لأنّ أمّ كلثوم زوّجها الوليد يوم الفتح( [التاريخ الأوسط ج1 ص206]، يعني زوّجها أخوها الوليد بن عقبة يوم الفتح أي في السنة الثامنة للهجرة.

فهذا الطريق مرسلٌ، كما نصّ الدكتور محمّد كامل قرة بلي في تحقيقه لكتاب المستدرك للحاكم، وهذا نصّ عبارته: (رجاله ثقات، لكنّه مرسل، إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف تابعيّ كبير، وذكره بعضُهم في الصحابة، لكنّ الأصحّ أنّه تابعيّ، إلّا أنّه مع إرساله يُعدّ من أقوى المراسيل؛ لجلالة إبراهيم) [المستدرك (طبعة الرسالة) ج5 ص398-399 الهامش]. وكذلك الدكتور إبراهيم المديهش، فإنّه نصّ على أنّه أثر مرسل [ينظر فاطمة بنت النبي ج5 ص28].

وبهذا يظهر أنّ تصحيح الحاكم النيسابوريّ للحديث بقوله: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، من تساهله المعروف، وكذلك تصحيح مثل الذهبيّ بقوله: (على شرط البخاريّ ومسلم) فهو من تمشيته وإغضائه الطرف عن علل الحديث فيما يقوّي مذهب السقيفة، فإنّه قال في ترجمة إبراهيم: (توفي سنة ست وتسعين عن سنّ عالية، ويحتمل أنّه ولد في حياة النبيّ) [سير أعلام النبلاء ج4 ص292]، ومقتضى كلامه أنّ ولادته في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) غير ثابتة، وإدراكه للحادثة مميّزاً غير ثابت، فكيف يكون صحيحاً؟ وكيف يكون على شرط البخاريّ وقد تقدّم تصريح البخاريّ بأنّ أمّه تزوّجت يوم الفتح في السنة الثامنة للهجرة؟!

الحاصل: هذا الحديث بطريقيه مرسل، والمرسل من أقسام الحديث الضعيف.

الرابع: متن الحديث منكر، ولا يصحّ نسبته لأمير المؤمنين (عليه السلام) أصلاً؛ وذلك أنّه ليس فيها فقرة تصحّ.

فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ بالنصّ القرآنيّ والنبويّ، بل بايعه المسلمون على ذلك في غدير خمم، فالخلافة ليست إلّا له، وقد صرَّح بذلك مراراً، منها: في الخطبة الشقشقيّة التي في مطلعها: « أما والله، لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليَّ السيل، فسدلتُ دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً، حتّى مضى الأول لسبيله.. » إلى أن يقول: « حتّى إذا مضى [يعني عمر] لسبيله، جعلها في جماعةٍ زعم أنّي أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أُقرَن إلى هذه النظائر.. » [نهج البلاغة ج1 ص30، علل الشرائع ج1 ص150، معاني الأخبار ص360، وغيرها].

وقد وردت رواية صحيحة عند أهل السنّة يصرِّح فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنّه أحقّ من أبي بكر بالخلافة، وهو ما أخرجه البلاذريّ عن روح بن عبد المؤمن، عن أبي عوانة، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة: « أنّ عليّاً أتاهم عائداً، فقال: ما لقي أحد من هذه الأمة ما لقيت، توفي رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - وأنا أحقّ الناس بهذا الأمر، فبايع الناس أبا بكر، فاستخلف عمر، فبايعت ورضيت وسلمت، ثمّ بايع الناس عثمان فبايعت وسلمت ورضيت، وهم الآن يميلون بيني وبين معاوية » [أنساب الأشراف ج2 ص402]، وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله ثقات.

وأخرج هذا الحديث عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه وعبيد الله بن عمر القواريري عن يحيى بن حمّاد عن أبي عوانة، وأخرجه عن إبراهيم بن الحجاج عن أبي عوانة بإسناده نحوه إلّا أنّه استبدلت عبارة: « وأنا أحقّ الناس بهذا الأمر » بعبارة « وذكر كلمة » [ينظر السنة ج2 ص563 ح1315-1316]، وأخرجه الأزديّ عن كثير بن يحيى بن كثير عن أبي عوانة بإسناده بلفظ: « ولي أبو بكر وكنتُ أحقّ الناس بالخلافة » [ميزان الاعتدال ج3 ص410].

