أبو طالب في ضحضاحٍ من نار؟!!؟
السؤال: كيف نتعامل مع أحاديث شيعية وسندها ذهبي كما يقال، تثبت عقيدة سنيّة ومخالفة لما عليه مشهور الإماميّة، كهذه الرواية التي تثبت أنّ أبا طالب في النار؟ (باب استحباب إطعام الطعام) [8159] 1 - الجعفريات: أخبرنا محمد بن محمد، قال: حدثني موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ أهون أهل النار عذاباً عمّي، أخرجه من أصل الجحيم حتى بلغ الضحضاح، عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، وابن جدعان، فقيل: يا رسول الله، وما بال ابن جدعان أهون أهل النار عذابا بعد عمك؟ قال: إنه كان يطعم الطعام. [مستدرك الوسائل ج٧ ص ٢٤٧].
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا يخفى أنّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أنّ أبا طالب (عليه السلام) من أكابر المسلمين وأعاظم الموحّدين، أخفى إيمانه للدفاع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما أخفى أصحاب الكهف إيمانهم فآتاهم الله أجرهم مرّتين. وقد أشاع الأمويّون – بغضاً بأمير المؤمنين (عليه السلام) - أنّ أبا طالب (عليه السلام) مات مشركاً ولَـم يُسلِم، وكيف يكون مشركاً وهو المدافع الأوّل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! وقد كتب جماعة كبيرة من العلماء والباحثين كتباً ورسائل تثبت إيمان أبي طالب، فمَن أراد التفصيل فيمكنه مراجعتها.
وأمّـا هذا الحديث الوارد في كتاب (الجعفريّات) فهو – مع عدم ثبوت اعتباره ولا ظهوره – لا يقاوم الإجماع والتسالم في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على إسلام أبي طالب وإيمانه بل علوّ شأنه، وبيان ذلك في أمور:
الأوّل: الحديث لَـم يثبت اعتباره:
الحديث مخرَّج في الكتاب المعروف بـ [الجعفريّات (الأشعثيّات) ج2 ص132-133]، وهذا الكتاب يتضمّن أحاديث كثيرة، جميعها مرويّة من طريق محمّد بن محمّد بن الأشعثّ، عن موسى بن إسماعيل بن موسى الكاظم (عليه السلام)، عن أبيه إسماعيل، عن جدّه (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام).
ويروي الكتاب عن ابن الأشعث جماعةٌ، منهم: عبد الله بن محمّد المعروف بابن السقّاء، والنسخة المتداولة من الكتاب من روايته، ومنهم: سهل بن أحمد الديباجيّ، ومن طريقه خرّجه فضل الله الراونديّ في [النوادر ص106].
وهذا الكتاب لَـم يثبت اعتباره عند الإماميّة بشكل واضح؛ فإنّ العلماء منذ قرون مختلفون في شأنه ومدى اعتباره، ففي حين ذهب جماعة من العلماء إلى اعتبار الكتاب، ذهب آخرون إلى عدم اعتباره، والوجه في ذلك أمورٌ:
منها: أنّ موسى بن إسماعيل وأباه – الراويين للأحاديث - لَـم تثبت وثاقتهما بشكل واضح.
ومنها: أنّ المنقول في كلمات الخاصّة والعامّة أنّ الكتاب فيه ألف حديث، في حين أنّ النسخة المتداولة تتضمّن أكثر من ألف وستمائة حديث.
ومنها: أنّ فيه أحاديث مخالفة لِـما هو المعلوم من مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، كهذا الحديث – لو سُلِّمت دلالته -، وكتصحيح الحلف بالطلاق، وصحّة الطلاق الثلاث، وأنّ مدّة النفاس أربعون يوماً، والترخيص في الغناء وضرب الطبول، وأنّ المصّة الواحدة تعدّ من الرضاع المحرّم، وغير ذلك، حتّى قال المحقّق الجواهريّ – في جملة كلامٍ له حول الكتاب -: (ومع ذلك، فإنّ تتبّعه وتتبّع كتب الأصول يعطيان أنّه ليس جارياً على منوالها، فإنّ أكثرَه بخلافها، وإنّما تطابق روايته في الأكثريّة رواية العامّة) [جواهر الكلام ج21 ص398].
فالذي نريد أن نقوله: إنّ الكتاب لَـم يثبت اعتباره بشكل واضح، بل فيه خلافٌ كبير بين العلماء والمحقّقين، ولا يخفى أنّ ما يكون هذا حاله من الكتاب لا يمكن الاحتجاج بمثله على مذهب التشيّع.
الثاني: دلالة الحديث غير واضحة:
لفظ الحديث: « إنّ أهون أهل النار عذاباً عمّي، أخرجه من أصل الجحيم حتّى بلغ الضحضاح، عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه »، وهو – كما ترى – لَـم يصرّح باسم عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فيحتمل أن يكون المراد بهذا الحديث هو عمّه أبو لهب لا أبو طالب.
