هل سُقي خُويلد الخمر لغرض تزويج بنته؟
السؤال: روي في كتب السيرة النبويّة أنَّ خُويلداً والد السيِّدة خديجة (عليها السلام) رفض تزويجها من الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، فسقت والدها الخمر، فلمَّا ثمل وافق على زواجها منه، فهل تصحُّ هذه الرواية؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد في مسند أحمد ـ وغيره ـ من كتب العامَّة، واللّفظ لأحمد قال: (حدَّثنا أبو كامل، حدَّثنا حمّاد بن سَلَمة، عن عمَّار بن أبي عمَّار، عن ابن عبَّاس، فيما يحسب حمّاد: أنَّ رسول الله (ص) ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب أنْ يزوِّجه، فصنعت طعاماً وشراباً، فدعت أباها وزمراً من قريش، فطعموا وشربوا حتَّى ثملوا، فقالت خديجة لأبيها: إنَّ محمَّد بن عبد الله يخطبني، فزوِّجني إيّاه؟، فزوَّجها إيّاه، فخلعته وألبسته حلّة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء، فلما سرِّي عنه سكره نظر فإذا هو مخلق وعليه حلّة، فقال: ما شأني، ما هذا؟ قالت: زوَّجتني محمَّد بن عبد الله، قال: أنا أزوِّج يتيم أبي طالب؟! لا لعمري، فقالت خديجة: أمَا تستحي، تريد أنْ تسفِّه نفسك عند قريش؟، تخبر الناس أنّك كنت سكراناً؟! فلم تزل به حتَّى رضي) [مسند أحمد ج3 ص262، ط دار الحديث].
أقول: ولنا على هذه الرواية ـ ونظيرها ـ عدَّة ملاحظات، نذكرها ضمن أمور:
الأمر الأوَّل: لقد ناقش جملة من علماء أهل العامَّة في أسانيد تلكم الروايات الواردة في هذا المعنى، وانتهوا إلى ضعفها من الناحية الرجاليّة، فقد علَّق عليها المحقّق أحمد شاكر بقوله: (إسناده فيه نظر، والأقرب أنّه ضعيف) [يُنظر: مسند أحمد ج3 ص262، ط دار الحديث]. وقال المحقّق شعيب الأرنؤوط: (إسناده ضعيف، فقد شكّ حمّاد بن سلمة في وصله) [مسند أحمد ج5 ص47، ط الرسالة].
الأمر الثاني: هناك نقل لهذه القصَّة لم يذكر أمر الإسكار المذكور، ولذلك يكون مُعارِضاً للنقل المتقدِّم، ومع تعارض النقلين وعدم وجود المرجِّح سوف يتساقط النقلين ولا يكونان حُجَّة.
فمن ذلك: ما نقله ابن هشام، ونصُّه: (قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال...ثمَّ باع رسول الله (ص) سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أنْ يشتري، ثمَّ أقبل قافلاً إلى مكَّة ومعه ميسرة... فلمَّا قدم مكَّة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فأضعف أو قريباً...فلمَّا قالت ذلك لرسول (ص) ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطَّلب (رحمه الله) حتَّى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه، فتزوَّجها) [سيرة ابن هشام ج1 ص187].
الأمر الثالث: لقد صرَّح جمعٌ من علماء العامَّة بأنَّ (خويلداً) والد السيِّدة خديجة قد مات في حرب الفِجَار، أي مات قبل حادثة الزواج المذكور بزمان، وهو ممّا يكشف عن عدم صحَّة هذه القصَّة من الأساس، من ذلك:
1ـ ما نقله الطبريّ عن الواقديّ، إذْ قال: (قال الواقديّ: ويقولون أيضاً: إنَّ خديجة أرسلت إلى النبيّ (ص) تدعوه إلى نفسها ـ تعني: التزويج ـ وكانت امرأة ذات شرف...فدعت أباها فسقته خمراً حتَّى ثمل، ونحرت بقرة وخلَّقته بخلوق، وألبسته حلّة حبرة، ثمَّ أرسلت إلى رسول الله (ص) في عمومته، فدخلوا عليه، فزوَّجه...قال الواقديّ: وهذا غلط، والثبت عندنا المحفوظ من حديث محمَّد بن عبد الله بن مُسلم، عن أبيه، عن محمَّد بن جبير بن مطعم. ومن حديث ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ومن حديث ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، أنَّ عمَّها عمرو بن أسد زوَّجها رسول الله (ص) وأنَّ أباها مات قبل الفِجَار) [تاريخ الطبريّ ج2 ص282].
2ـ ما روي في الطبقات لابن سعد بعدَّة أسانيد أنَّ (عمَّها [أي السيِّدة خديجة] عمرو بن أسد زوَّجها رسول الله (ص)، وإنَّ أباها مات قبل الفِجَار) [الطبقات الكبرى ج1 ص132].
3ـ وما نقله ابن الأثير، ونصُّه: (وقد ذكر الزهريّ في سيره: أنَّ أباها [خُويلد] زوَّجها منه وهو سكران، وذكر نحو ما تقدَّم، حكاه السهيليّ. قال الموصليّ: المجتمع عليه أنَّ عمَّها عمرو بن أسد هو الذي زوَّجها منه. وهذا هو الذي رجَّحه السهيليّ، وحكاه عن ابن عبَّاس وعائشة، قالت: وكان خويلد مات قبل الفِجَار) [البداية والنهاية ج3 ص468].
4ـ وما نقله أبو القاسم السهيليّ، ونصُّه: (فصلٌ: وذكر مشي رسول الله (ص) إلى خويلد بن أسد مع عمِّه حمزة (رضي الله عنه)، وذكر غير ابن إسحاق: أنَّ خويلداً كان إذ ذاك قد هَلك، وأنَّ الذي أنكح خديجة (رضي الله عنها) هو عمُّها عمرو بن أسد، قاله المبرَّد وطائفة معه...والذي قاله المبرَّد هو الصحيح، لما رواه الطبريّ عن جُبير بن مُطعم، وعن ابن عبَّاس، وعن عائشة...أنَّ عمرو بن أسد هو الذي أنكح خديجة رسول الله (ص)، وأنَّ خويلداً كان قد هَلك قبل الفِجَار) [الروض الأنف ج2 ص238].
5ـ وما قاله السيِّد جعفر العامليّ (طاب ثراه)، ونصُّه: (فذهب أبو طالب في أهل بيته، ونفر من قريش إلى وليِّها، وهو عمُّها عمرو بن أسد، لأنَّ أباها كان قد قُتل قبل ذلك في حرب الفِجَار أو قبلها...وعلى كلِّ حال فقد خطبها أبو طالب له قبل بعثة النبيّ (ص) بخمس عشرة سنة، على المشهور) [الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم ج2ص 108].
والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم: هي عدم صحَّة قصَّة الإسكار المذكورة وفق المعطيات العلميَّة الصحيحة. والحمد لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق