زواج النبيّ من زوجة زيد بن حارثة
السؤال: هل ورد أنّ النبيّ دخل على زينب بنت جحش وقد كانت جميلة جداً، فوقع عينه عليها، فأعجبته، ووقعت في قلبه موقعاً عظيماً، فطلقها زيد، وتزوجها النبيّ بعد ذلك؟
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اعلم أنّ قصّة زواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من زوجة زيد بن حارثة - زينب بنت جحش - وردت في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [سورة الأحزاب: 36-38].
فهذه الآية الكريمة ترتبط بزيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه بالإسلام والإيمان وصحبة النبيّ، وأنعم عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالعتق والتبنّي والتربية، وقد كان متزوّجاً من زينب بنت جحش التي هي ابنة عمّة النبيّ، إذْ أتى زيد بن حارثة إلى النبيّ مستشيراً له في طلاق زوجته زينب، فنهاه النبيّ عن ذلك، ثـمّ بعد ذلك طلّقها زيد وتزوّجها النبيّ، فنزلت هذه الآية.
فزيد بن حارثة كان يشتكي من زوجته زينب أنّها ذات حدّة في أخلاقها، وأنّها كانت تؤذيه بكلامها؛ لأنّها ذات عزّ وشرف، في حين أنّ زيداً كان عبداً، فاشتراه النبيّ وأعتقه ثمّ تبنّاه ثمّ خطبها له، فقبلت به كرامةً لرغبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فجاء زيد إلى النبيّ يستشيره في طلاقها، فقال النبيّ: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} أي لا تطلّقها، والإتيان بلفظ {عَلَيْكَ}؛ لِـما في الإمساك من الثقل حتّى كأنّه حِملٌ على الإنسان، وأمره أيضاً بتقوى الله تعالى في مفارقتها ومضارّتها ومعاشرتها، مع أنّ الله تعالى كان قد أعلمَ النبيَّ بأسماء زوجاته في الدنيا وزوجاته في الآخرة، وأخبره بأنّه سيتزوّج زينب بعد أن يطلّقها زيد؛ وذلك لكي يرفع قاعدة النبوّة الجاهليّة القائمة على أنّ زوجة الولد المتبنّى لا تجوز، فجاء الإسلام بهدم قاعدة التبنّي بأنّ التبنّي لا يلحق الولد بالأب نسباً، فلذا يجوز للأب أن يتزوّج من زوجة ابنه المتبنّى، وكان النبيّ قد بيّن هذا الحكم قولاً، وأخبره الله تعالى أنّه سيبيّن هذا الحكم عملاً، وذلك بزواجه من زوجة ابنه المتبنّى وهو زيد، وقد بيّنت الآية ذلك: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}.
ولكن لـمّا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يعلم ما يحدثه هذا الفعل من الضجّة في ذلك المجتمع جديد العهد بالإسلام، خشي إظهاره، ولهذا قال الله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} علمك بزواجك منها وإرادتك لذلك امتثالاً لأمر الله تعالى {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي الشيء الذي سيظهره الله بعد ذلك {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}، وخشية النبيّ الناس لم تكن خشية على نفسه، بل كان خشية في الله تعالى، فأخفى في نفسه ما أخفى استشعاراً منه أنّه لو أظهرَه عابه الناس وطعنَ فيه بعض مَن في قلبه مرض، فأثّرَ ذلك أثراً سيّئاً في إيمان العامّة، وهذا الخوف - كما ترى - ليس خوفاً مذموماً، بل خوف في الله وهو في الحقيقة خوف من الله سبحانه. ثـمّ إنّ قوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الظاهر في نوع من العتاب ردعٌ عن نوعٍ من خشية الله، وهي خشيته عن طريق الناس، وهدايةٌ إلى نوع آخر من خشيته تعالى، وأنّه كان من الحريّ أن يخشى الله دون الناس، ولا يخفي ما في نفسه ما الله مبديه [ينظر تفسير الميزان ج16 ص323، التفسير الكاشف ج6 ص223، تقريب القرآن ج4 ص337، وغيرها].
قال الشيخ الطوسيّ: (فالذي أخفى في نفسه أنّه إنْ طلّقها زيدٌ تزوّجها، وخشي من إظهار هذا للناس، وكان الله تعالى أمره بتزوّجها إذا طلّقها زيد، فقال الله تعالى له إنْ تركتَ إظهارَ هذا خشية الناس فترك إضماره خشية الله أحقّ وأولى) [تفسير التبيان ج8 ص344].
