هل الوعي والروح هما مجرّد نتيجة تفاعل كيميائيّ في الدماغ؟

السؤال: الوعي والفهم والروح ليست سوى نتاج للدماغ البشريّ مع تطوّر الدماغ عبر ملايين السنين، نشأت هذه القدرات العقليّة المعقّدة. ولا توجد روح أو قوّة غامضة وراء ذلك، بل هي عمليّة طبيعيّة بحتة. ريتشارد دوكينز؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

اعلم - أخي القارئ - أنّ العلم وبالرغم من تقدّمه الكبير، يعترف بحدوده وعجزه في تفسير بعض القضايا تفسيراً نهائياً. فمثلاً، لكي يُفسّر العلم نشأة الكون، يُضطرّ إلى افتراض وجود (المادّة الأساسيّة) التي تشكّل منها الكون، دون القدرة على تحديد ماهيّة هذه المادّة بشكل قاطع. وبالمثل، عندما يتناول العلم مفهوم النفس، يعترف بوجودها كأساس للوعي والإدراك، لكنّه لا يزال عاجزاً عن فهم طبيعتها الجوهريّة كلّيّاً. فإذا كان العلم في مجالاته المادّية المباشرة يُقرُّ بوجود افتراضات قد لا يمتلك لها دليلاً حاسماً، فكيف له أن ينكر القضايا الروحيّة والعاطفيّة التي يشعر بها كلّ إنسان، وهي قضايا ترتبط بطبيعة الإنسان العميقة وتلامس أغوار روحه؟

إنّ كلّ إنسان يدرك وجوده الذاتيّ فيقول: (أنا)، ويشعر بكيانه الفرديّ المستقلّ. وهذا الشعور بالذات، وإن كان خارج نطاق القياس العلميّ المباشر، هو أعمق التجارب الوجوديّة وأصدقها. كذلك، يشعر الإنسان بلذّة الفضيلة، وطهارة النفس، وراحة الصلاح، ويُدرك بنزوعه الفطريّ نحو عوالم معنويّة أسمى، تتجاوز هذا العالم المادّي. وهذه الأحاسيس ليست مجرّد تفاعلات بيولوجيّة، بل إشارات إلى بُعدٍ آخر في الإنسان، يرتبط بالروح ويشير إلى عالم خفيّ أعمق من مجرّد المادّة.

فالروح من الحقائق التي تتجاوز حدود الإدراك الحسّيّ، ويكفي لإثبات وجودها شعور الإنسان بها وتأثّره العميق بآثارها التي تتجلّى في كلّ جانب من جوانب الحياة. فلا حاجة لتأكيد وجود الروح عبر لمسها باليد أو رؤيتها بالعين أو تحليلها في المختبرات، فهي حاضرة بذاتها ودالّة على وجودها بما لها من تجلّيّات وآثار واضحة في كيان الإنسان.

وما تمّ نقله على لسان ريتشارد دوكينز يمكن تفنيده بعدة وجوه:

الأوّل: من الناحية العلمية: فمع التقدّم الهائل في علوم الأعصاب وعلم النفس، يبقى الوعي لغزاً عصيّاً على الفهم الكامل. فحتّى علماء بارزون مثل ديفيد تشالمرز - مدير مركز العقل والدماغ والوعي (بالاشتراك مع نيد بلوك) في جامعة نيويورك- يعدُّون مسألة الوعي (مشكلة صعبة) في علم الأعصاب، إذْ لم يتمكّن العلماء من تفسير كيفيّة نشوء الوعي من النشاط العصبيّ. ومع أنّهم قد حدّدوا بعض أجزاء الدماغ المرتبطة بتجارب معيّنة، إلّا أنّ ذلك لا يفسّر طبيعة الشعور بذاته، وكيفيّة إحساس الفرد بنفسه أو أن يكون واعياً. [ينظر: مقال (د. كريستيان جاريت) (اللّغز الذي هو أنت) مترجم في مجلة مدار على الرابط التالي:

اضغط هنا

والثاني: في الإطار الفلسفيّ: هناك نقاش فلسفيّ طويل يؤكّد أنّ الذات الإنسانيّة لا يمكن أن تكون مجرّد ناتج عن تفاعلات مادّية، فالتجارب الروحيّة والشعور العميق بـ(الأنا) لا يمكن اختزاله بسهولة في ضمن النشاط العصبيّ للدماغ، فكثيرٌ من الفلاسفة يُشيرون إلى أنّ المشاعر مثل الحبّ، والإلهام، والتجارب القريبة من الموت، تؤكّد على وجود بُعد آخر للإنسان يتجاوز بعده المادّي. وليس الفلاسفة الدينيّون وحدهم من طرح فكرة امتلاك الإنسان للروح؛ بل إنّ بعض الفلاسفة البارزين أيضاً دافعوا عن هذه الفكرة، ومنهم أفلاطون (424-348 ق.م) ورينيه ديكارت (1596-1650م). إذْ يرى أفلاطون في (محاورة فيدون)، أنّ المعرفة الحقيقيّة ليست إلّا تذكّراً لِمَا كانت الروح تعرفه قبل الولادة، ويستند بهذا إلى وجود (الذكريات السابقة)، وهو ممّا يعني ضرورة وجود روح متعالية وُجدت قبل الجسد وستبقى بعده. [ينظر: (محاورة فيدون) ضمن ترجمة زكي نجيب محمود (دار المعارف المصريّة)].

وأمّا ديكارت، فقد طرح في القرن السابع عشر أطروحته (انفعالات النفس)، أو (عواطف النفس)، وفيها يناقش الفصل بين العقل بوصفه (جوهراً مفكّراً)، والجسد بوصفه مادّة، وقد ناقش الكتاب بفصوله الثلاث مختلف المشاعر التي يعرفها الإنسان في فترة أو أخرى من حياته، والكتاب متوفر بالعربية ترجمة جورج زيناتي، دار المنتخب العربي بيروت.

ثانياً في الإطار الدينيّ: يتحدّث القرآن عن الروح بشكل يختلف عن المادّة، إذْ يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً}، فالآية توحي بأنّ الروح جزءٌ من السرّ الإلهيّ المرتبط بالله، وأنّ إدراك الإنسان لها محدود بطبيعة العلم البشريّ، وهو ممّا يدعم كون الروح شيئاً منفصلاً عن المادّة ولا يخضع لقوانينها بالكامل. فمن منظور دينيّ تعدُّ التجربة الإيمانيّة جزءاً مهمّاً من الفطرة الإنسانيّة، ولا يمكن تفسير هذه المشاعر إلّا على أنّها جزءٌ من الروح والفطرة، فمشاعر الإيمان العميقة والإلهام من الصعب اختزالها بتفاعلات مادّية بحتة.

وفي إجابة سابقة نشرها مركزنا بعنوان (هل يمكن إثبات الروح بالتجربة العلميّة)، تناولنا بشيء من التفصيل الاختلاف الجوهريّ بين موضوعات العلم وغاياته وأثر ذلك على المناهج البحثيّة المستخدمة. ولقد أكّدنا حينها أنَّ الروح ليست من الكيانات المادّية التي يمكن إخضاعها لمنهج البحث التجريبيّ؛ فهي بطبيعتها غير مادّية وتخرج عن نطاق القوانين العلميّة التي تتعامل مع الظواهر المحسوسة. والحمد لله ربّ العالمين.