الإرهاب الفكري إشكالية نفسية أم فكرية
الإرهاب الفكري إشكالية نفسية أم فكرية:
مدخل: مصطلح الإرهاب الفكري من المصطلحات الحديثة التي تحتل مساحة واسعة في معظم المنابر الثقافية والإعلامية، وقد ترافق هذا المصطلح في الظهور مع بعض المصطلحات الاخرى التي تتحدث عن الحريات والحقوق والديمقراطية وغير ذلك من المصطلحات التي تؤسس للمساواة بين البشر في الحقوق المدنية والفكرية، ومن هنا يمكن تصنيف هذا المصطلح في الإطار التوجيهي والتربوي لكونه لا يؤسس لنظرية معرفية أو مبدأ فلسفي وإنما يعمل على تقويم السلوك الحضاري للإنسان، أي أنه يستهدف الإشارة إلى ظاهرة سلبية لها حضورها في مجمل الاجتماع الإنساني، حيث لا يخلو مجتمع من مظاهر الإرهاب الفكري سوى تجلى ذلك في الشأن الديني أو السياسي أو الاجتماعي. ويبدو أن الجمع بين كلمة الإرهاب وكلمة الفكر يشير إلى وجود علاقة سلبية بينهما، فإذا كانت الحرية من مقومات التفكير فإن الإرهاب يمثل تعدياً على تلك الحرية، وبالتالي يستبطن المصطلح حالة نقدية لا تعترف سلفاً باي نوع من أنواع العلاقة بين الإرهاب وبين الفكر، ومع أن ذلك مسلم به عند الجميع إلا أن الإرهاب الفكري يشكل حضوراً واضحاً في الواقع الإنساني، مما يعني أن المصطلح لا يعمل على احداث قناعة جديدة وإنما يعمل على إدانة سلوك يتفق الجميع على إدانته في المبدأ، ومن هنا نستبعد وجود من يدافع عن الإرهاب الفكري أو يعمل على التأصيل له دينياً أو ثقافياً أو سياسياً، الأمر الذي يؤكد على أن معالجة هذه الظاهرة يجب أن يستهدف الجانب النفسي في الإنسان قبل إي جانب فكري أو ثقافي؛ وذلك لأن الإنسان بنزعاته الغرائزية يميل إلى الزعامة ومصادرة حق الاخرين، فأنانية الإنسان واحتكاره للأشياء يدفعه لاتخاذ موقف سلبي من كل الأفكار التي تهدد مصالحه. وعليه إذا سلمنا بأن الاهواء النفسية هي التي تشكل الجذور الاصيلة لهذه الظاهرة السلبية، حينها لا تكون المعالجات الثقافية والفكرية ذات تأثير جدي في تفكيك هذه الظاهرة، ويبدو أن هذا التصور بخلاف ما هو سائد عند من تعرض لهذه الظاهرة، حيث نرى أن اكثر المعالجات المطروحة تستهدف التأصيل الفكري والثقافي لمبدأ الحرية وضرورة تساوي الفرص امام الجميع، وفي ظني أن ذلك لا يضع اليد على الخلل الحقيقي المتسبب في هذه الظاهرة؛ لأن المشكلة ليست في عدم إيمان الإنسان بأهمية الحرية وإنما في مصالحه التي تمنعه من الالتزام بهذا المبدأ، ومن هنا لا نُأصل في هذا المقال للحرية كمبدأ ولا نعمل على تشكيل إدانة فكرية وثقافية للإرهاب الفكري، وإنما ننطلق من كونها حقيقة واضحة وظاهرة مدانة في نظر الجميع، الأمر الذي يحتم علينا الكشف عن الدوافع النفسية التي تجعلها ظاهرة متفشية في المجتمعات الإنسانية.
مفهوم الإرهاب الفكري:
يعود الإرهاب الفكري إلى عدم احترام الرأي الآخر، ويتمظهر عدم الاحترام في اشكال متعددة تبدأ بالتسخيف وعدم الاهتمام وتنتهي بالعنف من اجل اسكاته ومصادرته، فقد جاء تعريفه في موقع الويكيبيديا: بأنه نوع من أنواع الأيديولوجية التي تؤمن بعدم احترام الرأي الآخر وتسلبه حقه بحرية التعبير وحرية العقيدة، وهو يحجر على العقول والحريات ويحرم عليها التعبير عن ذاتها بحجة أن هذا مخالف لثقافةٍ أو لمذهبٍ أو عقيدةٍ أو رأيٍ ما [1] . ومع أن هذا التعريف قد وصف مظاهر الإرهاب الفكري إلا أنه ربط ذلك بدوافع أيديولوجية الأمر الذي يمنح هذه الظاهرة قدراً من التبرير؛ لأن الأيديولوجية مهما كانت خاطئة إلا أنها في نظر من يمثلها تشكل دافعاً مقبولاً، بينما الإرهاب الفكري فعل مدان في كل الظروف بوصفه انحرافاً نفسياً يعبر عن غرور النفس ونرجسيتها، ومن هنا فإن اعتقاد الشخص بصوابيه أفكاره لا يمثل دافعاً مقبولاً لممارسة الإرهاب الفكري في حق الاخرين؛ لأن الاعتقاد بفكرة ما إذا كان قائماً على حجة عقلية ومبررات منطقية فإنه لا يغلق الباب على إمكانية البحث واكتشاف ما هو جديد، بل يدفعه ذلك لاختبار قناعاته بجعلها عرضة للنقد من قبل الاخرين، ومن هنا نجد الإنسان كلما ارتقى علمياً كلما تواضع للحقيقة، أما إذا كان اعتقاد الإنسان بصوابيه أفكاره قائم على هوى النفس فإنه سيؤدي بالطبع إلى حرمان الاخرين من التفكير، إلا أن السبب في ذلك ليس مجرد الاعتقاد بصوابيه الأفكار وإنما غرور النفس وانانيتها هو الذي يدفعه للتعدي على حقوق الاخرين، ومن هنا يمكننا القول إن اعتقاد الإنسان بأحقية أفكاره ليس امراً سلبياً طالما يقوم هذا الاعتقاد على مبررات علمية، وطالما لا يقطع الطريق أمام المسار التكاملي للمعرفة الإنسانية، فطبيعة المعرفة الإنسانية قائمة على تراكم الخبرات والتجارب، كما أن طريقة العقلاء تسمح في العادة بهامش للخطأ مهما كانت المعرفة جزمية، وبذلك نقطع الطريق أمام أي تبريرات خفية لهذه الظاهرة السلبية. ومن هذه الزاوية أيضاً لا اتفق مع فهد الطريس في تعريفه للإرهاب بقوله: (كل نشاط من شأنه أن يعمل على فرض رأي محدد، أو يجبر الاخرين على سلوك ما يعتقد من يقوم بممارسة النشاط
أنه صواب)[2] فمما لا شك فيه أن الإرهاب الفكري على مستوى الممارسة هو نشاط إنساني سوى كان هذا النشاط فردياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو اعلامياً، إلا أن ما يميز هذا النشاط أنه ينطلق من منطق القوة لا من قوة المنطق، وهذا ما لا ينسجم مع الاعتقاد بصوابيه الأفكار، فإذا اخذنا مثلاً دكتاتورية السلطة السياسية، أو تطرف الجماعات الدينية، أو سيطرة العصبيات القبلية، أو هيمنة التمايز الطبقي، لا يمكن اعتبار كل ذلك بسبب التأثير الذي تحدثه نشوة امتلاك الحقيقة، وإنما يعود في الاساس إلى نفسية تميل إلى الاستفراد واحتكار المصالح وبالتالي مصادرة حقوق الاخرين، ومن هنا يمكننا أن نرجع الإرهاب الفكري إلى سيطرة الغرائز وهيمنة الهوى، والمفهوم الذي يمكن أن نصف به هذه الظاهرة يمكن التعبير عنه بالقول: (إن الإرهاب الفكري حالة نفسية تعبر عن حب الإنسان للهيمنة والسيطرة ومن مظاهر ذلك فرض الرؤية الخاصة ومصادرة أراء الاخرين بكل الوسائل المتاحة)
التحليل النفسي للإرهاب الفكري:
هناك عوامل كثيرة ومتداخلة عملت جميعها على بناء شخصية الإنسان مثل الوراثة والتربية والمحيط الاجتماعي والسياسي والبيئة وغير ذلك، وعليه فمن الطبيعي أن نلحظ الاختلاف والتمايز بين شخصيات البشر، ومن المعلوم أن شخصية الإنسان لها الأثر الكبير في تحديد خيارات الإنسان الفكرية والسلوكية؛ وذلك لأن شخصية الإنسان تشكل دور الوسيط بين الإنسان وبين الحقائق الخارجية، فنجد الإنسان يميل إلى اشياء وينفر من أشياء أخرى، والذي يتحكم في كل ذلك هو حب الذات أو هوى النفس بحسب التعبير القرآني، وعندما تتحكم الذات لا يمكنها رؤية الأشياء بشكل موضوعي، فلا يرى الإنسان الفاصلة بينه وبين الأشياء وإنما يرى نفسه في كل شيء، وحينها يصبح اهمال حقوق الاخرين ومصادرته نتاج طبيعي لتحكم تلك الذات، وبما أن القدرة والسلطة لا تتوفر للجميع لذا نجد هذه الظاهرة تنحصر عند من له سلطة سياسية أو عسكرية أو مالية أو جهوية، أما بقية الناس ففي العادة تتشكل في ما بنيهم مجموعات سوى كانت برابط العرق أو الدين أو رابط سياسي أو مصلحة مشتركة فتكون في ما بينها قوة تصادر بها حقوق الأقلية، وهكذا هو الغالب في حياة البشر سوى كان يعيش في مجتمعات بدائية أو مدنية، بل قد لا نستثني حتى النظم السياسية الحديثة التي تُحدث نوعاً من التوازن لحقوق المواطنين خوفاً من الفوضى التي تضيع معها مصالح النخب السياسية والمالية، وعليه فإن حب الذات هو المسؤول عن تولد كل الصفات النفسية السيئة فالكبر والحسد والتعصب والعنصرية وغيرها هي التي تشكل الجذر الطبيعي للإرهاب الفكري.
الإسلام والإرهاب الفكري:
من خلال ما تقدم يتضح أنه لا وجود لعقيدة أو فكر أو أي تصور معرفي يشكل تبريراً لظاهرة الإرهاب الفكري، وما نلاحظه من حضور لهذه الظاهرة في التوجهات الدينية والسياسية لا علاقة له بطبيعة الأفكار الدينية والسياسية وإنما يعود إلى الإنسان بوصفه ذات تسكنها الانانية وحب السيطرة، الامر الذي يؤكد عدم مسؤولية فكر بعينه عن هذه الظاهرة، وعليه نرفض كل المحاولات التي تحاول لصق الإرهاب بالإسلام كما نرفض محاولات الجماعات المتطرفة التي تحاول أن تبرر لإرهابها إسلامياً، وقد اكدت كثير من الدراسات لظاهرة الإرهاب على مدى تأثير العقد النفسية والانحرافات التربوية على انضمام الشباب لصفوف الجماعات المتطرفة، وعليه فإن الإرهاب سوى كان فكرياً أو دموياً يحتاج إلى معالجات نفسية قبل أي معالجات فكرية، والإسلام بوصفه مشروع أخلاقي يعمل على تهذيب النفس وتربيتها يُعد الاصلح لمحاربة هذه الظاهرة، ولذا جعل الإسلام تزكية النفس مقدمة للعلم، قال تعالى: (يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحِكمة)، كما اشترط الإسلام لانطلاق الإنسان في رحاب الحق التخلي عن كل العقد التي تثقل ظهره، قال تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، فالغرور والتكبر والحسد والانانيات والعنصرية وكل النزعات الجاهلية تشكل اغلال تمنع الإنسان من الرؤية الموضوعية للأشياء، وفي المقابل أن توحيد الله هو الذي يعيد للإنسان توازنه؛ لأن الاعتراف بالله يستتبع الاعتراف بخلقه وهو بدوره يشكل الأساس لحقوق الجميع، ومن هنا حذرنا الله من عبادة الطاغوت والركون للظالمين حتى يبعد الإنسان من سيطرة الهوى وغلبة الشهوات، ومع أن الإسلام يمثل الحق المطلق إلا أنه لم يمارس الاكراه مع من يختلف معه، حيث قال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وقال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)، وقد اعتمد في دعوته على الحٍكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وقد اختصرت مهمة الرسول على الإبلاغ والتذكير بالحق قال تعالى(طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) وقال: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) وغير ذلك من الآيات التي تؤكد ابتعاد الإسلام عن ممارسة الإرهاب الفكري في حق المخالفين، بل نجد آيات القرآن قد أوردت حجج المخالفين ومنحتها من القداسة كما هو حال بقية الآيات، حيث لا يجوز للإنسان المسلم مسها من غير وضوء مع أنها تعبر عن رأي المخالفين، وعندما خاطب الرسول الاكرم الكفار لم يقل لهم أنه الحق وأنتم الباطل وانما قال (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، وعليه فان كل الممارسات السلبية من قبل بعض المسلمين وكل العنف والإرهاب الذي مورس في حق الاخرين يعبر عن نفسيات منحرفة لأصحابها ولا علاقة للإسلام كدين بها.
اترك تعليق