دور الإمام الكاظم (ع) في تثبيت العقيدة

السؤال: ما هو الدور العقائديّ للإمام الكاظم (ع)؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد عمل الإمام الكاظم (ع) على عدّة جهاتٍ عقائديّة، تصدّى لبعضها بنفسه (ع)، وللبعض الآخر من خلال تلامذته الذين احتضنهم وربّاهم وأعدَّهم علماء ربّانيين ومتكلّمين بارعين في علم الكلام والمناظرات من أمثال: هشام بن الحكم، وهشام بن سالم، ومحمّد بن عليّ بن النعمان (مؤمن الطاق)، والضحّاك الحضرميّ، وغيرهم: ويمكن تخليص الدور العقائديّ للإمام (ع) من خلال ما يأتي:

الجهة الأولى: الحفاظ على عقيدة التوحيد في الذات والصفات والأفعال

فإنّ عصر الإمام الكاظم (ع) اتّسم بحراكٍ عقائديٍّ واسع النطاق، فكانت هناك عدّة تيّاراتٍ عقديّةٍ وفلسفيّةٍ منحرفة، أشاعت الكفر والشرك والزندقة والمنكرات والفواحش بمختلف أنواعها، ومنها الزرادشتيّة والمانويّة وكلاهما قائلٌ بوجود إلهين اثنين، والمزدكيّة القائمة على الإباحيّة ونفي قيم الأخلاق [ينظر: الملل والنحل للشهرستانيّ ج1 ص249].

الإمام يُجنّد تلامذته

قام الإمام (ع) بتجنيد خيرة تلامذته لمناظرة أصحاب هذه الحركات وإبطالها، وبسبب هذا الحراك الواسع قامت السلطة بتصنيف متكلّمي الشيعة على أنّهم من أصحاب الأهواء والضلال؛ لذا منع الإمام أصحابه من الكلام لوقتٍ ما، فقد جاء عن هشام بن الحكم: «أنّ أبا الحسن (ع) بعث إليه فقال له: كُفَّ هذه الأيام عن الكلام فإنّ الأمر شديد، قال هشام: فكففت عن الكلام حتّى مات المهديّ وسكن الامر» [ينظر: رجال الكشّيّ ج2 ص542، الأئمّة الاثنا عشر للأديب ص185].

كما أنّ الإمام (ع) تصدّى بنفسه لبيان عقيدة التوحيد، والصفات الإلهيّة، إذْ بيّن لهم أنّه تعالى لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه، وأوضح كذلك المشيئة والإرادة والفعل الإلهيّ، فمن ذلك ما رواه الصدوق بإسناده إلى محمّد بن أبي عمير قال: «دخلت على سيّدي موسى بن جعفر (ع)، فقلت له: يا ابن رسول الله علّمني التوحيد.

فقال: يا أبا أحمد! لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في كتابه فتَهلَك، واعلم أنَّ الله تعالى واحدٌ أحدٌ صمدٌ، لم يلد فيُورَث، ولم يُولد فيشارك، ولم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ولا شريكاً...، وإنّه لا تُقدِّره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأقطار، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير...، وهو القديم وما سواه مخلوق مُحدَث، تعالى عن صفات المخلوقين علوّاً كبيراً»

[توحيد الصدوق ص76، وللمزيد ينظر: مسند الإمام الكاظم ج1 ص255].

وعلى صعيدٍ آخر برزت عقيدة التجسيم آنذاك، بعدما وضع أتباعها أحاديث مكذوبة زعموا من خلالها أنّ الله تعالى جسمٌ يتحرّك تماماً كما يتحرّك الإنسان وينتقل من مكانٍ لآخر!، فاشتبه الأمر على عوامّ الأمّة واعتقد بها كثيرون، فنهض الإمام (ع) بمسؤوليّة التصدّي لهذه العقيدة الضالّة وبيّن فسادها بالأدلّة والبراهين وحذّر منها، فعن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي إبراهيم (ع) قال: «ذُكر عنده قوم يزعمون أنّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا !، فقال: إنّ الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل...، أمّا قول الواصفين: إنّه ينزل تبارك وتعالى فإنّما يقول ذلك من يَنسبه إلى نقص أو زيادة، وكلّ متحرّكٍ محتاجٌ إلى من يحرّكه أو يتحرّك به، فمَن ظَنّ بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أنْ تقفوا له على حدٍّ تحدّونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرُّك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود، فإنَّ الله جلّ وعزّ عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين وتوهّم المتوهّمين، وتوكّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين» [الكافي ج1 ص125].

