هل أبو بكر كان مؤهّلاً للقيادة والإدارة، فلذا تمّ تقديمه؟
السؤال: كبار المهاجرين والأنصار الذين عاشوا في حياة الرسول (ص) يدركون جيّداً فرق الإمكانيّات القياديّة والإداريّة بين عليّ وأبي بكر، لذلك دعموا وساندوا أبي بكر بأغلبية مطلقة الذي أثبت جدارة قياديّة منقطعة النظير ، حينما فرض هيبة الدولة داخليّاً وخارجيّاً بظرف سنتين فقط، أما عليّ فمعلوم للجميع محدوديّة إمكانيّاته وبالتجربة العمليّة!
الجواب:
أوّلاً: لا ندري على أيّ شيء استند في هذه الدعوة التي تخالف حقائق التاريخ، فمسار الأحداث بعد وفاة رسول الله (ص) يكشف عن اختلاف وتنازع بين المهاجرين والأنصار حول موضوع الخلافة، وقد أشرنا إلى ذلك في بعض الأجوبة السابقة.
ثانياً: ولا ندري أيضاً كيف اكتشف المهاجرون والأنصار الإمكانات الاداريّة لأبي بكر، ولم يكن له أيّ دور قياديٍّ أو إداريٍّ في حياة رسول الله (ص)؟ فلم يروِ لنا التاريخ أنّ رسول الله (ص) ولّاه قيادة جيش أو سريّة، أو أرسله مبعوثاً خاصّاً له في أيّ مهمّة، أو كلّفه بإدارة مدينة أو قرية، أو عيّنه مسؤولاً على جماعة أو على بيت المال، أو غير ذلك من المسؤوليّات التي تكشف عن مؤهّلاته القياديّة والإداريّة، وفي المقابل نجد رسول الله(ص) كان يعتمد في كلّ شؤونه على الإمام عليّ (ع)، ليس في الحروب وفضّ النزاعات، وإنّما حتّى في شؤون الحكم والإدارة، فكان يخلفه في المدينة إذا غاب عنها ويرسله إلى الحواضر البعيدة كاليمن، والتاريخ زاخر بالأخبار والقصص في هذا الشأن، فكيف بعد ذلك يدّعي هذا المدّعي أنّ المهاجرين والأنصار كانوا يدركون فارق الإمكانات القياديّة والإداريّة بين الإمام عليّ (ع) وأبي بكر؟
ثالثاً: حسم رسول الله (ص) أمر الخلافة من بعده بتعيين أمير المؤمنين والأئمّة الطاهرين من أهل بيته (عليهم السلام)، ولم يترك الأمر لأمزجة الناس ورغباتهم، والنصوص في ذلك كثيرة تناولتها عشرات الكتب التي أقامت الحجّة على كلّ مخالف بعشرات البراهين الدامغة، وقد أشرنا إلى بعضها في أجوبة سابقة، فمن أراد التفصيل في ذلك، فيمكنه الرجوع إلى كتاب الغدير للعلّامة الأمينيّ، وكتاب المراجعات لشرف الدين الموسويّ وكتاب معالم المدرستين لمرتضى العسكريّ وعشرات الكتب الأخرى.
رابعاً: من حارب أمير المؤمنين (ع) وتمرّد عليه حتّى في أيّام خلافته في الجمل وصِفّين هي قريش، كما حاربت من قبل رسول الله (ص) في أوّل الدعوة، وبعد أن فُتحت مكّة وسلّمت قريش، سلّمت له بقيّة القبائل، ولم تُسلّم قريش إلّا بعد جهد وجهاد، وكان ذلك بجهاد أمير المؤمنين (ع) الذي أذلّ أنوفهم وكسر جبروتهم وجندل أبطالهم فأودعوا في قلوبهم أحقاداً بدريّةً وحنينيّة، فأضبّت على عداوته وأكبّت على منابذته، ولذا أستُبعِد من السقيفة، وسارعوا إليها وهو مشغول بتجهيز ودفن رسول الله (ص)، وبعد أن اجتمع عليه الناس من كلّ صوب يبايعونه بالخلافة بعد مقتل عثمان، لم يستتبّ له الوضع، وخرجت عليه قريش مرّة بقيادة عائشة بنت أبي بكر كما في الجمل، ومرّة بزعامة بني أميّة فكانت صفّين، ثمّ لاحقت قريش ذرّيّته وولده وقتلتهم تارة بالسمّ والغدر وتارة بالسيف كما هو حال الحسين (ع) في كربلاء، ومن هنا نفهم خروج أمير المؤمنين (ع) إلى الكوفة وتركه مكّة والمدينة، كما نفهم وجود الشيعة في العراق واليمن والكثير من الموالي والعجم، أمّا قريش فلم تشايعه ولم تعترف بحقّه ونابذته ولم يبق له منهم إلّا القلّة، ولذا كان يقول عليه السلام: اللهم فاجز ِقريشاً عنّي الجوازي فقد قطعت رحمي، وتظاهرت عليَّ، ودفعتني عن حقّي، وسلبتني سلطان ابن عمّي، وسلّمت ذلك إلى مَنْ ليس مثلي في قرابتي من الرسول (ص)، وسابقتي في الإسلام إلّا أن يدّعي مدّعٍ ما لا أعرفه، ولا أظنّ الله يعرفه، والحمد لله على كلّ حال. [شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2 ص119].
وقوله عليه السلام في خطبته عند مسيره إلى البصرة: إنَّ الله لما قبض نبيّه، استأثرتْ علينا قريش بالأمر، ودفعتْنَا عن حقٍّ نحن أحقُّ به من الناس كافّة، فرأيت إنَّ الصّبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسَفْكِ دمائهم، والناس حديثُوا عهد بالإسلام، والدين يُمخَضُ مَخْضَ الوطْب، يُفسِدُه أدْنى وَهن، ويعكسه أقلّ خُلف، فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهاداً، ثمّ انتقلوا إلى دار الجزاء، والله وليُّ تمحيص سيّئاتهم، والعفو عن هفواتهم... الخ. [شرح النهج ج 1، ص308].
فلو سَلِمّ الإمام عليّ عليه السلام من قريش- ولم يسلم- لمَا بقى له معارض، ولو تولّى الخلافة بعد رسول الله (ص) لخضعت له العرب وما تمرّدت عليه القبائل، وذلك لفضله وعلوّ قدره وسابق عهده وقربه من رسول الله (ص)، وما كان له في غدير خمّ من الوصيّة، لكنّه لم يَسْلَمْ من قريش ونافسوه في حقّه وأبعدوه عن منصبه، وعندما رأت قبائل العرب نكران قريش حقّ أمير المؤمنين (ع) وهي عشيرته وقبيلته طمعوا في الأمر لأنفسهم.
خامساً: كان هناك معارضة من بعض رموز الصحابة لخلافة أبي بكر، وقد ذكرت المصادر التأريخيّة أنَّ سعد بن عبادة والحباب بن المنذر ليسا وحدهما من تخلّف وامتنع عن مبايعة أبي بكر، وإنَّما هناك آخرون من أمثال المقداد والزبير وطلحة، ولمّا سمع الفضل بن العبّاس بتنصيب أبي بكر للخلافة قال: يا معشر قريش إنَّه ماحقّت لكم الخلافة بالتمويه ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولى بها منكم. [تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 103]. وقد كان من المعارضين أيضاً سلمان الفارسيّ، إذْ قال بعد تنصيب الخليفة الأوّل: ".. أخطأتم أهل بيت نبيّكم, لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان ولأكلتموها رغداً"، وكذلك قال: لو بايعوا عليّاً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. [أنساب الاشراف للبلاذريّ: ج 1 ص 591].
وقال مثل مقالته أبو ذرٍّ في عهد عثمان بن عفان: وعليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد ووارث علمه. أيّتها الأُمّة المتحيّرة بعد نبيّها أمَا لو قدّمتم من قدّم الله، وأَخَّرْتُم من أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولمَا عال وليُّ الله ولا طاش سهمٌ من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلّا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسُنَّة نبيّه. فأمّا إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون. [تاريخ اليعقوبي: ج1 ص 173].
وكان من المواقف الصريحة اتّجاه خلافة أبي بكر هو موقف خالد بن سعيد بن العاص بن أميّة بن عبد شمس، كان عاملاً لرسول الله (ص) على صنعاء اليمن، فلمّا مات رسول الله (ص) رجع هو وأخواه أبان وعمر عن عمالتهم، فقال أبو بكر: ما لكم رجعتم عن عمالتكم؟ ما أحد أحقّ بالعمل من عُمّال رسول الله (ص)، ارجعوا إلى أعمالكم. فقالوا: نحن بنو اُحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول الله. [الاستيعاب لابن عبد البرّ: ج 1 ص 398]. وذهب خالد الى عليّ بن أبي طالب (ع) فقال له هَلُمَّ اُبايعك، فو الله ما في الناس أحد أولى بمقام محمّد منك. [تاريخ اليعقوبيّ: ج2 ص105].
ولم تكن المعارضة خاصّة فقط ببني هاشم ومن شايعهم، وإنَّما حتّى أبو سفيان حاول التصيّد في الماء العكر، وعمل على تأليب الناس على الخليفة لحاجة في نفسه، فأخذ يطوف وينشد:
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ولا سيّما تيم بن مرّة أو عديّ
فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم وليس لها إلاّ أبو حسن عليّ. [العقد الفريد: ج3 ص 62].
