هل حرص الصحابة لدينهم هو الذي جعلهم يبايعون أبأ بكر بالخلافة؟

‏السؤال: لو كان لبني هاشم حقٌّ خاصّ بالخلافة لمَا تجاوزهم الصحابة ولما خرجت الخلافة منهم إلى غيرهم، فالصحابة أعرف الناس بالدين وأكثرهم التزاماً به، ومع ذلك لم يعطوها لعليّ، ولا للعبّاس، لأنّه باختصار لم يكن يوجد عندهم أسطورة اسمها (آل البيت) !!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

يمكن الإجابة علن هذا الكلام بعدّة وجوه، ويمكن الاستدلال على إمامة أهل البيت بالنصوص القرآنيّة والروائيّة، ولأنّ صاحب الإشكال اعتمد في دعواه على النظرة المثاليّة للصحابة ومدى حرصهم على الإسلام، سنكتفي في الاجابة بتفنيد تلك النظرة المخالفة لطبيعة البشر والمخالفة لأحداث التاريخ، ولا نحتاج إلى أكثر من مشهد واحد من مشاهد التاريخ لنبدّد تلكم المزاعم، فيكفي فقط الوقوف على ما جرى في سقيفة بني ساعدة بوصفها أوّل حدث سياسيّ بعد وفاة رسول الله (ص)، لينكشف لكلّ صاحب عقل كيف تعامل الصحابة مع موضوع الخلافة بعد رسول الله (ص).

ونرجو من القارئ أن يسامحنا إذا أسهبنا في هذه الاجابة، مع أنّنا عملنا كلّ جهدنا على اختصار الكثير من الأحداث التي تؤكّد الرؤية الشيعيّة في موضوع الخلافة.

فبعد وفاة رسول الله (ص) سارع الأنصار للاجتماع خارج المنطقة السكنيّة للمدينة المنوّرة واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة- وهي مظلّة مصنوعة من جريد النخيل يستظلّ بها الزرّاع والرعاة عندما يخرجون لزرعهم ورعيهم خارج المدينة-، وهو ممّا يدعونا للتساؤل عن اختيار هذا المكان البعيد عن أعين الناس في حين أنَّ المسجد النبويّ يعدُّ المكان المناسب لمثل هذه الاجتماعات، كما أنَّ السقيفة مهما اتّسعت لا تتّسع لأعداد كبيرة؛ لأنّها غير معدّة لمثل هذا الحدث الجلل، وهو ممّا يعني أنَّ وقوعها كان معدّاً له سلفاً وقد تمّ اختيار الحضور بعناية ولم يترك الأمر للصدفة ولم يفتح الباب لجميع الأنصار، وهو ممّا يؤكّد أنَّ الزعامة السياسيّة بعد رسول الله (ص) كانت تمثّل هاجس عند زعماء الأنصار، وهو ممّا جعل كبراؤهم يبادرون لهذا الاجتماع ورسول الله (ص) مسجّى لم يدفن بعد، واختيار هذا الزمان وهو يوم وفاة رسول الله(ص) الذي يمثّل الحدث العظيم الذي من المفترض أن يهزّ كيان المجتمع، يؤكّد وجود نيّة مُبيّتة تعمل على اغتنام الفرصة وإبعاد المهاجرين عن المنافسة.

وإذا اكتملت فصول هذا الانقلاب على المهاجرين، لتغيّر مسار الرسالة وكان المسلمون اليوم يمجّدون سعد بن عبادة ومن بعده الحباب بن المنذر وبشير بن سعد وغيرهم من الأنصار بوصفهم خلفاء رسول الله (ص)، وهو ممّا يؤكّد أنَّ ما عليه المسلمون اليوم من اعتقاد في الخلفاء ليس أكثر من نتاج لفشل محاولة الأنصار الانقلابيّة من أجل زعامة المسلمين.