الجهة الثانية: بيانه(ع) لمقامات وخصائص النبيّ الأكرم (ص)

حيث كان بعض المسلمين يعتقد أنّ صدور المعاجز عن الأنبياء السابقين (ع) تعني أفضليّتهم على رسول الله (ص) فقد روى الكلينيّ بإسناده إلى إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبيه، عن أبي الحسن الأول (ع) قال: قلتُ له: «جعلتُ فداك، أخبرني عن النبيّ ص ورث النبيّين كلهم ؟ قال : نعم ، قلتُ : من لدن آدم حتّى انتهى إلى نفسه ؟ قال: ما بعث الله نبيا إلّا ومحمدٌ (ص) أعلم منه. قال: قلت: إنّ عيسى ابن مريم كان يحيى الموتى بإذن الله! قال: صدقت، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير وكان رسول الله (ص) يقدر على هذه المنازل.. الخبر» [الكافي ج1 ص226].

الجهة الثالثة: تحصين عقيدة الإمامة الإلهيّة من خلال:

أوّلاً: إبطال دعوى كلّ مَن ادّعى الإمامة

حيث ادّعى غير واحدٍ من أهل الضلال الإمامة لنفسه، وكان من أبرز هؤلاء عبد الله الأفطح، فتصدّى الإمام (ع) لهذه المسألة ووضع القواعدَ والعلامات يُعرف من خلالها مَن كان إماماً أو ليس بإمام؛ ليستفيد منها الشيعة في قادم الأزمان، ففي خبر أبي بصير قال: «قلت لأبي الحسن (ع): جُعلت فداك بِمَ يُعرف الامام؟ قال: فقال: بخصالٍ: أمّا أولها: فإنّه بشيءٍ قد تقدّم من أبيه فيه بإشارةٍ إليه لتكون عليهم حجّةً، ويُسأل فيُجيب وإنْ سُكت عنه ابتدأَ، ويُخبر بما في غدٍ، ويُكلّم الناس بكل لسان...

ثمّ قال لي: يا أبا محمّد! إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحدٍ من الناس ولا طيرٍ ولا بهيمةٍ ولا شيءٍ فيه الروح، فمَن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام» [قرب الإسناد ص339، الكافي ج1 ص285]، وقوله: «بشيء قد تقدّم من أبيه» يعني: أن يكون منصوصاً عليه من قبل الإمام السابق.

ثانياً: الإسهام في إحباط دعاوى المهدويّة:

فقد تصدّى الإمام إلى هذه المؤامرة فنشر الكثير من الأحاديث المهدويّة، وثقّف الناس على أنّ المهدي (عجّل الله فرجه) غير مولودٍ في ذلك العصر وأنّ عصره سيكون متأخر كثيراً، كما أنّ له غيبة يطول أمدها، تجعل الناس في حيرةٍ بين مَن يقول هو مولود، ومَن يقول لم يولد بعد، وجميع هذه العلامات لا تنطبق على أحدٍ من المدّعين.

فمن ذلك ما رواه العبّاس بن عامر القصبانيّ قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (ع) يقول: «صاحب هذا الأمر، مَن يقول الناس لم يُولد بعد» [كمال الدين ص360].

ومنه ما عن يونس بن عبد الرحمن قال: «دخلت على موسى بن جعفر (ع) فقلت له: يا ابن رسول الله! أنت القائم بالحقّ؟ فقال: أنا القائم بالحقّ، ولكنّ القائم الذي يُطهّر الأرض من أعداء الله عزّ وجلّ ويملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً، هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتدُّ فيها أقوامٌ ويثبت فيها آخرون.. الخبر» [المصدر السابق].

وبمثل هذه الروايات استطاع الإمام إحباط محاولات مدّعي المهدوية، كالعبّاسيّين وغيرهم [ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر ج2 ص543، معجم أحاديث الإمام المهدي (عجّ) ج1 ص178].

ثالثاً: التصدّي لمحاولة بني العبّاس مصادرة صفة (ذوي القربى)!

فلقد أشاع العبّاسيّون في أوساط العامّة من الناس أنّهم أولى الخلق برسول الله (ص)، وأنّهم قرابته المعنيّين بجميع الآيات والروايات الواردة في أهل بيته وعترته!، وهو ممّا يُلزم الأمّة بتوجيه بوصلة الإمامة والولاية والنصرة والمودّة إلى بني العبّاس لا إلى غيرهم!، ولقد سعى هارون العبّاسيّ بنفسه إلى إشاعة ذلك أمام أعيان الأمّة ووجهائها أكثر من مرّة، فتصدّى له الإمام (ع) وأحبط محاولاته، فمن ذلك مثلاً: «أنّه حجّ هارون العبّاسيّ، وبعد الفراغ من المناسك أتى قبر النبيّ (ص) زائراً له، وحوله قريشٌ وأفياء القبائل، وكان الإمام (ع) معه هناك، فلمّا انتهى هارون إلى القبر قال: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عمِّ. افتخاراً على من حوله، فدنا الإمام من قبر جدّه وقال: السلام عليك يا أبه. فتغيّر وجه هارون وتبيّن الغيظ فيه!» [الإرشاد ج2 ص234، تاريخ بغداد ج29 ص50].