وأخرجه البخاريّ عن يحيى بن سليمان عن محمّد بن عميرة عن شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة: « لـمّا قدم عليّ البصرة.. فذكر ما لقي بعد النبيّ - صلى الله عليه [وآله] وسلم -، وقال: توفّي النبيّ - صلى الله عليه [وآله] وسلم -، فظننتُ أنّي، فبويع لأبي بكر، فسمعت وأطعت » [التاريخ الكبير ج1 ص530]، والمراد بـ « فظننتُ أنّي » هو أنّه يرى أحقّيته للخلافة، فظنّ أنّ الناس سيوفون بعهدهم وعقدهم السابق، وهذه العبارة مشوّهة عن عبارة: « وأنا أحقّ الناس بهذا الأمر ». وأخرجه من هذا الطريق عبد الله بن أحمد عن عليّ بن حكيم الأوديّ عن شريك بإسناده ولفظه: « ما زال عليّ - رضي الله عنه - يذكر ما لقي حتّى بكى » [السنة ج2 ص562 ح1314]، يلاحظ أنّ الحديث مختصر، ولم يُذكر تتمّته، والتتمّة من هذا الطريق مذكور بشكل مرموز في رواية البخاريّ المتقدّمة.

إذن: هذا الحديث مرويّ من طريقين: أحدهما: شريك عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة. والآخر: أبو عوانة عن خالد الحذّاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة. ورواه عن أبي عوانة جماعة، وهم: روح بن عبد المؤمن، ويحيى بن حمّاد، وإبراهيم بن الحجّاج، وكثير بن يحيى بن كثير.

وبهذا يظهر أنّ ما ذكره الذهبيّ - في ترجمة كثير بن يحيى، بخصوص هذا الحديث: (قلت: هذا موضوع على أبي عوانة) [ميزان الاعتدال ج3 ص410] - باطلٌ جزماً لوجهين: أحدهما: أنّ الحديث لم ينفرد به كثير بن يحيى بل تابعه عليه روح بن عبد المؤمن ويحيى بن حماد وإبراهيم بن الحجّاج كما تقدّم، وهؤلاء ثقات، والآخر: أنّ كثير بن يحيى بن كثير ليس وضّاعاً وكذّاباً، بل هو صدوق حسن الحديث، قال الذهبيّ: (شيعيّ، نهى عبّاس العنبريّ الناسَ عن الأخذ عنه. وقال الأزديّ: عنده مناكير، ثمّ ساق له عن أبي عوانة – وذكر الحديث السابق -. قلت: هذا موضوع على أبي عوانة) [ميزان الاعتدال ج3 ص410]، وتعقّبه ابن حجر بقوله: (قال أبو حاتم: محلّه الصدق، وكان يتشيّع. وقال أبو زرعة: صدوق. وذكره ابن حِبّان في الثقات. فلعلّ الآفة ممّن بعده) [لسان الميزان ج6 ص415]، فمثل هذا لا يكون وضّاعاً، فإنّ نهي عبّاس العنبريّ غير معلَّل، ويقوى أنّ النهي لتشيّعه كما في مواضع أخرى، وقول الأزديّ بأنّ عنده مناكير، فهو مردود عليه بأنّ كثير من معاصري الأزديّ ضعّفوه هو، وذكروا أنّ عنده غرائب ومناكير، فمَن كان مطعوناً فيه لا يُقبل طعنه في الآخرين، ثمّ مَن مثل أبي حاتم وأبي زرعة في النقد والتعديل؟! ولهذا احتمل ابن حجر بأنّ الآفة في الحديث ليست من كثير، ولكن هذا مردود عليه أيضاً؛ لأنّ الحديث ثابت، ورد من وجوه عديدة كما ذكرنا.

الحاصل: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يرى نفسَه أحقّ بالخلافة من أبي بكر وغيره، وهذا ما صرّح به الشيخ محمّد بن صالح العثيمين بقوله: (لا يمكن أن نخطّئ الصحابة في بيعة أبي بكر، ونصوِّب عليّ بن أبي طالب فيما رأى؛ لأنّ ما رآه عليّ مخالِف لظاهر ما جاءت به السنّة، وهو أنّه أحقّ من أبي بكر وغيره؛ لقرابته من رسول الله) [التعليق على صحيح مسلم ج9 ص80]، وما يهمّنا من كلام العثيمين: إقراره بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يرى نفسَه أحقّ من أبي بكر وغيره، وأمّـا بقيّة كلامه فهو عليل كما هو مبيّن في محلّه.

ولا يخفى أنّه ما دام يرى نفسَه أحقّ بالخلافة من أبي بكر وغيره، لا يعقل أن تصدر منه عبارة: « وإنّا لنرى أبا بكر أحقّ الناس بها بعد رسول الله »، كما في هذا الحديث الموضوع.

وأمّـا أنّ أبا بكر صاحب الغار وثاني اثنين: فهذه ليست فضيلة لأبي بكر – إنْ سلّمنا أنّه صاحب الغار -، فإنّ في الآية تعريضاً وذمّاً له، كما أوضحه الأعلام في محلّه، فما يُنسب للإمام أنّه قال: « إنّه لصاحب الغار ثاني اثنين » لا يصدر على وجه التفضيل، مع أنّه لو كانت فضيلة فهي لا تدلّ على استحقاق الخلافة، فقد نزل في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) وشأنه عشرات الآيات القرآنيّة.

وأمّـا فقرة: « وإنّا لنعرف له شرفه وكبره » فهي واضحة الفساد؛ لأنّ أبا بكر لم يكن ذا حسب شريف ولا نسيب منيف، وقد قال دغفل النسّابة لـمّا سأله معاوية عن تيم – وهي قبيلة أبي بكر -: (أهل فحش فاشٍ، أحلام الفراش، إنْ شبعوا بخلوا، وإن افتقروا ألحّوا » [كامل البهائي ج2 ص40]، وحال أبيه معروف فإنّه كان أجيراً لابن جدعان على مائدته يطرد عنه الذبّان [شرح نهج البلاغة ج3 ص278]، وهناك كلام كثير في حال نسبه وشرفه نطوي عنه كشحاً، فأين هذا عن الشرف؟ بل الشرف كلّ الشرف في بني هاشم في بني عبد المطلب.

وأمّـا فقرة: « ولقد أمره رسول الله بالصلاة للناس وهو حي » فهي كذب؛ لأنّ الثابت أنّ عائشة هي التي أرسلت إلى أبيها أن يصلي بالناس، لا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو الذي أرسل، مع أنّ الصلاة بالناس ليست ذات دلالة على صلاحيّته للخلافة، فإنّ أهل السنّة يرون الصلاة خلف كلّ صالح وفاجر، فلا يشترط عندهم ما يشترط عندنا من التقوى والعدالة، مع أنّ حال إمامة الجماعة ليست كحال خلافة المسلمين، فأين هذا من ذاك؟!

إذن: متن هذا الحديث منكر.

الخامس: في الحديث حجّة على المخالفين؛ وذلك أنّ الرواية تتضمّن في أوّلها أنّ عمر بن الخطّاب وجماعة هجموا على دار السيّدة الزهراء (عليها السلام)، وفي ذيلها حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) والزبير، فإنْ كان المخالفون يقبلون هذا الحديث ويحتجّون به، فينبغي لهم الإقرار بما في صدره من الهجوم على دار الصدّيقة (عليها السلام).

ففي الطريق الأوّل – من رواية موسى بن عقبة – تجد أنّ الحديث يبدأ بهذه الفقرة: (أنّ عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب يومئذٍ، وأنّه هو كسر سيف الزبير..)، فهذه العبارة: (يومئذٍ) يُراد به الحديث عن يوم الهجوم على دار الزهراء (عليها السلام)، فإنّه هناك كُسر سيف الزبير، ومن هناك أُخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) قهراً مكبّلاً للبيعة. وقد نقل الصالحي الشاميّ من هذا الطريق: (وروى ابن عقبة – بإسناد جيد – عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن رجالاً من المهاجرين غضبوا في بيعة أبي بكر، منهم علي والزبير، فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - ومعهما السلاح، فجاءهما عمر بن الخطاب في عصابة من المهاجرين والأنصار، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان وثابت بن قيس بن شماس الخزرجيّ، فكلّموهما حتّى أخذ أحدهم سيف الزبير فضرب به الحجر حتّى كسره، ثمّ قام أبو بكر فخطب الناس، واعتذر إليهم، وقال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً قطّ...) [سبل الهدى والرشاد ج12 ص317].

وفي الطريق الثاني – من رواية أبي بكر الجوهريّ – تجد أنّ الحديث يبدأ بهذه الفقرة: (غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة، وغضب علي والزبير، فدخلا بيت فاطمة - عليها السلام -، معهما السلاح، فجاء عمر في عصابةٍ، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش، وهما من بني عبد الأشهل، فصاحت فاطمة – عليها السلام -، وناشدتهم الله، فأخذوا سيفي عليّ والزبير، فضربوا بهما الجدار حتّى كسروهما، ثمّ أخرجهما عمر يسوقهما حتّى بايعا، ثمّ قام أبو بكر فخطب الناس، واعتذر إليهم، وقال: إنّ بيعتي كانت فلتة وقى الله شرّها، وخشيت الفتنة، وأيم الله ما حرصت عليها يوماً قط...) [شرح نهج البلاغة ج2 ص50].

إذن: هذه الرواية حجّة على المخالفين في شطرٍ منها، وذلك أنّها تضمّنت هجوم عمر بن الخطّاب في عصابةٍ على دار السيّدة الزهراء (عليها السلام)، فإنْ كانوا يستدلّون بها على الشيعة – وهو استدلالٌ باطلٌ كما ذكرنا – فهم يرونها حجّة، فلابدّ لهم من الإقرار بوقوع الهجوم على دار الزهراء (عليها السلام)، وأنّى لهم الالتزام بهذا اللازم؟!

ولعلمائنا الأبرار (قدست أسرارهم) كلمات في نقد هذا الحديث يمكن مراجعتها، ينظر: الغدير ج5 ص356، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج33 ص284، الصحيح من سيرة الإمام علي ج9 ص145، المحسن السبط مولود أم سقط ص454، وغيرها.

والحمد لله رب العالمين