ولكن لم تجرِ الرياح بما تشتهي الأنصار ، فسرعان ما اكتشف أبو بكر وعمر أمرهم وأخبروا معهم أبو عبيدة بن الجرّاح. وكيف اكتشف هؤلاء أمرهم دون غيرهم لا نعلم؟ ومن المفترض كما يتصوّر صاحب الإشكال أنّ هؤلاء أقرب الناس للرسول (ص) وأشدّهم التصاقاً به، فكيف جاز لهم مفارقته وهو قد فارق الدنيا لتوّه، وقد انقلب الوضع في المدينة رأس على عقب بين باكٍ ومفجوع ومصدوم وقد اجتمع الناس حول دراه الشريف، فكلّ الظروف تحكم بنجاح اجتماع الأنصار واستحالة كشفه حتّى من الرعاة والزرّاع خارج المدينة، ناهيك بأن يكشف أمره أبو بكر وعمر، وهو ممّا يقودنا الى وضع عشرات من الأسئلة والاستنتاجات التي لها علاقة بمطامع البعض بخلافة رسول الله (ص)، فقد كان الجميع يتوقّع وفاة رسول الله (ص) وكانوا يتطلّعون جميعاً لخلافته، ولو لم يحسّ الأنصار بطمع المهاجرين في الخلافة لما بادروا للاجتماع سرّاً للوقوف ضدّ مطامعهم، وما جرى في السقيفة من حوار صاخب يؤكّد تلك المطامع.

وقد فصّل الطبريّ في تاريخه ما جرى في سقيفة بني ساعدة، ونحن هنا ننقل منه مختصراً مع بعض التحليل. ولمن أراد المراجعة فهذا هو المصدر: (تاريخ الطبري: ج2، ص455 ـ ص،460 مطبعة الاستقلال بالقاهرة سنة 1358 هـ ـ 1939م)

إذْ خطب سعد بن عبادة في المجتمعين في السقيفة قائلاً: «يا معشر الأنصار إنَّ لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إنَّ رسول الله (ص) لبث في قومه [قريش] بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلّا قليل؛ والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله (ص)، ولا يعرفوا دينه، ولا يدفعوا عن أنفسهم، حتّى أراد الله تعالى لكم الفضيلة، وساق اليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله (ص)، والمنع له ولأصحابه والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على من تخلّف منكم، وأثقله على عدوّكم من غيركم، حتّى استقاموا لأمر الله تعالى طوعاً وكرهاً، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داحراً حتّى أثخن الله تعالى لنبيّه بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفّاه الله وهو راض عنكم قرير العين، فشدّوا أيديكم بهذا الأمر [الخلافة/الحكم]، فإنَّكم أحقّ الناس وأولاهم به».

فكان جواب الأنصار: «إن قد وفّقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت توليتك هذا الأمر».

وبذلك استقرّ رأي الأوس والخزرج على تولية سعد بن عبادة زعيم الخزرج.

لكن ما إن بلغ إلى علم أبي بكر ما يدور في سقيفة بني ساعدة، حتّى قام ومعه عمر بن الخطّاب فخرجا مسرعين إلى السقيفة وأخذا معهما أبو عبيدة بن الجراح، فما إن دخلوا عليهم قام أبو بكر مخاطباً الأنصار بغرض إقناعهم بالعدول عمّا انتهوا اليه، مبيّناً لهم كيف أنّ أحقّ الناس وأولاهم بمنصب الخلافة هم المهاجرون وقريش منهـم على الوجـه الأخصّ، فقـال: «إنَّ الله جلّ ثناؤه بعث محمّدًا بالهدى ودين الحقّ، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله تعالى بنواصينا وقلوبنا إلى ما دعا اليه، فكنّا معشر المهاجرين أوّل الناس إسلاماً، والناس لنا فيه تبع، ونحن عشيرة رسول الله (ص)، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنساباً ليست قبيلة من قبائل العرب إلّا ولقريش فيها ولادة. وأنَتم أيضاً والله الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله (ص)، وأنتم إخواننا في كتاب الله تعالى وشركاؤنا في دين الله عزَّ وجلَّ وفيما كنّا فيه من سرّاء وضرّاء، والله ما كنّا في خير قطّ إلّا كنتم معنا فيه، فأنتم أحبّ الناس إلينا، وأكرمهم علينا، وأحقّ الناس بالرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمر الله عزَّ وجلَّ ولمّا ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين، وأحقّ الناس فلا تحسدوهم، وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين، وأنتم أحقّ الناس ألّا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم».