وقد نبّه على ذلك جماعةٌ، منهم: ناسخ نسخة الجعفريّات المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى، المستنسخة عن نسخة كُتبت في سنة 514هـ، جاء في حاشية النسخة: (لعلّه يعني أبا لهب؛ حرمةً لرسول الله (ص)، وأمّـا حمله على أبي طالب فهو مذهب العامّة، وليس بمذهب الشيعة، فإنّه (ع) عندهم من أكابر سادات الموحّدين المؤمنين برسول الله (ص)، كما تدلّ عليه الأخبار الكثيرة، بل هو من أوصياء عيسى (ع) أيضاً، وعلى هذا فهو محمول على التقيّة، فتأمّل).
إذن: لَـم يثبت بشكل واضح – من أحاديث الشيعة – أنّ الحديث في أبي طالب؛ إذْ يحتمل أن يكون المراد أبا لهب، ومع ورود الاحتمال لا يمكن الاحتجاج بمثله على الشيعة.
الثالث: مضمون الحديث منصوص على بطلانه:
إنّ أصل هذا الحديث – وهو حديث الضحضاح – مشهور معروف عند العامّة، وقد عرضه قدماء أصحابنا على الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وسألوهم عن مدى صحّته واعتباره، فأجابوهم ببطلان مضمون هذا الحديث، وأنّه كذب غير مطابق للواقع، بل ربّما بادر الإمام (عليه السلام) للسؤال ممّن حضره – لإزالة شبهةٍ وبيان مكرمة – عمّا ترويه العامّة في أبي طالب، فيذكرون هذا الحديث، فيبيّن الإمام بأنّه حديث مكذوبٌ، وأنّ إيمان أبي طالب أرسخ من إيمان الخلائق، وأنّ منزلته بغاية الرفعة والجلالة.
فهذا الحديث – حسب استقرائنا – قد عُرض على ثلاثة بل أربعة من المعصومين (عليهم السلام)، وأوّل مَن عُرض عليه هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا يشير إلى أنّ الشبهة تداولتها الأفواه منذ ذلك الزمان.
ولنذكر في المقام ما عثرنا عليه من أحاديث معصوميّة تنصّ على بطلان حديث الضحضاح:
1ـ حديث أمير المؤمنين (عليه السلام):
روى المشايخ الأجلّاء ابن شاذان والكراجكيّ والطوسيّ والطبريّ وفخار الموسويّ وغيرهم بأسانيدهم عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) قال: « كان جالساً في الرحبة والناس حوله، فقام إليه رجلٌ فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّك بالمكان الذي أنزلك الله وأبوك معذَّب في النار، فقال له: مه فضّ الله فاك، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله، أبي معذّب في النار وابنه قسيم الجنّة والنار؟! والذي بعث محمّداً بالحقّ، إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق إلّا خمسة أنوار: نور محمّد، ونوري، ونور فاطمة، ونور الحسن والحسين، ونور ولده من الأئمّة، إنّ نوره من نورنا، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام » [مائة منقبة ص174، كنز الفوائد ص80، الأمالي ص305 وص702، بشارة المصطفى ص311، الحجة على الذاهب ص71].
2ـ حديث الإمام الباقر (عليه السلام):
روى فخار الموسويّ بالإسناد عن أبي بصير ليث المراديّ، قال: « قلت لأبي جعفر (عليه السلام): سيّدي، إنّ الناس يقولون: إنّ أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، قال (عليه السلام): كذبوا والله إنّ إيمان أبي طالب لو وُضع في كفّة ميزان وإيمان هذا الخلق في كفّة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم. ثمّ قال: كان - والله - أمير المؤمنين يأمر أن يحجّ عن أبي النبيّ وأمّه، وعن أبي طالب في حياته، ولقد أوصى في وصيّته بالحجّ عنهم بعد مماته » [الحجة على الذاهب ص85].
ونقله ابن أبي الحديد المعتزليّ عن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً [شرح نهج البلاغة ج14 ص68].
3ـ حديث الإمام الصادق (عليه السلام):
روى الكراجكيّ وفخار الموسويّ بالإسناد عن يونس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: « يا يونس، ما يقول الناس في إيمان أبي طالب؟ قلت: جعلت فداك، يقولون: هو في ضحضاح من نار يغلي منها أمّ رأسه، فقال: كذب أعداء الله، إنّ أبا طالب من رفقاء النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً » [كنز الفوائد ص80، الحجة على الذاهب ص83].
وروى فخار الموسويّ بالإسناد عن عبد الرحمن بن كثير، قال: « قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ الناس يزعمون أنّ أبا طالب في ضحضاح من نار، فقال: كذبوا، ما بهذا نزل جبرئيل على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، قلت: وبما نزل؟ قال: أتى جبرئيل في بعض ما كان عليه فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول لك: إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرّتين، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك، فأتاه الله أجره مرّتين، وما خرج من الدنيا حتّى أتته البشارة من الله تعالى بالجنّة، ثم قال (عليه السلام): كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب فقال: يا محمّد، اخرج عن مكّة، فما لك بها ناصر بعد أبي طالب » [الحجة على الذاهب ص83].