وأخذ أبو سفيان يتوعّد أبابكر: ما بال هذا الأمر في أقلّ حيٍّ من قريش؟! والله لئن شئت لأملأنّها عليه خيلاً ورجالاً... والله إنّي لأرى عجاجة لا يطفؤها إلاّ دم! يا آل عبد مناف فيمَ أبو بكر من أموركم؟! أين المستضعفان، أين الأذلّان عليٌّ والعباس؟!. [تاريخ الطبري: ج2 ص449].
فقال عمر لأبي بكر: إنَّ هذا [يعني أبا سفيان] قد قدم وهو فاعلٌ شرّاً، وقد كان النبيّ يستألفه على الإسلام فدع له ما بيده من الصدقة، ففعل، فرضي أبو سفيان وبايعه. [العقد الفريد: ج 3 ص 62].
ثمّ عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان على بلاد الشام حاكماً، فقال له أبو سفيان: وصلته رحم، وعيّن ابنه الآخر عنبسة بن أبي سفيان والياً على الطائف. [تاريخ الطبريّ: ج 2, ص 449].
وفي عهد الخليفة الثاني عيّن عمر بن الخطّاب معاوية بن أبي سفيان حاكماً على الشام بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان، ويتّضح من الأمر أنَّ المقصود كان هو ترضية أبي سفيان لإسكاته، فتركوا ما في يديه من الصدقة، وعيّنوا أولاده في مناصب مهمّة في الدولة، وتلك كانت بداية تغلغل بني أميّة في الحكم.
سادساً: كشف التاريخ عن معارضة واسعة من القبائل على خلافة أبي بكر، وما يسمّى بحروب الردّة ليس إلّا تعمية وتضليل عن اعتراض القبائل على خلافة أبي بكر، ولا يخفى على الذي يرصد الأحداث التأريخيّة سبب هذه التسمية، فتحويل الحراك السياسيّ المعارض إلى ردّة على الدين يُسَـهِّلُ المهمّة أمام السلطة لتصفية الخصوم، وهذا ما جرت عليه سنّة كلّ الأنظمة الإسلاميّة التي حكمت في طول التاريخ، فالثورات التي وقفت في وجه الأمويّين والعباسيّين كُفِّرتْ، وأُخرِجتْ من الدين ثمّ صُفّيتْ، حتّى الحسين بن عليّ (ع) قيل في حقّه خرج على دين جدّه، فقتل بسيف جدّه، وبهذه الكيفيّة بُرّرت أكثر المجازر والتجاوزات التي حدثت في التأريخ، وهكذا وصفت حركة المعارضة على أبي بكر بالردّة من هذا الباب، وهو ملاحقتها دينيّاً من أجل حصرها وتحجيمها ومن ثمَّ رميها في دائرة الخروج على إرادة الله وسلطانه، وبذلك تحقّق السلطة التبرير الثقافيّ الذي يسمح لها بتصفيتها عسكريّاً وليس فكريّاً وحواريّاً، وهذا ما حدث لمّا عاجلت مالك بن نويرة وعشيرته بالقتل قبل أن يُشهروا سيفاً واحداً في وجه السلطة، بل قتلوا غيلة وصبراً، ومن هنا نفهم حرص الدولة ومدى العجلة التي كانت تحرّكها لضرب المتمرّدين، ولا يمكن أنْ نتصور أنَّ سبب هذا الإصرار والتصميم على الحرب كان بدافع دينيّ محض؛ لأنَّ الدين لم يقض بقتل مانعي الزكاة في أيّ حكم من أحكامه، فبالإمكان إرسال كبار الصحابة لاستيضاح الأمر ومحاججتهم إن كان لهم حجّة في منع الزكاة، وهذا ما كان يتوقّعه أصحاب مالك بن نويرة وبعض مانعي الزكاة، فلم يُجهّزوا أنفسهم لقتال جيش الخليفة، ولم يبدأوا بالزحف نحوه، ولكنّهم تفاجأوا بانقضاض الجيش عليهم بعد أن سلّموا أسلحتهم، فقتلوهم وهم أسرى بين يديهم، ثمّ انتقموا منهم من دون أيّ مبرّر شرعيّ بأن قطّعوا رؤوسهم وجعلوا منها أثافي لقدورهم، وهذا أمر لا يمكن تفهّمه ولا يمكن إيجاد المبرّرات الكافية له، ولذا نجد أنَّ مدرسة الخلافة صوّرت ذلك في إطار حرص الخليفة على الإسلام، ونسجت حول ذلك فضائل وبطولات، وحوّلت كلّ ذلك إلى منقبة من مناقبه، وإنجاز من أهم إنجازاته، ولو لا الخوف من الإطالة في ذلك، لذكرنا الكثير من الوثائق التأريخيّة، ولفصّلنا الحديث حول ما يسمّى بحروب الردّة، وفي ما ذكرناه من إشارة كافٍ لكلٍّ لبيب يرجو الحقيقة، ولا تخدعه الدعاية.
اترك تعليق