هل تخلى الأصوليّون عن الأخبار؟

الشيعة بعد القرن السابع الهجريّ هجروا الأخبار وسلكوا مسالك أهل الخلاف وصاروا يتفاخرون بأنهم أصوليُّون، ويتسابقون على نقض الأخبار بالأصول، مع أنَّ علم الأصول هذا من مبتدعات أهل الخلاف الذين نهينا عن الأخذ عنهم، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : «يا كميل! لا تأخذ إلَّا عنَّا تكن منا«.

: الشيخ معتصم السيد احمد

بسم الله الرحمن الرحيم هذا الادعاء قائمٌ على مغالطاتٍ عدَّة، ويمكن تفنيده من عدَّة زوايا: أولاً: علم الأصول لم يكن بدعةً مستوردةً من أهل الخلاف، بل هو امتدادٌ طبيعيٌّ لمنهج أهل البيت (عليهم السلام) في الاستدلال والاستنباط. فقد كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يوجهون أصحابهم إلى التفكر في الأحكام، والتدبُّر في النصوص، وعدم الجمود على ظاهر الأخبار دون فهم سياقاتها ودلالاتها. وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «إنَّما علينا أنْ نلقي إليكم الأصول، وعليكم أنْ تفرعوا» [مستطرفات السرائر ص109]، مما يدلُّ على أنَّ الاجتهاد وفق القواعد الأصولية كان موجوداً منذ عصر الأئمة (عليهم السلام)، ولم يكن علماً مستحدثاً من خارج منظومة الفكر الشيعيّ. وللمركز جوابٌ سابقٌ تحت عنوان: (علم الأصول عند الشيعة)، أوضح فيه: أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم مؤسّسو علم الأصول، وأنّ أصحابهم هم أوّل المصنّفين فيه، فالعمل بالقواعد الأصوليّة لا يرجع للقرن السابع الهجريّ، بل إلى القرن الثاني بتعليمٍ من المعصومين (عليهم السلام). ثانياً: أنّ علم الأصول يتضمّن مجموعةً من القواعد الدخيلة في عمليّة استنباط الأحكام الشرعيّة، فإنّ الفقيه إذا وجه موضوعاً وأراد معرفة حكمه الشرعيّ، فإنّه يبحث في الأدلّة الشرعيّة عن الدليل، فإنْ ظفر بدليلٍ فينبغي أنْ يلاحظ: هل هذا النصّ ثابت الصدور؟ وهل دلالة النصّ تامّةٌ على الحكم الشرعيّ؟ وهل هناك أدلّةٌ أخرى معارضةٌ لهذا النصّ؟ وهل الأدلّة المتعارضة تامّة الصدور والدلالة؟ وكيف يمكن معالجة التعارض؟ وإنْ لم يظفر بدليلٍ، فهناك قواعد لتحديد الوظيفة العمليّة للمكلّف، كالاستصحاب والاحتياط والتخيير والبراءة. وهذا يعني أنّ علم الأصول هو القواعد التي يبتني عليها الاستدلال الفقهيّ، فكلّ مَن يريد الاستنباط عليه أن يعتمد على مجموعةٍ من القوانين التي تقنّن عملية الاستنباط وتضبط حدوده، وإلّا سيكون عمله عشوائيّاً وغير منضبط. ومن ذلك يتبيّن: أنّ الاعتماد على القواعد الأصوليّة ليس خاصّاً بعلمائنا الأصوليّين، بل علماؤنا الإخباريّون يعتمدون عليها أيضاً، ودونك مقدّمات كتاب (الحدائق الناضرة) للمحدّث البحرانيّ، التي تتضمّن جملةً من القواعد الأصوليّة. وعليه، فليس الخلاف بين الأصوليّين والإخباريّين في ضرورة علم الأصول، وإنّما الخلاف في بعض المسائل الأصوليّة التي يراها جمهور الأصوليّين ويخالفهم جمهور الإخباريّين، مع أنّ الخلاف فيها