كأنّما خِطاب الأنصار ومن بعده خِطاب المهاجرين أُعدّ مُسبقاً، جمع كلّ طرف فيها ما يكون مبرّراً لأحقّيّته بالخلافة، فأشاد الأنصار بنصرهم لرسول الله (ص)، وأشاد المهاجرون بقربهم منه، وليس في الخِطابين ما يعكس حقيقة الحرص على الدين، ولذا نبّه أبو بكر الأنصار من الوقوع في حسد المهاجرين لأجل الخير الذي ساقه الله لهم، ووصف الصحابة بالحرص على السلطة لا يختلف عن وصف أبو بكر للأنصار بالحسد، ومن ثمّ بأيّ حجّة ادّعى أبو بكر أنَّ الخلافة خيرٌ ساقه الله للمهاجرين دون الأنصار؟ وما المانع الشرعيّ والقانونيّ والعقليّ الذي يمنع أن يكون هذا الخير من نصيب الأنصار؟ فقد اعتقد الأنصار أنَّ أفضل ما يكافؤون به بعد نصرهم لرسول الله(ص) له حين خذله قومه أن تكون الخلافة من نصيبهم، وهو تفكير قد يكون أكثر مقبوليّة من التفكير الذي يزعم أنَّ له الحقّ بسبب القبيلة المشتركة بينهم وبين رسول الله (ص)، وهو تفكير قبليّ عنصريّ لا يمكن تبريره، فقد جاء المهاجرون الى ديار الأنصار وهم لا يملكون من حطام الدنيا شيء، فاحتضنوهم وتقاسموا معهم معاشهم وبيوتهم ودافعوا عنهم ونصروهم، حتّى أستتبّ الأمر وأصبحت مدينتهم داراً لخلافة المسلمين فكيف بعد ذلك تكون الخلافة خيراً ساقه الله للمهاجرين؟

ولكن لم يمنحهم أبو بكر الفرصة الكافية للتفكير في ما قاله حتّى عاجلهم بالاختيار بين أبي عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطّاب في خلافة النبيّ (ص). وهذا تلخيص واختصار مجحف في حقّ المهاجرين، فهل هؤلاء كلّ المهاجرين؟ فلو فرضنا الصواب في كلام أبي بكر في حقّ المهاجرين بالخلافة، فلماذا اختصرهم في هذين الرجلين؟ ولمَ العجلة من الأساس؟ وكان بالإمكان التريّث والانتظار حتّى يجتمع الكلّ ليروا من هو الأنسب من بين المهاجرين، ولكن يبدو أنَّ الأمر فيه سباق مع الزمن، فلو تأخّروا لأتى للخلافة من لا يرغبون فيه، فالفرصة لا تعوّض والسانحة لا تتكرّر لحسم الأمر وقطع الطريق على من هو خارج عن هذا الاجتماع، وإلّا لا يوجد مبرّر شرعيّ أو عقليّ أو قانونيّ أو أخلاقيّ أو أمنيّ أو اقتصاديّ كانهيار أسهم الدولة بسبب الفراغ الرئاسيّ، فما الآثار السلبيّة التي تترتّب على بقاء المسلمين في المدينة من دون خليفة لبضع ساعات أو أيّام حتّى يفرغوا من الدفن ومراسم العزاء؟ ولا يوجد إعلام ووسائل تواصل تنقل خبر الوفاة الى خارج المدينة بالسرعة التي يتخوّف معها تحرّك بعض القبائل الموتورة من الإسلام، أو تتأهّب الامبراطوريّة الفارسيّة أو الروميّة لتهاجم المسلمين وليس فيهم من يسوس أمرهم. كلّ هذا ليس وارداً، فليس هناك ما يبرّر هذه العجلة سوى قطع الطريق أمام الإمام عليّ (ع) ووضعه أمام الأمر الواقع، وهذا ما حدث.

وبعد ترشيح أبي بكر لعمر أو أبي عبيدة للخلافة، حدث ما كان متوقّع وهو رفضهم لهذا الاقتراح وتقديم أبي بكر على نفسيهما، فلو قبلوا لشكّكت الأنصار في النوايا، ولما قبلوا عمر خليفة عليهم فقد اعترضوا على عمر حتّى بعد تعيين أبي بكر له عند وفاته، وكان هذا التعيين دَيْنَاً على الخليفة يجب الوفاء به، ,أمّا أبو عبيدة فقد قال عمر في حقّه عندما حضره الموت: "لو كان أبو عبيدة حيّاً لولّيته عليكم"، فكأنّما الأمر مُعدّ بإحكام، بأنْ يكون أبو بكر هو الخليفة ومن ثمّ يعهد بها لعمر الذي بدوره يسلّمها لأبي عبيدة، هؤلاء هم الذين حضروا السقيفة من المهاجرين، وقد تحقّقت خلافة عمر وكان بالإمكان أن تتحقّق خلافة أبي عبيدة لولا أن عاجلته المنيّة. ولكنّهم برّروا رفضهم لاقتراح أبي بكر معتبرين إيّاه أحقّ الناس بهذا الأمر، فبعد أن كان الحقّ لهم لكونهم مهاجرين تحوّل الحقّ إلى رجل واحد من المهاجرين، وهو أبو بكر، وبالتالي أصبح كلّ ما قاله أبو بكر في خطابه عن فضل المهاجرين ومكانتهم كان في نظرهم فضل خاصّ به، وإن كان خطابه يعمّ المهاجرين ويحصر الحقّ فيهم إلّا أنَّ نتيجة الخطاب كانت حصر حقّ الخلافة فيه.

غير أنَّ الأنصار سرعان ما أبدوا تخوّفهم من هذا المقترح، ليطرحوا مقترحاً آخر فقالوا: «والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، وإنَّ لك ما وصفت يا أبا بكر والحمد لله، ولا أحد من خلق الله تعالى أحبّ إلينا منكم، ولا أرضى عندنا ولا أيمن، ولكنّا نشفق ممّا بعد اليوم، ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منّا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منّا ورجلاً منكم بايعنا ورضينا، على أنَّه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار، فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبداً ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمّة محمّد (ص)، وأن يكون بعضنا يتبع بعضاً، فيشفق القرشيّ أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاريّ، ويشفق الأنصاريّ أن يزيغ فيقبض عليه القرشيّ».

وقد أنصف الأنصار المهاجرين بهذا المقترح، فلا ضيّعوا حقّ المهاجرين ولا ضيّعوا حقّهم، مادام الأمر كلّه يدور مدار الاجتهاد السياسيّ ولا نصّ فيه من الله تعالى، ورسوله (ص)، فحكومة الائتلاف أجمع لأمر المسلمين وأقرب إلى توحيد صفّهم وأعدل في الرعيّة فلا يتحامل المهاجر على الأنصاريّ ولا الأنصاريّ على المهاجر كما قالوا: "كان ذلك أجدر أن يعدل في أمّة محمّد، وأن يكون بعضنا يتبع بعضاً، فيشفق القرشيّ أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاريّ، ويشفق الأنصاريّ أن يزيغ فيقبض عليه القرشيّ".

