مراحل عمل الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)
السؤال: ماذا قَدَّمَ أَئمّةُ الرّوافضِ: عليٌّ والحسن والحسين والآخرون[عليهم السلام] للإسلام والمسلمين..؟، وما هي إنجازاتهم..؟، فهل فتحوا البلدان كما فعل أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ومَن تلاهم..؟!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد،
فللوقوف على منجزات الأئمّة الأطهار (عليه السلام) التي قدّموها للإسلام بوصفه الرسالة الخاتمة والفرصة الأخيرة للبشريَّة لابدّ أوّلاً من الإحاطة بسيرتهم(عليهم السلام) عن كثب، وإلّا فمن الطبيعيِّ جدّاً أنْ يجحد المخالفون فضلهم؛ فإنّ الناس أعداء ما جهلوا، كما لابدّ للمسلم أنْ يكون بريئاً من مرض التعصّب ومتجرّداً عن الانحياز الطائفيِّ ليتمكّن من الإقرار بمنجزاتهم (عليهم السلام)، وإلّا فإنّ من الناس من ينكر البديهيّات على وضوحها، قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل/14]؛ من أجل ذلك يدور الجواب هنا - وباختصارٍ شديدٍ - على أبرز منجزات الأئمة (عليهم السلام) التي توزّعت على خمس مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الإسهام في مواجهة الخطر الخارجيِّ والعمل على تثبيت الدعوة الإسلاميَّة بالوقوف إلى جنب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بوجه منكريها من المشركين وأهل الكتاب، وقد ساهم في ذلك ثلاثةٌ من الأئمّة هم أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام)، ولعلَّ من أبرز منجزاتهم: مبيت أمير المؤمنين(عليه السلام) على فراش النبيّ(صلّى الله عليه وآله) حتّى باهى الله به الملائكة [يُنظر: شواهد التنزيل ج1 ص123، أُسد الغابة ج4 ص24 وغيرهما]، وجهاده في سبيل الله حتّى روى ابن كثير عن أهل السُّنن نداءَ جبرئيل:« لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي »[انظر: البداية النهاية ج6 ص6، السيرة النبويّة لابن هشام ج3 ص615، المناقب للخوارزميّ ص37، تاريخ الطبريّ ج2 ص197]، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل جهاده(عليه السلام): « لَمُبارزةُ عليٍّ بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودٍّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة »[المناقب للخوارزمي ص107، تفسير الرازي ج32 ص31]، ومنها تبليغه سورة براءة (التوبة) حين دخل مكّة وحده في موسم الحجّ ليُعلِنَ أمام صناديد العرب البراءةَ من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر قبل مقاتلتهم وقتلهم [ينظر: مسند أحمد ج1 ص150، سُنن النسائيّ ج5 ص129، مجمع الزوائد ج3 ص230]، ومنها خروجهم مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله) لمباهلة نصارى نجران وإبطال حجّتهم[انظر: صحيح مسلم ج7 ص120] وغير ذلك الكثير.
المرحلة الثانية: مرحلة مواجهة الانحرافات الداخليّة وصيانة الرسالة الإسلاميّة من الانحراف أو التحريف والحفاظ عليها كما هي وكما أنزلها الله تعالى، وتبدأ هذه المرحلة بعد وفاة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) مباشرة، وقد كان أئمّتها هم نفس أئمّة سابقتها. ويتّضح لنا دورهم بعد الوقوف على السبب الأساس في نسخ الديانتين اليهوديّة والنصرانيّة وأنّه عبارة عن تحريف الكتب المقدّسة (التوراة والإنجيل)، الأمر الذي أدّى بدوره إلى نسف المنظومتين العقائديَّة والفقهيَّة للديانتين، وهذا ما أكَّده القرآن الكريم بوضوح.
وعلى هامش ذلك كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله) يُخبر أصحابه بأنّهم سيسلكون مسلك الطائفتين تماماً، فعن أبي واقد الليثيِّ قال: « إنّ رسول الله (صلّى الله عليه[وآله]وسلم) لَمَّا خرج إلى حُنين مرَّ بشجرةٍ للمشركين يُقال لها "ذات أنواط" يُعلّقون عليها أسلحتهم قالوا: يا رسول الله! لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبيُّ (صلّى الله عليه[وآله] وسلّم): "سبحان الله..!، هذا كما قال قوم موسى: " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة "، والذي نفسي بيده لتركبُنَّ سُنَّة مَن كان قبلَكم "[سُنن الترمذيّ ج3 ص322، وقال عنه: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ، كما وانظر: المستدرك للحاكم ج4 ص455]، فكان كما أخبر حيث كادت رسالة الإسلام تنهار بتمامها حينما ارتدّ الناس حتّى لم يبقَ منهم إلّا أفرادٌ قلائل كهَمَلِ النَّعم، وهو ما أنبأ به النبيُّ(صلّى الله عليه وآله) ووردت به الأحاديث الصحيحة عند الفريقين[انظر: صحيح البخاريّ ج7 ص207، صحيح مسلم ج7 ص71 ، سنن الترمذيّ ج4 ص38، مسند أحمد ج1 نص235]. كما أنّ أئمّة الضلال واشياع النفاق قد أدركوا كون القرآن محفوظاً من التحريف فعمدوا عند ذلك إلى تحريف معاني الكثير من آياته وتأويلها على غير ما أراده الله بها، فكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) الدور الأبرز في الوقوف بوجه مخطّطاتهم والحفاظ على عقائد الإسلام وأحكام الشريعة الغرّاء من خلال مقاتلته الناكثين والقاسطين والمارقين، وفي ذلك روى العامّة عن أبي سعيد الخُدْريّ قال: «كُنّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فانقطعت نَعلُه فتخلَّف عليٌّ يخصِفها، فمشى قليلاً ثمّ قال: إنّ منكم مَن يقاتلُ على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله..!، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر .... قال: أبو بكر أنا هو..؟، قال: لا. قال عمر: أنا هو..؟ قال: لا..، ولكنْ خاصفُ النَّعل، يعني عليّاً ، فأتيناه فبشَّرناه فلم يرفع به رأسَه، كأنَّه قد كان سمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) »[مسند أحمد ج3 ص82، ورواه الحاكم في المستدرك ج3 ص123، وقال عنه: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه].