وقال الشيخ الطبرسيّ: (والذي أخفاه في نفسه: هو أنّه إنْ طلّقها زيدٌ تزوّجها، وخشي لائِمَة الناس أن يقولوا: أمره بطلاقها ثمّ تزوجها. وقيل: إنّ الذي أخفاه في نفسه: هو أنّ الله سبحانه أعلمه أنّها ستكون من أزواجه - وقيل: وأنّ زيداً سيطلّقها - فلمّا جاء زيد وقال له: أريد أن أطلق زينب، قال له: أمسك عليك زوجك، فقال سبحانه: لِـم قلت أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتُك أنّها ستكون من أزواجك، رُوي ذلك عن عليّ بن الحسين (عليه السلام). وهذا التأويل مطابق لتلاوة الآية؛ وذلك أنّه سبحانه أعلم أنّه يبدي ما أخفاه، ولَـم يُظهِر غير التزويج، قال: {زَوَّجْنَاكَهَا}، فلو كان الذي أضمره محبّتها، أو إرادة طلاقها، لأظهر الله تعالى ذلك مع وعده بأنّه يبديه، فدلّ ذلك على أنّه إنّما عُوتِب على قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، مع علمه بأنّها ستكون زوجته، وكتمانه ما أعلمه الله به، حيث استحيا أن يقول لزيد: إنّ التي تحتك ستكون امرأتي) [مجمع البيان ج8 ص162].
فهذا الذي ورد عن الإمام السجّاد (عليه السلام) هو الذي عوَّل عليه كثيرٌ من محقّقي المخالفين، وعدّوه أصحّ تفسير للآية، بل عدّوه من جواهر العلم المكنون، وإليك بعضاً من كلماتهم:
قال القاضي عياض: (وأصحّ ما في هذا: ما حكاه أهل التفسير عن عليّ بن حسين: أنّ الله تعالى كان أعلم نبيَّه أنّ زينب ستكون من أزواجه، فلمّا شكاها إليه زيد قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}، وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به من أنّه يتزوّجها بما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها. وروى نحو عمرو بن فائد عن الزهريّ قال: نزل جبريل على النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) يُعلِمُه أنّ الله يزوّجه زينب بنت جحش، فذلك الذي أخفى في نفسه. ويصحّح هذا قولَ المفسّرين في قوله تعالى بعد هذا {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} أي لا بدّ لك أن تتزوّجها، ويوضّح هذا: أنّ الله لم يبدِ من أمره معها غير زواجه لها، فدلّ أنّه الذي أخفاه (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) ممّا كان أعلمه به تعالى) [الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج2 ص189].
وقال السمعانيّ - بعد ذكره -: (وهذا القول هو الأولى وأليق بعصمة الأنبياء) [تفسير السمعانيّ ج4 ص287]. وقال مثله البغويّ في [معالم التنزيل ج3 ص532] وزاد بأنّه مطابق للتلاوة، كما ذكر الشيخ الطبرسيّ في كلامه المتقدّم.
وقال الحكيم الترمذيّ – عند ذكر الوجه في سبب العتاب -: (الوجه الثاني: ما ذكره عليّ بن الحسين (رضي الله عنهما) - وهو جوهر من الجواهر -: إنما عتب الله تعالى عليه فإنه قد أعلمه أن ستكون هذه الأمَة من أزواجك...) [نوادر الأصول ج2 ص186].
وقال القرطبيّ - عند ذكر كلام الترمذيّ -: (قال الترمذيّ الحكيم في نوادر الأصول، وأسندَ إلى عليّ بن الحسين قوله، فعليّ بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهراً من الجواهر، ودرّاً من الدرر: أنّه إنّما عتب الله عليه...) [الجامع لأحكام القرآن ج14 ص191].
وقال أيضاً - بعد ذكر كلام الإمام السجّاد -: (قال علماؤنا (رحمة الله عليهم): وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسّرين والعلماء الراسخين، كالزهريّ والقاضي بكر بن العلاء القشيريّ، والقاضي أبي بكر بن العربيّ وغيرهم) [الجامع لأحكام القرآن ج14 ص190-191].
والحاصل: ظاهر الآية الكريمة - كما تقدّم - تدلّ على أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أمرَ زيداً بإمساك زوجته وتقوى الله، فجاءه العتاب الإلهيّ على إخفائه أمراً سيظهره الله تعالى، والذي أبداه الله تعالى هو زواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من زينب زوجة زيد، وهذا يعني أنّه هو الذي أضمره النبيّ وأخفاه؛ وذلك لأنّ الله تعالى أعلمه بأنّ زينبَ ستكون زوجته، في حين أنّ النبيّ أمر زيداً بعدم طلاق زوجته
وأمّـا ما ورد في بعض الروايات - من أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) دخل في بيت زيد بن حارثة، ووقع بصره على زوجته، فأعجبته ووقعت في قلبه - فيُلاحظ عليها مايلي:
أوّلاً: هذه الرواية منافية لأصول الإسلام وثوابته، كما ذكر ذلك جمعٌ من الأعلام من الفريقين، وإليك بعض كلماتهم:
قال الشريف المرتضى - بعد الإشارة لها -: (لَـم ننكر ما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة أنّ فعل الشهوة يتعلّق بفعل العباد وأنّها معصية قبيحة، بل من جهة أنّ عشقَ الأنبياء (عليهم السلام) لمن ليس يحلّ لهم من النساء منفرٌّ عنهم، وحاطٌّ من مرتبتهم ومنزلتهم، وهذا ممّا لا شبهة فيه. وليس كلُّ شيء يجب أن يجتنبه الأنبياء (عليهم السلام) مقصوراً على أفعالهم، ألا ترى أنّ الله تعالى قد جنّبهم الفظاظة والغلظة والعجلة، وكلّ ذلك ليس من فعلهم، وأوجبنا أيضاً أن يجتنبوا الأمراض المنفّرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها، وكلّ ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم. وكيف يذهب على عاقلٍ أنّ عشق الرجل زوجةَ غيره منفّر عنه، معدود في جملة معائبه ومثالبه؟! ونحن نعلم أنّه لو عُرف بهذه الحال بعض الأمناء والشهود لكان ذلك قادحاً في عدالته وخافضاً في منزلته، وما يؤثر في منزلة أحدنا أولى من أن يؤثر في منازل مَن طهّره الله وعصمه وأكمله وأعلى منزلته، وهذا بيّن لمن تدبّره) [تنزيه الأنبياء ص157].
وقال ابن العتائقيّ – تعليقاً على الرواية -: (أقول: كيف يقول ذلك وفي قلبه ما فيه؟ والكذب قبيحٌ على الأنبياء؛ لأنّهم معصومون. والحقُّ: أنّه جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقال: يا رسول الله، إنّ زينب تستطيل عليّ لشرف نسبها، وإنّي أريد أن أطلّقها، فقال له رسول الله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ...} الآية، وقد كان زيد قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا يجمع الله رأسي ورأسها أبداً، وطلّقها، فلمّا انقضت عدّتها انتظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمر الله فيها..) [مختصر تفسير القمّيّ ص394].
وقال القاضي عياض: (ولو كان على ما روى في حديث قتادة - من وقوعها من قلب النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) عندما أعجبته، ومحبّته طلاق زيد لها - لكان فيه أعظم الحرج، وما لا يليق به من مدِّ عينيه لِـما نهى عنه من زهرة الحياة الدنيا، ولكان هذا نفس الحسد المذموم الذي لا يرضاه ولا يتّسم به الأتقياء، فكيف سيّد الأنبياء؟ قال القشيريّ: وهذا إقدام عظيم من قائله وقلّة معرفة بحقّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) وبفضله..).
وقال: (والتعويل والأولى ما ذكرناه عن عليّ بن حسين، وحكاه السمرقنديّ، وهو قول ابن عطاء، واستحسنه القاضي القشيريّ، وعليه عوّل أبو بكر بن فورك، وقال: إنّه معنى ذلك عند المحقّقين من أهل التفسير، قال: والنبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) منزّه عن استعمال النفاق في ذلك، وإظهار خلاف ما في نفسه، وقد نزّهه الله عن ذلك بقوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}، قال: ومَن ظنّ ذلك بالنبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) فقد أخطأ) [الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج2 ص189-190].
وقال القرطبيّ: (فأمّا ما رُوي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) هوى زينب امرأة زيد، وربّما أطلق بعض المجان لفظ عشق - فهذا إنّما يصدر عن جاهل بعصمة النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) عن مثل هذا، أو مستخفّ بحرمته) [الجامع لأحكام القرآن ج14 ص191].
