هل يشمل قوله: { وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } السُنَّة؟
يرى القُرآنيُّونَ الذين يقولون بعدم وجوب اتباع الحديث الشريف والاقتصار على القرآن في تفسير قوله تعالى: ({ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) بأنَّ المقصود منه طاعة النبيّ بما جاء به من القرآن الكريم، أيْ: ما أتاكم من القرآن فخذُوه، وما نَهاكم من القرآن عنه فانتهوا عنه!
هناك الكثير من الردود التفصيليَّة على منكري حُجيَّة السُنَّة من القرآنيين تم نشرها في موقعنا، بالإضافة إلى الإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بحُجيَّة السُنَّة ودورها في التشريع الإسلاميّ. ومن العناوين التي يمكن مراجعتها في صفحتنا هي: (ما الرد على منكري السُنَّة؟). ولذا، سنكتفي هنا بالإشارة إلى مجموعةٍ من النقاط الأساسيَّة التي تثبت بطلان هذا الادعاء، وهي: أولاً: أنَّ حصر الآية بالقرآن فقط تحكّمٌ بلا دليل؛ لأنَّ الله تعالى لم يقُلْ: (ما آتاكم الله من القرآن فخذوه)، بل قال: { وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وهو ممَّا يدلُّ على أنَّ كلَّ ما يأتي به النبيُّ (ص) من تعاليم وأحكامٍ- سواءٌ كان من القرآن أم من خارجه- هو حُجَّةٌ ملزمةٌ. فالنبيُّ ليس مجرد ناقلٍ للنص القرآنيّ، بل هو مصدر تشريعٍ بأمر الله، وما يقوله صادرٌ عن العصمة التي أودعها الله فيه؛ ولذلك جعله المولى (عزَّ وجلَّ) المرجع المطلق للمسلمين في كل شؤونهم. ثانياً: أنَّ هذا الفهم يعارض صريح القرآن الذي أكَّد أنَّ الرسول له دورٌ يتجاوز التبليغ، فهو المفسّر والمُبيِّن للقرآن، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فالبيان هنا ليس مجرد تلاوة القرآن، بل هو دورٌ مستقلٌ عن التبليغ، يتضمن تفصيل الأحكام وتوضيح المعاني التي لم ترد بصيغةٍ تفصيليَّةٍ في الكتاب. فلو كان دور النبيِّ (ص) يقتصر على نقل القرآن فقط، فما الحاجة إلى هذا البيان؟ ولماذا كان الصحابة يسألون النبيَّ عن تفاصيل الأحكام التي لم ترد في القرآن، مثل كيفية الصلاة، وأحكام المواريث، وغيرها؟ ثالثاً: هناك العديد من الأحكام التي لم يذكرها القرآن تفصيلاً، بل وردت تفاصيلها حصراً في السُنَّة النبويَّة، مثل عدد ركعات الصلاة، وأحكام الصيام، وكيفية أداء مناسك الحج، وأنصبة الزكاة، وحدود العقوبات، وكلُّها أمورٌ لا يمكن الوصول إليها إلا عبر السُنَّة. فهل يُعقل أنْ يأمرنا الله بالصلاة دون بيان كيفيتها؟ أم يأمرنا بالحجِّ دون تفصيل مناسكه؟ ولو كان القرآن وحده كافياً، لكان على الناس أنْ يجتهدوا في هذه العبادات كلٌّ بحسب رأيه، وهو مما يؤدّي إلى فوضى تشريعيَّةٍ تتنافى مع حكمة الله في تنظيم أمور الدين. رابعاً: القول بأنَّ طاعة النبيّ تعني طاعة القرآن فقط وليس اتباع سنته يناقض صريح الآيات التي جعلت الطاعة للرسول مستقلةً عن طاعة القرآن، مثل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، فلو كانت طاعة النبيّ هي مجرد اتباع القرآن لقال: (من يطع الله فقد أطاع الرسول)، لكنَّه فصل بين الطاعتين ليؤكّد أنَّ للرسول أحكاماً وأوامر واجبة الاتباع إلى جانب القرآن. خامساً: هناك آياتٌ أخرى تؤكّد أنَّ طاعة النبيّ واجبة لذاته، وليس فقط لأنَّه ينقل القرآن، مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فهل يُعقل أنْ يكون هذا القضاء محصوراً في القرآن فقط؟ كذلك قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، فهل يمكن أن يكون الاهتداء محصوراً فقط على القرآن دون السُنَّة التي تفسّره وتفصّله؟ سادساً: إذا كان دور النبيّ (ص) مجرد التبليغ، فلماذا أرسل الله رسولاً أصلاً؟ ولماذا لم ينزل كتاباً فقط دون حاجةٍ إلى نبي؟ بل إنَّ في الآية التي يستشهد بها منكرو السُنَّة نقضاً لموقفهم؛ لأنَّ قوله: {فَخُذُوهُ} و{فَانْتَهُوا} يدلُّ على تشريعٍ مستقلٍ من النبيّ، وليس مجرد نقل للقرآن. سابعاً: هذا الفهم يناقض نهج أهل البيت (ع) الذين أكَّدوا أنَّ السُنَّة النبويَّة حُجَّةٌ في الدين، واستمروا في بيان معالم الشريعة بناءً على ما ورثوه من علم النبيّ (ص). وقد أوجب القرآن الرجوع إليهم كأوصياء للرسالة، كما في آية التطهير وآية المباهلة، وهو مما يدلُّ على أنَّ الدين لا يُفهم بمجرد قراءة القرآن، بل يحتاج إلى مرجعيَّةٍ معصومةٍ تبيّن تفاصيله. وبناءً على ذلك، فإنَّ القول بأنَّ {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} مقصورٌ على القرآن فقط، هو تخصيصٌ بلا دليل، ومناقضٌ لصريح النصوص القرآنية، كما أنَّه يؤدّي إلى إبطال الكثير من الأحكام الشرعيَّة التي لا يمكن الوصول إليها إلَّا من خلال السُنَّة، وهو في النهاية موقفٌ متهافتٌ لا يصمد أمام الدليل العقليّ والنقليّ.
اترك تعليق