ثمّ جاء من بعده الإمام الحسن(عليه السلام) ليسعى في الحفاظ على الإسلام والمسلمين من فتنة بني أميّة الذين أعلنوا صريحاً العمل على محو الرسالة، وللوقوف على تفاصيل ذلك انظر جواب مركزنا بعنوان: (الحكمة من رجوع الإمامين الحسنين(ع) من الكوفة إلى المدينة).
وهكذا الحسين(عليه السلام) حينما نهض لطلب الإصلاح ودعا إلى العمل بسيرة جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما) وما انثنى حتّى سقى الرسالة بدمه الطاهر فخلدت بشعائرها إلى يوم القيامة، وفي ذلك يقول الصادق(عليه السلام): « لمّا قَدِم علي بن الحسين(عليهما السلام) وقد قُتل الحسين بن علي(صلوات الله عليهما) استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، وقال: يا علي بن الحسين، مَن غَلَبَ..؟ وهو مغطى رأسه، وهو في المحمل. قال: فقال له علي بن الحسين: إذا أردت أن تعلم من غلب، ودخل وقت الصلاة، فأَذِّنْ ثُمَّ أَقِمْ »[أمالي الطوسيّ ص677].
ليس هذا فحسب، بل لم يكن المسلمون يعرفون معنى الثورة ضدّ الظالم ولا طعماً للعيش بحريّةٍ وكرامةٍ حتّى قام الحسين(عليه السلام) بنهضته المباركة، لتتوالى بعدها الثورات، فكان منها: ثورة المدينة، وخلع عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد بن معاوية عليها عام 63هـ، وثورة التوّابين في الكوفة عام 65هـ ، وثورة المختار فيها أيضاً عام 66هـ ، وثورة المطرف بن المغيرة بن شعبة على الحَجّاج الثقفي وخلعه بيعة عبد الملك بن مروان عام 77هـ ، وثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحَجّاج الثقفيّ واستمرّت من 81 إلى 83 هـ، ثمّ ثورة زيد بن علي بن الحسين(عليهم السلام) عام 122هـ، وأخيراً سقوط الدولة الأمويّة عام 132هـ جرّاء ثورة بني العباس التي استثمرت تأثير الهالة الحسينيّة على ضمير الأمّة لتتّخذ من شعار (يا لثارات الحسين) وسيلةً في حشد الجماهير من حولها..![ينظر عن جميع تلك الثورات: تاريخ الطبريّ ج4 – ج5]
المرحلة الثالثة: بعد ثبات الرسالة الإسلاميّة واستقاء شجرة أصول الدين بدماء الأزكياء في واقعة الطفّ الأليمة، جاء دور أئمّة المرحلة الثالثة وهم ثلاثة أيضاً: السجاد والباقر والصادق(عليهم السلام)؛ ليعملوا على التأصيل لمذهب التشيع؛ سعياً منهم (عليهم السلام) في إبعاد الناس عن دين أتباع السقيفة ومدرسة الخلافة وما فيه من التحريف العقديّ والفقهيّ الذي لا يخفى على ذوي البصائر والألباب، فقاموا ببثّ الدعاة وافتتاح جامعة أهل البيت (عليهم السلام) وعقد حلقات التدريس فيها لمختلف أنواع العلوم الشرعيَّة سواء في المدينة أم في الكوفة، وتخرّج في تلك الجامعة آلاف العلماء من مختلف أنحاء البلاد الإسلاميّة، حتّى كان من بينهم أئمّة مذاهب العامّة وعلماؤهم كابي حنيفة ومالك وغيرهم الكثير ممّن تتلمذوا على يد الإمام الصادق (عليه السلام)، قال ابن تيمية: (...فإنّ جعفر بن محمد[عليهما السلام] لم يجئْ بعدَه مثلُه، وقد أخذ العلمَ عنه هؤلاِء الأئمةُ كمالك وابن عُيينة وشعبة والثوري وابن جريج ويحيى بن سعيد وأمثالهم من العلماء المشاهير الأعيان)[منهاج السنّة ج4 ص126]، وبدأت عملية تدوين الكتب وتأليف المصنّفات سواء من قِبل الأئمّة (عليهم السلام) أو أصحابهم وفي مختلف مجالات العلم حتّى الدنيويّة منها كالطبّ والفلك والكيمياء وغيرها. [للوقوف على تفاصيل تلك العلوم انظر: كتاب "الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب" وهو كتاب يجمع بحوثاً لعلماء غربيين في ندوة نظّمتها جامعة استراسبورغ الفرنسية عام 1968م ، ونشرت ككتاب باللغة الفرنسية عام 1970م، وتمّت تُرجمته مؤخراً إلى العربية، كما وانظر سيرة الأئمة
الاثني عشر لهاشم معروف الحسنيّ].