وثانياً: هذه الرواية مضطّربة في سياقاتها جداً، وإليك بعضها:
1ـ تذكر تارةً: بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) دخل بيت زيد بن حارثة فرأى زوجته تغتسل فقال لها: « سبحان الذي خلقكِ » وأراد بذلك تنزيه الله عن قول مَن زعم أنّ الملائكة بنات الله.
2ـ وأخرى: بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) دخل بيت زيد فرأى زوجته قائمةً في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة، فوقعت في نفسه، فأعجبه حسنها وهواها، فقال: « سبحان الله مقلّب القلوب » وانصرف، فلمّا جاء زيد فأخبرته بمجيء النبيّ وقوله، فألقي في نفسه كراهيّتها والرغبة عنها في وقت رؤية النبيّ لها، فأتى النبيَّ وأخبره بإرادته طلاقها.
3ـ وثالثة: بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) دخل بيت زيد فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيباً بفهر لها، فنظر إليها وكانت جميلة حسنة، فقال: « سبحان خالق النور، وتبارك الله أحسن الخالقين »، فرجع لبيته ووقعت زينب في قلبه موقعاً عجيباً، فلـمّا جاء زيد لمنزله أخبرته بمقالة النبيّ، فقال لها: هل أطلّقكِ حتّى يتزوّجك النبيّ، فلعلّكِ وقعتِ في قلبه؟ وجاء للنبيّ وقال: بأبي أنت وأمّي، أخبرتني زينب بكذا وكذا، فهل لك أن أطلّقها حتّى تتزوّجها؟! فقال النبيّ: لا، اذهب واتّقِ الله
4ـ ورابعة: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جاء إلى بيت زيد فقامت إليه زوجته فُضُلاً بسبب العجلة وطلبت إليه أن يدخل، فأعجب النبيّ، فولّى وهو يهمهم وكان من قوله: « سبحان الله العظيم، سبحان مصرّف القلوب ».
5ـ وخامسة: بأنّ زيداً تشاجر مع زوجته في شيء، فجاءا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فنظر إليها النبيّ فأعجبته، فقال: يا رسول الله، يا رسول الله تأذن لي في طلاقها فإنّ فيها كبراً ، وإنّها لتؤذيني بلسانها، فقال النبيّ: اتّقِ الله، وأمسك عليك زوجك وأحسن إليها.
6ـ وسادسة: بأنّ زيداً مرض، فدخل عليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يعوده، وزينب زوجته جالسة عند رأس زيد، فقامت لبعض شأنها، فنظر إليها النبيّ ثمّ طأطأ رأسه، فقال: « سبحان الله مقلّب القلوب والأبصار»، فقال زيد: أطلّقها لك يا رسول الله؟ فقال: لا، فأنزل الله الآية.
7ـ وسابعةً: أنه حين جاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يطلب زيداً، كان على الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر، فانكشف وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبيّ، فلما وقع ذلك كُرِّهت إلى الآخر. إلى غير ذلك من السياقات.
أقول: والملاحظ أنّ هذه الروايات بغاية الاضطراب، فهل دخل النبيّ على بيتها وزيد غير موجود، أو أنّ النبيّ دخل يعود زيداً، أو أنّهما جاءا للنبيّ؟ وهل دخل عليها النبيّ وهي تغتسل، أو وهي قائمة في درع وخمار، أو وهي جالسة تسحق طيباً بفهرٍ لها، أو أنّها قامت إليه فُضُلاً بسبب العجلة وطلبت إليه الدخول؟ وهل قال النبيّ: « سبحان الذي خلقكِ »، أو قال: « سبحان الله مقلّب القلوب »، أو قال: « سبحان خالق النور، وتبارك الله أحسن الخالقين »، أو قال: « سبحان الله العظيم، سبحان مصرّف القلوب »، أو قال: « سبحان الله مقلّب القلوب والأبصار »؟ وهل هواها النبيّ لـمّا رآها في البيت ولَم يكن زيد موجوداً، أو لـمّا جاء يعود زيداً، أو لـمّا جاءا إليه متشاجرين؟ وهل ألقى الله حبّها في قلبه والكراهيّة في قلب زيد لـمّا رآها النبيّ حين لم يكن زيداً في الدار، أو لـمّا جاءا إليه متشاجرين؟ وهل لـمّا أخبرته زوجته بمجيء النبيّ، ذكر له مقالته لـمّا جاءه للبيت، أو ذكر طلاقها فحسب، أو ماذا؟ إلى غير ذلك.