ومنها المناظرة الطويلة التي جرت بينهما في قصر الخلافة، في موضوع القربى ويرويها الإمام بنفسه (ع)، ومن جملتها قول هارون: «..قال: لِمَ جوزّتم للعامّة والخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول الله (ص) ويقولون لكم: يا بني رسول الله (ص) وأنتم بنو عليّ وإنّما يُنسب المرء إلى أبيه؟!، وفاطمة إنّما هي وعاء، والنبيّ (ص) جدّكم من قِبَل أمّكم؟

فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أنّ النبيّ (ص) نُشر فخطب إليك كريمتَك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله ولم لا أجيبه؟ بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

فقلت له: لكنّه (ص) لا يخطب إليّ ولا أزوّجه.

فقال: ولم؟ فقلت: لأنّه (ص) ولدني ولم يلدك» [عيون الأخبار ج1 ص78، أخبار الدول ج1 ص339].

الجهة الرابعة: التصدّي لعلماء المذاهب الأخرى وأصحاب الأهواء

فقد تنامت في عصر بني العبّاس المتاجرة بالدّين من قبل فقهاء السوء وأئمّة الضلال الموالين للسلطة حتّى صارت لهم أتباع ومذاهب؛ كأمثال أبي حنيفة ومالك بن أنس وسفيان الثوريّ وغيرهم، فحذا (ع) حذو الإمامين الباقرين (ع) في التصدّي لذلك وتحذير الشيعة من الرجوع إليهم أو أخذ الدين عنهم فقهاً وعقيدة وأخلاقاً، فمن ذلك ما ذكره عليّ بن سويد فقال: «كتب إليَّ أبو الحسن (ع) وهو في السجن: وأمّا ما ذكرت يا عليّ ممَّن تأخذ معالم دينك، لا تأخذنَّ معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنك إن تَعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين، الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله، فحرّفوه وبدّلوه، فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله ولعنة ملائكته، ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة» [رجال الكشّي ج1 ص7].

بل قد عمل الإمام (ع) على منع أتباع التشيّع عن مجرّد مخالطتهم، فعن سليمان بن جعفر الجعفري قال: «سمعتُ أبا الحسن (ع) يقول لأبي: ما لي رأيتُك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ قال: إنّه خالي، فقال له أبو الحسن (ع): إنّه يقول في الله قولاً عظيماً، يصف الله تعالى ويحدّه، والله لا يوصف!، فإمّا جلستَ معه وتركتنا، وإمّا جلستَ معنا وتركتَه!. فقال: إنْ هو يقول ما شاء أيُّ شيء عليَّ منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال له أبو الحسن (ع): أما تخافنَّ أنْ تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً؟» [أمالي المفيد ص112].

الجهة الخامسة: النصّ على إمامة الإمام الرضا (ع)

من أهم الجهات التي اهتمّ بها الإمام (ع) مسألة الحفاظ على ما تمّ إنجازه وتحصيله من مكتسبات للمذهب منذ عصر الدعوة على عصره هو؛ ولأجل استمرار ذلك فقد نصّ على إمامة ولده الرضا (ع) ووجّه ثقات شيعته بضرورة الرجوع إليه والأخذ عنه، فحفظ بذلك مستقبل التشيّع وأتباعه، وصان المنجزات من الضياع، وقد روى الكلينيّ ست عشرة رواية في ذلك، منها ما عن محمد بن الفضيل قال: «حدّثني المخزوميّ - وكانت اُمّه من ولد جعفر بن أبي طالب - قال: بعث إلينا أبو الحسن موسى (ع) فجمعنا ثمّ قال: أتدرون لِمَ دعوتكم؟ فقلنا: لا. قال: اشهدوا أنّ ابني هذا وصيّي والقيّم بأمري وخليفتي من بعدي، من كان له عندي دَينٌ فليأخذه من ابني هذا، ومن كان له عندي عِدَةٌ فليُنجزها منه، ومن لم يكن له بدٌ من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه» [الكافي ج1 ص312].

هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام والحمد لله ربّ العالمين.