المرحلة الرابعة: مرحلة نقل مسؤوليات الرسالة وأعبائها من الأئمّة (عليهم السلام) إلى علماء الأمّة؛ تمهيداً لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وكان أئمّتها خمسة، هم كلّ من الكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكريّ(عليهم السلام)، وقد كانت الظروف السياسيّة لأئمّة هذه المرحلة عصيبة جدّاً، حيث مارست السلطة العباسيّة معهم شتى أنواع الاضطهاد، مثل محاولات الاغتيال غير مرّة، أو التهجير عن موطنهم الأصلي (المدينة المنوّرة)، أو السجن لسنين متطاولة، أو الإخضاع للإقامة الجبريّة، أو فرض الرقابة الشديدة عليهم بواسطة أزلام السلطة وجواسيسها..!، فكان أكثر عملهم (عليهم السلام) موسوماً بطابعٍ من السريّة. أضف إلى ذلك قيام الإمام العسكريّ (عليه السلام) بحجب ولده الحجة المهديّ(عجّل الله فرجه الشريف) عن الأنظار وعدم إظهاره إلّا للخواصّ من الشيعة خشيةً عليه من القتل.
ومع ذلك، فقد ساهمت الإرادة الإلهيَّة في تحويل كلّ تلك الظروف إلى عوامل إيجابيَّةٍ ساعدت على استيعاب الطبقة الواعية والمثقّفة من جماهير الأمّة فكرة غيبة الإمام المهدي(عَجّل الله تعالى فرجه)، وأدّت بدورها إلى تقبُّلهم للوسائل البديلة في ارتباطهم بأئمّتهم (عليهم السلام)، مثل اعتماد أهل الوثاقة والصلاح كوسائط بينهم وبين الأئمّة(ع)، أو التواصل عن طريق المكاتبات، أو العمل بتوجيهاتهم (ع) بالرجوع إلى أهل الفضل والعلم والمعرفة منهم في مختلف الأمصار؛ لأخذ معالم الدين عنهم.[ينظر عن التفاصيل: الأئمّة الاثنا عشر - دراسة تحليليّة - د. عادل الأديب]. وها نحن نرى اليوم أتباع أهل البيت(عليهم السلام) يعيشون عصر الغيبة الكبرى بشكلٍ طبيعيٍّ جدّاً ويؤمنون بعقيدة الانتظار، ويتّبعون علماء الطائفة الأخيار عملاً بوصايا الأئمّة (عليهم السلام) من جهة ؛ ولإيمانهم بورع هؤلاء العلماء وتقواهم وأمانتهم على الإسلام والمسلمين ونيابتهم عن الإمام المعصوم(ع) نيابةً عامّةً، ومرشدهم في ذلك كلّه مواقف مرجعياتهم الدينيّة تجاه قضايا الأمّة الإسلاميَّة لا سيّما الراهنة منها..!.
المرحلة الخامسة والأخيرة: مرحلة الظهور المقدّس ونشر الرسالة الإسلاميَّة في جميع ربوع المعمورة على يد الإمام الثاني عشر من أئمّة الشيعة المهدي المنتظر(عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، لقد وعد الله تعالى المسلمين بذلك في العديد من آيات الذكر الحكيم، كقوله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء/105] ومن الواضح أنّ عباد الله الصالحين لم يحكموا الأرض بَعدُ، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة/33]، ومن المؤكّد أنّ الإسلام لم يتمكّن إلى يومنا هذا من الظهور والغلبة على الأديان كافّة؛ لذا روى القندوزيُّ الحنفيُّ في سياق الآية الأخيرة في أخبار المهدي المنتظر عن عباية بن ربعي قال: « قال أمير المؤمنين علي [عليه السلام] في هذه الآية : والذي نفسي بيده، لا تبقى قرية إلّا نُودي فيها بشهادة "أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله " بُكرة وعَشيّاً »[انظر: ينابيع المودّة ج3 ص240].. هذا أيسر ما يسمح به المقام من ذكر لإنجازات الأئمّة الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وأمّا ما افتخر به السائل من الفتوحات فليُنظر عنه جواب مركزنا بعنوان: (هل تُعدُّ فتوحاتُ المسلمين احتلالاً مثل احتلال الغرب لدولنا..؟!).. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق