هل وجود الله ضرورة عقليّة أو مجرّد فرضيّة قابلة للتفسير؟
السؤال: هل وجود الله ضرورة عقليّة لا يمكن للإنسان أنْ يتجاوزها، أو أنّه مجرّد فرضيّةٍ قابلةٍ للتفسير والقبول أو الرفض حسب الاجتهادات الفكريّة المختلفة؟
الإجابة:
من أجل معالجة مسألة ضرورة وجود الله، يجب أن نبدأ بتوضيح مفهوم (الضرورة) في السياق الفلسفيّ والمنطقيّ، حيث لا تقتصر الضرورة على الحتميّة التي لا مفرّ منها، بل تشير إلى ما يستحيل تخيّله أو تصوّره دون أن يؤدّي ذلك إلى تناقض داخليّ. ففي الفلسفة، عندما نقول: إنّ هناك ضرورة، فإنّنا نعني أنّ هناك أمراً لا يمكن أن يكون نقيضه موجوداً في الوقت نفسه أو في السياق نفسه، وهذا يعني أنّ ضرورة الوجود تتّصل بأمور لا يمكن أن تكون غير موجودة دون أن ينشأ عن ذلك تناقض. وبناءً على هذا الفهم، نميّز بين نوعين من الضرورة: الضرورة المنطقيّة والضرورة الوجوديّة، حيث يرتبط كلٌّ منهما بمفهومٍ مختلف.
فالضرورة المنطقيّة تتعلّق بالقضايا التي لا يمكن تصوّر نقيضها دون الوقوع في التناقض، مثل القضايا الرياضيّة أو المنطقيّة التي تستند إلى قواعد صارمة لا يمكن أن تتعارض مع نفسها. فعندما نثبت قضيّة منطقيّة، فإنّنا لا نترك مجالاً للشكّ في صحّتها، إذ إنّ نفيها يتعارض مع مبدأ أساسٍ في التفكير، وهو مبدأ عدم التناقض. وهكذا تكون الضرورة المنطقيّة مرتبطة بما هو عقليّ وقائم على مبادئ المنطق التي لا تسمح بوجود نقيض للموجود.
جاء في الموسوعة العربيَّة على موقعهم في الانترنت: "الضرورة المنطقيَّة أو العقليَّة: وهي ضرورة استنباطيَّة لزوميَّة، ترتكز على مبدأ عدم التناقض، فإما أن تكون القضية منطقيَّة، فيكون صدقها ضرورياً ونقيضها كاذباً بالضرورة (مناقضاً لذاته)، أو لا تكون ضرورية على نحوٍ منطقيٍّ، فيكون نقيضها ممكناً صدقه ولو كذب. وتقال على الأحكام و القضايا حصراً، ويطلق عليها المناطقة المحدثون اسم القضايا أو الأحكام التحليلية، أي التي تتحدد قيمة صدقها من خلال اتساق الألفاظ الداخلة في تركيبها، أي اتساق الموضوع والمحمول أو عدم اتساقهما، وتدخل ضمنها الضرورة الرياضيَّة"
https://arab-ency.com.sy/ency/details/6992/12
أمّا الضرورة الوجوديّة، فهي ترتبط مباشرة بمفهوم الوجود ذاته، إذ تتعلّق بتحديد ما إذا كان الوجود واجباً أو ممكناً. فوجود الواجب هو الوجود الذي لا يمكن أن يتصوّر عدمه، وبالتالي هو وجود حتميّ، لا يمكن تصوّر كونه مغايراً أو مفقوداً. في حين أنّ الوجود الممكن هو ذلك الذي يحتاج إلى سبب أو مسبّب ليحصل على الوجود، أيْ أنّ وجوده ليس ضروريّاً في ذاته بل يتوقّف على مسبّبٍ خارجيٍّ ليكون موجوداً. وعليه، فإنّ وجود أيّ شيء ممكن في هذا الكون لا يكون مستنداً إلى ذات الشيء بل إلى شيءٍ آخر يضمن وجوده.
يقول السيد الطباطبائيُّ في نهاية الحِكمة: "وهذه قضيةٌ منفصلةٌ حقيقية مقتنصة من تقسيمين دائرين بين النفي والإثبات بأن يقال: (كل مفهوم مفروض فإما أن يكون الوجود ضرورياً له أو لا. وعلى الثاني فإما أن يكون العدم ضروريا له أو لا. الأول هو الواجب، والثاني هو الممتنع، والثالث هو الممكن). (والذي يعطيه التقسيم من تعريف المواد الثلاث أنَّ وجوب الشيء كون وجوده ضروريا له، وامتناعه كون عدمه ضروريا له، وإمكانه سلب الضرورتين بالنسبة إليه، فالواجب ما يجب وجوده، والممتنع ما يجب عدمه، والممكن ما ليس يجب وجوده ولا عدمه) [نهاية الحِكمة ص 55]
وعندما نتحدّث عن وجود الله، فإنّنا نتطرّق إلى ضرورة الوجود في جوهره، لأنّنا إذا نظرنا إلى الكون وكلّ ما فيه من أشياء مادّية وغير مادّية، نجد أنّ كلّ هذه الأشياء هي موجوداتٌ ممكنةٌ، بمعنى أنّه كان بإمكانها أنْ لا تكون موجودةً في الأساس. ولذلك يبرز السؤال: ما الذي يضمن وجود هذه الأشياء؟ فالموجودات التي يمكن أن تكون غير موجودة في أيّ وقت، لا بدّ لها من مسبّب يضمن وجودها ويمنحها سبباً ثابتاً للبقاء، وبذلك نصل إلى حقيقة أنّ الوجود الممكن لا يملك من نفسه ضرورة الوجود، بل يعتمد في وجوده على شيء آخر، وقد عقد السيد الطباطبائيُّ في كتابه نهاية الحِكمة فصلاً خاصاً في ذلك تحت عنوان "الشيء ما لم يجب لم يوجد" يمكن مراجعته في صفحة 74.
ولو نظرنا إلى الكون بمجموعه، من الكواكب والنجوم إلى الكائنات الحيّة، لوجدنا أنّ كلّ هذه الأشياء لا تملك وجوداً ذاتيّاً مستقلّاً. فهي موجودات ممكنة وليست واجبة الوجود من ذاتها.
ومن هنا، تصبح ضرورة وجودِ مسبِّبٍ أوّلٍ ضروريٍّ يتجلّى في الله سبحانه وتعالى أمراً لا مفرّ منه،؛ لأنّ وجود هذه الموجودات مرهونٌ بوجوده الذي يعدُّ وحده وجوداً واجباً لا يمكن أن يتصوّر عدمه.
وعليه، فعندما نقول: إنّ (وجود الله ضرورة)، فإنّنا نقصد أنّ الله هو المسبّب الأوّل وواجب الوجود، وهو الذي لا يمكن تصوّر عدمه. وفي المقابل، إذا افترضنا عدم وجود الله، فإنّ ذلك يعني أنّ هذه الموجودات التي نراها في الكون يمكن أن تكون موجودة بسبب علّة أخرى، وهكذا نستمرّ في سلسلة من الأسباب والمسبّبات التي لا نهاية لها، وهو ما يُعـدُّ أمراً غير معقول عقلاً، لأنّ التسلسل اللانهائيّ لا يمكن قبوله منطقيّاً. وهذا يبرهن على ضرورة وجود مسبّب أوّل لا يحتاج إلى سبب آخر، وهذا المسبّب هو واجب الوجود الذي هو الله سبحانه وتعالى.
علاوة على ذلك، وجود الله كسببٍ رئيسٍ للكون يمكن أن يُفسّر على أنّه ضرورة فلسفيّة ووجوديّة. فجميع التفسيرات التي تذهب إلى أنّ الكون يمكن أن ينشأ عن (صدفة) أو أنّ الطبيعة هي التي أوجدت نفسها تظلّ تفسيرات غير كافية، لأنّ هذه التفسيرات لا تضمن سبباً ثابتاً وضروريّاً لوجود الكون. ومن هنا، يُستخلص أنّ (وجود الله) ليس مجرّد فكرة يمكن نقضها أو تصوّر نقيضها، بل هو ضروريّ في سياق تفسير وجود الكون.
وفي المحصلة، وجود الله ليس مجرّد فرضيّة يمكن مناقشتها أو الجدل حولها بشكل غير محسوم، بل هو ضرورة عقليّة ووجوديّة لا يمكن تصوّر الكون والوجود من دونها، ولا يمكن لأيّ تفسير أن يظلّ متماسكاً أو معقولاً من دون الاعتراف بوجود (واجب الوجود)، وهو الله سبحانه وتعالى.
اترك تعليق