عينيّة الصفات الإلهيّة للذات المقدّسة

السؤال: ((ورد في كتب الشيعة أنّ صفات الله تعالى هي عين ذاته، أيْ أنّها ليس عارضة على ذاته جلّ وعلا ، فكيف يكون ذلك؟)).

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

أنّ عينيّة الصفات مع الذات ممّا انعقد عليه إجماع علماء الطائفة إلّا من شذّ لشبهة عرضت له، فوقع في أقبح العقائد على الإطلاق، قال الشيخ المظفّر: ((ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتيّة إلى الصفات السلبيّة؛ لمّا عزّ عليه أن يفهم كيف أنّ صفاتِه عينُ ذاته، فتخيّل أنّ الصفات الثبوتيّة ترجع إلى السلب ليطمئن إلى القول: بوحدة الذات وعدم تكثّرها، فوقع بما هو أسوأ؛ إذْ جعل الذات التي هي عين الوجود ومحض الوجود والفاقدة لكلّ نقص وجهةِ إمكانٍ، جعلها عينَ العدم ومحض السلب)). [عقائد الإماميّة للمظفّر:ص39].

وإنّما أجمعوا على ذلك لقيام الأدلّة القطعيّة العقليّة عليه، ولوجود الدلائل النقليّة الصحيحة والصريحة المعضِّدَة له، فمن أدلّة العقل نكتفي بذكر دليلين هنا:

الدليل الأوّل: أنّ زيادة الصفات على الذات تستلزم تركّب الإله من مجموع الذات والصفات، والمركّب مفتقر إلى أجزائه التي تركّب منها بالضرورة؛ ولذا كان التركيب من خصائص الممكن؛ لأنّ الافتقار عين الإمكان، فيكون خُلفَ فرضِهِ تعالى واجبَ الوجود.

الدليل الثاني: قد ثبت في محلّه من الأبحاث الكلاميّة - من دون خلاف ولا إشكال بين المسلمين - أنّه تعالى قديمٌ ذاتًا، بمعنى كونه غيرَ مسبوق بالغير ولا بالعدم الذاتي؛ لذا فالقول بزيادة الصفات على الذات، إمّا أن يستلزم قِدَم الصفات مع الذات فيلزم تعدّد القدماء، أو ما يُعرف بتكثّر الذات، وهو شرك واضح، أو يستلزم حدوث الصفات فيلزم من ذلك ثلاثة توالٍ فاسدة:

أحدها: خُلوُّ الذات من هذه الصفات الكماليّة فلا تكون متصّفة بالحياة ولا العلم ولا القدرة قبل حدوث هذه الصفات لها وعروضها عليها، فيلزم أن تكون متّصفة بأضدادها من الموت والجهل والعجز، واللازم باطل، ومن اعتقد به فهو على حدّ الكفر.

وثانيها: أنّه - على فرض حدوثها له تعالى وعروضها عليه جلّ شأنه - يلزم من ذلك كونه محلًّا للحوادث؛ لأنّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث بلا خلاف فيه ولا إشكال، والحدوث سمة الممكن، فيلزم انقلابه تعالى عن الوجوب إلى الإمكان، وذلك باطل عقلاً.

وثالثها: أنّه على فرض حدوثها، فلنا أنّ نتساءل حينئذ عمّن أحدثها، فإن كان محدثها هو الله تعالى، فكيف يمكن ذلك وهو - بحسب الفرض - فاقد للحياة وللعلم والقدرة..؟! ، وهل هذا إلّا تحصيل الحاصل..؟!.

وإن كان الذي أحدثها موجود آخر غيره تعالى فهنا ننقل الكلام إليه، فيلزم إمّا الدور أو التسلسل ، وكلاهما باطل ، هذا فضلاً عن استلزامه أن يكون هذا الغير أولى من الله بالألوهيّة؛ لأنّه أكمل منه..! ، هذا من جهة العقل.

وأمّا الدلائل النقليّة، فنكتفي منها أيضاً بروايتين في المقام.

الرواية الأولى: صَحِيحَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّه قَالَ فِي صِفَةِ الْقَدِيمِ: إِنَّه وَاحِدٌ صَمَدٌ أَحَدِيُّ الْمَعْنَى لَيْسَ بِمَعَانِي كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَزْعُمُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّه يَسْمَعُ بِغَيْرِ الَّذِي يُبْصِرُ ويُبْصِرُ بِغَيْرِ الَّذِي يَسْمَعُ...؟ قَالَ: فَقَالَ: كَذَبُوا وأَلْحَدُوا وشَبَّهُوا تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ، إِنَّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ، يَسْمَعُ بِمَا يُبْصِرُ ويُبْصِرُ بِمَا يَسْمَعُ. قَالَ: قُلْتُ: يَزْعُمُونَ أَنَّه بَصِيرٌ عَلَى مَا يَعْقِلُونَه. قَالَ: فَقَالَ: تَعَالَى اللَّه! إِنَّمَا يَعْقِلُ مَا كَانَ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ ولَيْسَ اللَّه كَذَلِكَ)). [الكافي للكليني:ج1،ص108].