4ـ حديث الإمام الرضا (عليه السلام):
روى فخار الموسويّ بالإسناد عن الصدوق بإسناده « أنّ عبد العظيم بن عبد الله العلويّ – المدفون بالريّ - كان مريضاً، فكتب إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): عرّفني - يا ابن رسول الله - عن الخبر المرويّ أنّ أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، فكتب إليه الرضا (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّك إنْ شككتَ في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار » [الحجة على الذاهب ص82].
5ـ حديث الإمام الهادي (عليه السلام):
روى الخصيبيّ عن عليّ بن عبيد الله الحسينيّ قال: « ركبنا مع سيّدنا أبي الحسن (عليه السلام) إلى دار المتوكّل في يوم السلام، فسلّم سيّدنا أبو الحسن (عليه السلام) وأراد أن ينهض، فقال له المتوكّل: اجلس يا أبا الحسن، إنّي أريد أن أسألك، فقال له (عليه السلام): سل... قال: يا أبا الحسن، ما رواه الناس أنّ أبا طالب يوقف إذا حوسب الخلائق بين الجنّة والنار، وفي رجله نعلان من نار، يغلى منهما دماغه، لا يدخل الجنّة لكفره، ولا يدخل النار لكفالته رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصدّه قريشاً عنه، وأيسر على يده حتّى ظهر أمره؟ قال له أبو الحسن (عليه السلام): ويحك، لو وضع إيمان أبى طالب في كفّة ووضع إيمان الخلائق في الكفّة الأخرى لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم جميعاً... – إلى أن قال (عليه السلام) - فكان والله أمير المؤمنين (عليه السلام) يحجّ عن أبيه وأمّه وعن أب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى قضى، ووصّى الحسن والحسين (عليهما السلام) بمثل ذلك، وكلّ إمام منّا يفعل ذلك إلى أن يظهر الله أمره » [الهداية الكبرى ص65].
فهذه مجموعة أحاديث معصوميّة تنصّ على أنّ حديث الضحضاح مكذوبٌ باطلٌ.
ولعلمائنا الأبرار بيانات وتحقيقات في إثبات بطلان الحديث وعدم صحّته، فمَن شاء التفصيل فيمكنه مراجعة: الحجة على الذاهب للسيّد فخار الموسويّ ص85، الغدير للعلّامة أمينيّ ج8 ص23، أبو طالب مؤمن قريش للشيخ الخنيزيّ، ظلامة أبي طالب للسيّد العامليّ ص105، وغيرها.
الرابع: الحديث مخالف لمذهب أهل البيت (ع):
لو تنزّلنا عن كلّ ما سبق – وقلنا بصحّة إسناد الحديث، وتماميّة دلالته، وعدم ورود التكذيب له على لسان المعصومين (عليهم السلام) – فنقول:
إنّ هذا الحديث معارَض بتسالم مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على أنّ أبا طالب من المؤمنين، بل من أعظم الشخصيّات الإسلاميّة، وهذا التسالم مستندٌ لأدلّة كثيرة ووفيرة منثورة في الكتب الحديثيّة والكلاميّة وغيرها، يجدها الباحث في المصنّفات المعمولة لإثبات إيمانه (عليه السلام)، وقد كتبنا بعضَ الأجوبة في ذلك.
فهذا الحديث – وهو خبر الجعفريّات – خبر واحد، وغاية ما يفيده هو الظنّ، في حين أنّ الأدلّة على إيمان أبي طالب (عليه السلام) كثيرة مستفيضة توجب العلم بإيمانه وجلالة شأنه، ولا يخفى أنّه لا تكافؤ بينهما.
فحينئذٍ، لو سلّمنا صدور الحديث فهو – بلا شكّ – مخدوش الجهة، أي نحرز عدم كونه في مقام بيان المراد الجدّي الحقيقيّ، بل في مقام التقيّة ونحو ذلك، سيّما مع ملاحظة ما ذكرناه في الأمر الثالث من الأحاديث المعصوميّة التي تنصّ على بطلان معنى هذا الحديث، فلو افترضنا صدور هذا الحديث عن الإمام (عليه السلام) فلا محالة أنّه صادرٌ على نحو التقيّة.
الحاصل: هذا الحديث غير ثابت الصدور، ولا تامّ الدلالة، وقد وردت أحاديث عديدة عن المعصومين (عليهم السلام) في كذبه وبطلانه، كما أنّه معارَض بالروايات المستفيضة بل المتواترة وإجماع أهل البيت (عليهم السلام) على إيمان أبي طالب (عليه السلام)، فلابدّ – لو سلّمنا صدور الحديث ودلالته – من حمله على التقيّة.
اترك تعليق