فهذه الروايات - كما ترى - لا تكاد تتّفق على مفردة، وهي بغاية الاختلاف والاضطراب، وهذا الاضطراب يسلب الوثوق بها والاعتماد عليها.
وثالثاً: أنّ مجمل هذه الروايات السابقة تفيد أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أعجب بها وهواها بعدما رآها، في حين أنّ زينب بنت جحش هي ابنة عمّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وقد رآها منذ ولادتها، والناس لم تكن تحتجبن منه (صلّى الله عليه وآله)، وقد كان هو الذي خطبها لزيد وزوّجها له مع أنّها كانت راغبة بالنبيّ، وكان النبيّ قد تبنّى زيداً، ومن الطبيعيّ أن يكون قد رآها طوال هذه السنين، فكيف لم تعجبه ولا هواها إلّا لـمّا رآها في بيتها أو لـمّا جاءت مع زوجها للشكاية عنده؟!!
قال القاضي عياض: (قال القشيري: وهذا إقدام عظيم من قائله وقلّة معرفة بحقّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) وبفضله، وكيف يُقال: رآها فأعجبته، وهي بنت عمّته، ولم يزل يراها منذ ولدت، ولا كان النساء يحتجبن منه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، وهو زوّجها لزيد؟ وإنّما جعل الله طلاق زيد لها وتزويج النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) إيّاها لإزالة حرمة التبنّي وإبطال سنّته، كما قال: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}، وقال {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}، ونحوه لابن فورك) [الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج2 ص190].
وقال السيّد محسن الأمين: (والحقيقة أنّ زينب كانت بنت عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ أمّها أميمة بنت عبد المطلب، وقد كان (صلّى الله عليه وآله) يعرفها طفلة وشابة، وهي بمنزلة إحدى بناته، وهذا يكذِّب أنّه لـمّا رآها وقعت في قلبه، ثمّ هو الذي خطبها على زيد مولاه، وساق عنه المهر، فلو كان لها هذا الجمال البارع وهذه لمكانة من قلبه لخطبها إلى أهلها بدلاً من أن يخطبها على مولاه، ولكان أهلها أسرع إلى إجابته من إجابتهم إلى تزويجها بمولاه وعتيقه. واحتمالُ أنّها وقعت في قلبه بعدما تزوّجت، ولم تقع في قلبه وهي خليّة، سخيفٌ كما ترى؛ فإنّ دواعي الطبيعة قبل تزوّجها أكثر وأشدّ، ولكن زينب كانت تستطيل على زيد بقربها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّها ابنة عمّته وأنّها قرشيّة...) [أعيان الشيعة ج1 ص223].
ورابعاً: أنّ الآية الكريمة دلّت على أنّه لَـم يصدر من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في تلك الحادثة ذنبٌ ولا معصيةٌ، ولا استغفر النبيّ من شيء بخصوص ذلك، ولا عاتبه الله تعالى على شيء سوى إخفائه ما سيظهره الله، وهو - كما ذكرنا - إخفاء علمه بكون زينب ستكون زوجته، في حين أنّه لو كان العتاب على إخفاء حبّه وهواه لزينب، وأنّه عشقها وهي في حبالة زوجها زيد، فإنّ إخفاء ذلك ليس موضعاً للعتاب الإلهيّ؛ لأنّ إبداء الهوى للمرأة المتزوّجة وإظهار الرغبة فيها أمرٌ مذموم بلا ريب، فلو تنزّلنا جدلاً وقلنا بوقوع زينب في قلبه لكان إشهار ذلك مذموماً ومحلّاً للوم؛ لأنّه إظهار للرغبة في زوجة غيره، في حين نجد أنّ الآية الكريمة تعاتب النبيّ على إخفاء ذلك!
وزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من زينب لَـم يكن دافعه هو محبّتها وهواها، فإنّ الآية الكريمة قد صرّحت بالدافع من وراء هذا الزواج، وذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا كَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}، ولم تقل الآية: زوجناكها لرغبتك فيها.
والحمد لله ربّ العالمين
اترك تعليق