لا تجعل تمييزاً بين فرقتين، لأنّ الخلاف في تلك المسائل حاصل بين الأصوليين أنفسهم، وكذلك بين الإخباريّين، وقد نبّه على ذلك المحدّث البحرانيّ في مقدّمات الحدائق. ثالثاً: لم يهجر علماء الشيعة الأخبار، وإنما تعاملوا معها وفق منهجٍ علميٍّ دقيقٍ يميز بين الصحيح والسقيم، ويجمع بين الروايات المختلفة بطريقةٍ منسجمةٍ مع العقل والنقل. فمنذ عصر الشيخ الطوسيّ [ت460هـ] وبعده العلَّامة الحليّ [ت726هـ]، لم يكن هناك هجرٌ للأخبار، وإنما إعادة تنظيمٍ لمنهج التعامل معها، فالغاية من علم الأصول ليست إسقاط الأخبار، بل فهمها وفق ضوابط عقليَّةٍ ونقليَّةٍ سليمة؛ ولذلك فإن الشيعة منذ البداية كانوا يعتمدون على النصوص، ولم يلجؤوا إلى الرأي والقياس كما هو الحال عند أهل السنة، لأنَّهم يملكون تراثاً روائياً واسعاً صادراً عن المعصومين (عليهم السلام)؛ ولذا كان الشيعة في غنىً عن القياس والاستحسان، وسدّ الذرائع، وفقه الصحابة، وشرع من قبلنا، والمصالح المرسلة وغيرها من الأصول الظنيَّة المعتمدة عن المخالفين. رابعاً: الادّعاء بأنَّ علماء الشيعة صاروا يتسابقون على نقض الأخبار بالأصول مجرّد دعايةٍ مغرضةٍ لا أساس لها من الصحة، ومَن يتّهم الأصوليين بنقض الأخبار بالأصول عليه أنْ يثبت ذلك ببيانٍ صريحٍ من علمائنا يدلّ على رفضهم الروايات الصحيحة. والحقيقة أنَّ الأصوليين لم يتخلَّوا عن الأخبار، وإنما وضعوا قواعد لفهمها على نحوٍ أدق، مثل الجمع بين المتعارضين، وتمييز العام من الخاص، والمطلق من المقيد، والناسخ من المنسوخ، والصحيح من الضعيف، وغيرها من القواعد التي تمنع التناقض في الاستنباط الفقهيّ. وبالتالي، فإنَّ كلَّ من يطالع الموسوعات الاستدلاليَّة لفقهاء الشيعة سيجد حضور النصوص في كلّ بحوثهم الفقهيَّة، وفي حال عدم وجود نصٍّ في المسألة، فإنَّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) قد بيَّنوا الأصول التي يتم الرجوع إليها، والتي تسمى الأصول العمليَّة، لأنَّها تكشف عن الموقف العمليّ في حال لم يكن في الموضوع نصٌّ شرعيٌّ، مثل الاستصحاب، والبراءة، والاحتياط وغيرها. وقد بيَّن الأصوليون الشيعة أنَّ حجيَّة تلك الأصول ليست في كشفها عن الواقع، وإنّما في تعيين الوظيفة العمليّة، فينحصر مؤدّاها في المنجزيّة والمعذريّة، أي أنَّ العمل وفق هذه الأصول يضمن للمكلف إما الامتثال الواقعيّ وإمَّا العذر أمام الله تعالى إنْ خالفت الواقع. وهذا يؤكّد أنَّ علم الأصول عند الشيعة لم يقبل أيَّة قاعدةٍ لم يقم عليها دليلٌ خاصٌّ من الشارع، فالحكم إذا لم يكن موجوداً في القرآن والسنة فإن التكليف الشرعي يتحدد وفقاً لتلك القواعد الأصول التي تعبّدنا الأئمّة باتّباعها. وفي المحصلة، الادعاء أنَّ الشيعة هجروا الأخبار أو سلكوا مسلك أهل الخلاف غير دقيق، بل إنَّ المنهج الأصولي هو استمرارٌ طبيعيٌّ لمنهج أهل البيت (عليهم السلام) في التمييز بين الأخبار وفهمها وفق أسسٍ عقليَّةٍ وشرعيَّةٍ سليمة.