لكنّ أبا بكر لم ترقه حكومة الائتلاف ففيها اقتسام السلطة السياسيّة بتنصيب رجلين أو خليفتين، واحد ممثّل للأنصار والآخر للمهاجرين، ولكنّه لم يجد ما يقابل به هذا الاقتراح المنصف، فرجع من جديد يذكر فضل المهاجرين وصحبتهم لرسول الله (ص) وسبقهم للإسلام وتحمّلهم الأذى في سبيله وبأنَّهم قرابته وعشيرته، ثمّ قدّم اقتراحاً يكون فيه المهاجرون الأمراء والأنصار الوزراء، فقال: إنَّ الله تعالى قد خصّ المهاجرين الأولين بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه على الشدّة من قومهم وإذلالهم وتكذيبهم إيّاهم... وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام... فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا نفتات [أي لا نحكم] دونكم بمشورة، ولا تنقضي دونكم الأمور».

فرجع بذلك الى حجّته الأولى وتمسّك بها وأضاف عليها إغراءً جديداً للأنصار وهو أن يكونوا وزراءهم ولهم حقّ المشورة ولا يحكم بأمر دون الرجوع اليهم، فأحسّ الحباب بن المنذر بالخطر ولم يغريه العرض فوقف وقال: «يا معشر الأنصار، أملكوا عليكم أيديكم، فإنَّما الناس في فيئكم وظلالكم، ولن يجير مجير على خلافكم، ولن يصدر الناس إلّا عن رأيكم، أنتم أهل العزّ والثروة وأولو العدد والنجدة، وإنَّما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا، فيفسد عليكم رأيكم، وتقطع أموركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، وإليكم كانت الهجرة، ولكم في السابقين الأولين مثل ما لهم، وأنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم، والله ما عبدوا الله علانيّة إلّا في بلادكم، ولا جمعت الصلاة إلّا في مساجدكم، ولا دانت العرب للإسلام إلّا بأسيافكم، فأنتم أعظم الناس نصيباً في هذا الأمر، وإن أبى القوم، فمنّا أمير ومنهم أمير».

استخدم الحباب السياسة نفسها وهي التأكيد على فضل الأنصار وعظيم قدرهم، بل جعلهم أولى بالفضل من المهاجرين لأنّهم أهل الإيواء والنصرة، وإليهم كانت الهجرة، وأصحاب الدار والإيمان من قبلهم، وختم بقوله: "فأنتم أعظم الناس نصيباً في هذا الأمر", ولم يكتفِ بالإشادة بفضل الأنصار، وإنَّما بطن ذلك بالتهديد بعد أن كانت الدبلوماسيّة مهيمنةً على المشهد، "فإنَّما الناس في فيئكم وظلالكم، ولن يجير مجير على خلافكم، ولن يصدر الناس إلّا عن رأيكم، أنتم أهل العزّ والثروة وأولو العدد والنجدة، وإنَّما ينظر الناس ما تصنعون"، ثمّ أكّد على مقترح الأنصار باقتسام السلطة «منّا أمير ومنكم أمير».

وهنا استشعر عمر خطورة الموقف فلو استمرّ نفس الأنصار بهذه الحدّة، وأصرّوا على تقاسم السلطة لم يتمكّنوا من أخذ الخلافة خالصة لقريش، فبادره بكلام أكثر شدّةً فقال: «هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنَّه والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولّي هذا الأمر إلّا من كانت النبوّة فيهم، وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجّة الظاهرة، والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمّد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلّا مُدْلٍ بباطل، أو مُتَجَانف لإثم، أو متورِّط في هَلكة».

وهنا تتكشف النوايا الحقيقيّة ويصبح الكلام عن السلطان والميراث على المكشوف، ولا يبقى الإسلام هو المعيار في استحقاق الخلافة، وإنَّما العروبة وعادات العرب وطبائعهم، فيتبخّر كلّ ما قيل عن المهاجرين من فضل ومنزلة في الإسلام، فيقسم عمر بالله بأنَّ العرب لا ترضى بأمرة الأنصار ماداد النبيّ ليس من قبيلتهم، وقد صدق في ذلك فإنَّ قيم العرب وعادات الجاهليّة لا تقبل أن يكون زعيم القبيلة من خارج القبيلة، فأعاد عمر بذلك قيم الجاهلية وجعل خلافة رسول الله (ص) إرثاً متوارثاً في قريش بحجّة أنَّ النبوّة كانت فيهم والقبيلة أولى بالميراث من غيرها، وهذا ما فتح الباب للقرشيين أن يحكموا المسلمين تسعة قرون، بما فيهم شذّاذ الآفاق، ومحرّفي الكتاب، وقتلة أولاد الأنبياء، وهادمي الكعبة، ومستبيحي حرائر المسلمين.

ثمّ من الذي قال لا يجتمع سيفان في غمد واحد؟ وهل هذا المثال مناسب لما قدّمه الأنصار من اقتراح؟

ما المانع أن تكون حكومة ائتلاف؟ لا مانع هناك سوى الاستئثار بالسلطة كما قال: "من ينازعنا سلطان محمّد وميراثه"، فحكم عمر بذلك على محاولات الأنصار التوفيقيّة بالفشل، وحصرهم أمام خيار واحد هو التنازل للمهاجرين وأن لا ينازعوهم وإلّا صدق عليهم قول عمر: "إلّا مُدْلٍ بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورِّط في هَلكة".

وبعد أن سمع الحباب هذا الكلام الواضح حول الاستئثار بالسلطة، ونيّة المهاجرين بأخذ هذا الأمر منهم، بادر للكلام بشكل أكثر وضوحاً وصرامة، بأنَّ نصيبهم في السلطة لن يتخلّوا عنه حتّى إنْ دعا الأمر إلى إخراج المهاجرين من المدينة وطردهم عن ديارهم، وهنا تتكشّف كلّ النوايا الحقيقيّة لاجتماع السقيفة، فإن كان الأمر هو الدين والحرص على الإسلام فلمَ يهدّد الحباب بأن يعود الأمر إلى سيرة الجاهليّة، عندما قال "لنعيدنّها جذعة" وإليك كلام الحباب بتمامه: «يا معشر الأنصار: أملكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجلوهم عن بلادكم، وتولّوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم، فإنَّه دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا أما والله إن شئتم لنعيدنّها جذعة، والله لا يردّ عليّ أحد ما أقول إلاّ حطمت أنفه بالسيف».

وبذلك تشنّجت الأجواء وأحتدّ الكلام، وأظهر الأنصار جدّيّة كبيرة في حرصهم على هذا الأمر وعدم تخلّيهم عن تقاسم السلطة، وشعر عمر أنَّ التصعيد قد يؤدّي الى انفلات الوضع وإفشال الخطّة، فعمد من جديد إلى التهدئة واستخدام الدبلوماسيّة فقال: «لمّا كان الحباب هو الذي يجيبني، لم يكن لي معه كلام، لأنّه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله، فنهاني عنه، فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسوؤه أبداً».

والعجيب أنّ عمر قد ردّ على الحباب من قبل عندما قال له «هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد،.... من ينازعنا سلطان محمّد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلّا مُدْلٍ بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورِّط في هَلكة»، فكيف يأتي ويقول مرّة أخرى إنَّه حلف منذ حياة رسول الله (ص) أن لا يكلّمه بما يسوؤه، ولكنّها السياسة وفنونها أن تعرف متى تُصَعِّد ومتى تستعطف وتُهدّئ.

ثمّ يظهر أبو عبيدة لأوّل مرّة في مسرح هذا الحوار السياسيّ عاملاً على تلطيف الأجواء، فقال: «يا معشر الأنصار أنتم أوّل من نصر وآوى، فلا تكونوا أوّل من يبدّل ويغيّر».

فكانت هذه الكلمة مع إيجازها ذات أثر في صفوف الأنصار فتمسّك بها بشير بن سعد ليميل الى قول أبي بكر، ويسلّم بقول عمر بأنَّ الخلافة إرث خاصّ لقريش، فقال: "... إنَّ محمّداً رسول الله رجل من قريش، وقومه أحقّ بميراثه، وتولّي سلطانه، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً، فاتّقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم"، ولم يقنع الحباب بقول بشير واتّهمه بأنَّه حسد ابن عمّه سعد بن عبادة.

