هل الدين الإسلاميّ أخذ تعاليمه من الديانات الأسبق منه؟

السؤال: (إنّ العقيدة الإسلاميّة تطوّرت عِبر مراحل عدّة، وأخذت من روافد متعدّدة، كاليهوديّة، والهيلينيّة، وغيرهما، وقد استطاع الإسلام أن يمتصّ هذه الآراء الأجنبيّة ويتمثّلها، وكأنّها جزء من تعاليمه، هذا ما قاله المستشرق (جولد تسهير)، وأضاف: إنَّ مفهوم المسلمين للإله يلتقي في نقاط متعدّدة مع وصف يوحنّا الدمشقيّ وشرحه للذات الإلهيّة، ممّا يعني تأثّرها في تصوّر الاله)، فهل إصرار المستشرقين الغربيّين على أنَّ الإسلام تأثّر بالديانات الأخرى هو حطٌّ من قيمة الإسلام؟ وهل هناك تأثّر من وجهة نظر محايدة، أو هي مجرّد تخرّصات؟

: الشيخ إبراهيم البصري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم أخي السائل أنَّ الرسالات السماويّة جاءت لتنظيم حياة الانسان مع الله تعالى لأجل العبادة والطاعة والمعرفة والتكامل، ولأجل تنظيم حياة البشر فيما بينهم بما يتلائم والمتغيّرات الحاصلة، لكن مع بقاء الجوهر ثابتاً في جميع تلكم الديانات - وهو التوحيد - بمعنى أنَّ الرُسُلَ جميعاً جاؤوا لتصحيح مسار الإنسانيّة بعد انحرافها عن جادّة الصواب، فيبعث الله نبيّاً ليصحّح مسيرة الناس.

وليس بالضرورة عندما تأتي شريعة أن تنسخ جميع ما موجود من أحكام في الشريعة السابقة، بل توسّع أو تضيّق في دائرة الأحكام بما يتطابق ومصلحة البشريّة، أيْ أنّ العقيدة تبقى ثابتة والمتغيّر هو بعض الأحكام الفقهيّة، دون المساس في جوهر الحكم، فعلى سبيل المثال الصلاة موجودة في جميع الشرائع السماويّة، لكنّ الاختلاف في آليّة الصلاة، وهكذا الصوم ثابت في الديانات، إنّما الاختلاف في صورة الصوم لا في جوهره، وهكذا في حكم ما يحلّ أكله وما يحرّم في البهائم، كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} ]الانعام/ 46[، فالشحوم كانت محرّمة عليهم، وأُحلّت في الشريعة الإسلاميّة، وما كان التحريم إلّا بسبب ظلمهم، كما ورد في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً} ]النساء/ 160[، وبالتالي تقتضي المصلحة الإلهيّة تضييق الدائرة الحكميّة أو توسعتها، وهكذا في الصيام، فإنَّه كان مفروض على من سبق الشريعة الإسلاميّة، كما ورد في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ]البقرة/ 183[، وأمّا العقيدة - أعني توحيد الله تعالى - فهي ثابتة في الديانات والشرائع السماويّة كلّها، فلم يبعث الله نبيّاً يدعو الناس الّا لتوحيد الله تعالى، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}،]المائدة/ 116[، وذلك عندما انحرف النصارى وعبدوا عيسى ابن مريم وأمّه (عليهما السلام)، وجعلوه ابناً لله سبحانه وتعالى، وهكذا اليهود الذين جعلوا عزيراً ابناً لله تعالى وتقدّس، كما في قوله تعالى: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ}، ]التوبة/ 30[، وغيرها من الشواهد القرآنيّة.

وعليه، فما نجده من تشابه في بعض الموضوعات من شرائعٍ أو عقائد من الديانات السابقة إنَّما يدلُّ على أنَّ المشرّع واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، فتكرار الأثر يدلُّ على وحدة المؤثّر نفسه، لذلك تجد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}،] البقرة/ 62[أيْ أنَّ شرط دخول الجنّة هو الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر، والعمل صالحاً، أيْ الإيمان بتوحيد الله تعالى، والإيمان بالمعاد، والعمل بما أراد الله تعالى من أعمال صالحة، وهذا ما يفسّر وجود المقابر ودفن النفائس مع الموتى في الديانات القديمة، ووجود العابد في حضارتهم أيضاً، أي اندثار أغلب معالم حضاراتهم، وبقاء المعبد الذي يشير الى معنى العبادة والتوحيد، وبقاء المدفن أو المقابر والاعتناء بها، الذي يشير إلى إيمانهم بالمعاد، ويؤيّد ذلك ما روي عن الامام الصادق (ع) أنّه قال: «إنّ اللَّه خلق ألف ألف آدم قبل آدمكم هذا » [بحار الأنوار ج54 ص336].

وبالتالي، تكون دعوى المستشرق وأضرابه قد جانبت الصواب، ولم يُدرك معنى الدين، ومعنى العبادة، ولم يفقه المنظور الإسلاميّ للديانات السابقة. والحمد لله ربّ العالمين.