والرواية الأخرى: عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: ((سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) يَقُولُ: لَمْ يَزَلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ رَبَّنَا والْعِلْمُ ذَاتُه ولَا مَعْلُومَ، والسَّمْعُ ذَاتُه ولَا مَسْمُوعَ، والْبَصَرُ ذَاتُه ولَا مُبْصَرَ، والْقُدْرَةُ ذَاتُه ولَا مَقْدُورَ، فَلَمَّا أَحْدَثَ الأَشْيَاءَ وكَانَ الْمَعْلُومُ وَقَعَ الْعِلْمُ مِنْه عَلَى الْمَعْلُومِ والسَّمْعُ عَلَى الْمَسْمُوعِ والْبَصَرُ عَلَى الْمُبْصَرِ والْقُدْرَةُ عَلَى الْمَقْدُورِ. قَالَ: قُلْتُ فَلَمْ يَزَلِ اللَّه مُتَحَرِّكاً؟ قَالَ: فَقَالَ تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ، إِنَّ الْحَرَكَةَ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ بِالْفِعْلِ قَالَ: قُلْتُ فَلَمْ يَزَلِ اللَّه مُتَكَلِّماً؟ قَالَ فَقَالَ إِنَّ الْكَلَامَ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ لَيْسَتْ بِأَزَلِيَّةٍ كَانَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ولَا مُتَكَلِّمَ)). [المصدر السابق:ج1،ص107].

وأمّا سؤالكم عن كيفية تَعقُّل العينيّة المذكورة فنقول: إنّ معنى عينيّة الصفات للذات هو أنّ كلّ واحدة من تلكم الصفات هي في الخارج عين تمام الذات، فليست جزءاً منها، ولا عارضةً عليها، ولا قائمةً بها قيام الصفة في الموصوف، أي أنّ الصفات والذات هما شيء واحد مصداقًا، ومن حيث الواقع الخارجيّ، فالله عزّ وجلّ قادر من حيث إنّه عالم ، وعالم من حيث إنّه قادر، فهو كلّه علم وكلّه حياة وكلّه قدرة...، وهكذا في سائر الصفات الذاتيّة.

وبمعنى أدقّ: فإنّ الموجود في الخارج فقط هو الذات البسيطة الحيّة العالمة القادرة السميعة البصيرة ...، نعم يوجد اختلاف ومغايرة بين هذه الصفات أو بينها وبين الذات، لكنّه مجرّد اختلاف مفهوميّ، وليس مصداقيّاً، أيْ هو اختلاف في المعنى المفهوم من كلّ واحدة منها، فما يُفهم من كلمة "العالم" غير ما يفهم من كلمة: "القادر" أو "الحيّ"...، وهكذا في بقية تلك الصفات، وهذا المعنى هو المسمّى عند علماء الكلام بالتوحيد الصفاتيّ، أو توحيد الصفات.

قال الشيخ السبحانيّ: ((...النقطة الجديرة بالبحث هو أنّ هذه الصفات كما هي متغايرة من حيث المفهوم، هل هي في الواقع الخارجي متغايرة أو متّحدة؟.

يجب القول في معرض الإجابة عن هذا السؤال: حيث إنّ تغايرها في الوجود، والواقع الخارجيّ، يستلزم الكثرة والتركّب في الذّات الإلهيّة المقدّسة ؛ لذلك يجب القول حتماً بأنّ هذه الصفات مع كونها مختلفة ومتغايرة من حيث المعنى والمفهوم إلّا أنّها في مرحلة العينيّة الخارجيّة، والواقع الخارجي متّحدة.

وبتعبير آخر: إنّ الذات الإلهيّة في عين بساطتها، واجدة لجميع هذه الكمالات، لا أنّ بعض الذّات الإلهيّة "علم" وبعضها الآخر "قدرة" والقسم الثالث هو "الحياة"، بل هو سبحانه - كما يقول المحقّقون: - علم كلّه وقدرة كلّه وحياة كلّه... وعلى هذا الأساس فإنّ الصفات الذاتيّة لله تعالى، مع كونها قديمة وأزليّة فهي في نفس الوقت عين ذاته سبحانه لا غيرها.)). [كتاب العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت(ع) للشيخ جعفر السبحانيّ:ص47]

هذا بإيجاز شديد ما يمكن تحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.. هذا ودمتم سالمين.