فكان كلام بشير بن سعد بداية تفكّك وحدة الأنصار وانقسامهم في ما بينهم، فمالت الكفّة نحو المهاجرين فبادر أبو بكر مرّة أخرى لعقد البيعة لأحد الرجلين عمر أو أبو عبيدة، فقال: «أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم».

أعاد بذلك كلام عمر من جديد بأنَّ العرب لن تعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش، وبذلك يمكننا الجزم بأنَّ المهاجرين لم يخصموا الأنصار إلّا بهذه الحجّة، التي سوف يتنكّروا لها عندما يستخدمها الإمام عليّ (ع)، فعندما طلبوا من عليّ البيعة رفض وقال: "أنّا أحقّ بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله (ص)، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فانصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلّا فبؤوا بظلم وأنتم تعلمون، فقال عمر: إنَّك لست متروكاً حتّى تبايع، فقال له عليّ: احلب له يا عمر حلباً لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليردّه عليك غداً. لا والله لا أقبل قولك ولا أتبعك (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2 ص2ـ5).

وبعد قول أبي بكر "وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم" قال عمر «كثر اللّغط، وارتفعت الأصوات، حتّى تخوّفت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته، ثمّ بايعه المهاجرون، ثمّ بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة».

ويضيف ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) إنَّه لما هَمَّ أبو عبيدة بن الجراح بالنهوض لمبايعة أبي بكر سبقهما إليه بشير بن سعد الأنصاريّ فبايع. عندها ناداه الحباب بن المنذر فقال: «يا بشير بن سعد، عقّك عقاق، ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدت ابن عمّك على الإمارة». فأجاب بشير: «لا والله، ولكنّي كرهت أنْ أنازع قوماً حقّاً لهم».

ويقول ابن قتيبة: «رأت الأوس ما صنع قيس بن سعد وهو من سادة الخزرج، وما دعوا إليه المهاجرين من قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير: لئن ولّيتموها سعداً عليكم مرّة واحدة، لازالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر، فقاموا إليه فبايعوه» (الإمامة والسياسة، تحقيق الدكتور طه محمد الزينيّ، الناشر مؤسّسة الحلبيّ، ج1 ص 17)

فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا اجتمعوا له من أمر... فأقبل الناس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطأون سعد بن عبادة.

فقال أناس من أصحاب سعد: اتّقوا سعداً لا تطأوه.

فقال عمر: اقتلوه، قتله الله.

ثمّ قام على رأسه فقال لقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضوك.

فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفيك واضحة.

فقال أبو بكر: مهلاً، يا عمر! الرفق ها هنا أبلغ.

فأعرض عنه عمر.

وقال سعد: أما والله، لو أنَّ بي قوّة، أقوى بها على النهوض لأسمعت منّي في أقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك، أما والله إذنْ لألحقناك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع. احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه في داره.

وبذلك برز الى السطح من جديد التنافس القبليّ القديم بين الأوس والخزرج، وقد حرّك هذه البواعث دعوة قريش لنفسها بوصفها الوارث الطبيعيّ لرسول الله (ص)، فمادام الأمر حقّاً قبليّاً وتنافساً نسبيّاً، فكيف يرضى الأوس تولية سعد بن عبادة وهو زعيم الخزرج، وهكذا انكسر رأي الأنصار وأنشقّ صفّهم، ولم يبقَ أمام الحباب بن المنذر إلّا المعارضة المسلّحة التي تخلط الأوراق من جديد فقام «إلى سيفه فأخذه، فبادروا إليه، فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم، حتّى فرغوا من البيعة».

فللقارئ اللبيب أن يميّز ممّا تقدّم بيانه، هل ما حدث في السقيفة وتولية أبي بكر للخلافة كان نتاج حرص على الدين أم حرص السلطة والخلافة؟