إذا كان الله قد فطر البشرَ جميعاً على الهداية، وزوّدهم بمعرفة الخير والشرِّ منذ الخلق، فلماذا لم يَهتدِ جميعُ البشر؟ وكيف نُفسِّر وجودَ الضلال في ظلِّ الهدايةِ التكوينيَّةِ التي تشمل الجميع؟
إذا كان الله قد فطر البشرَ جميعاً على الهداية، وزوّدهم بمعرفة الخير والشرِّ منذ الخلق، فلماذا لم يَهتدِ جميعُ البشر؟ وكيف نُفسِّر وجودَ الضلال في ظلِّ الهدايةِ التكوينيَّةِ التي تشمل الجميع؟
البشر على نحوِ التكوين مُهتدون جميعاً، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7-8]، وقوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وغير ذلك من الآيات التي تكشف عن الهداية التكوينيَّة لكلِّ البشر، وهي فِطرةُ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عليها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. فالهداية التكوينيَّة هي استعدادٌ فِطريٌّ موجودٌ في كلِّ إنسان، ولكنَّها لا تَضمَنُ الاهتداءَ التامَّ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد منح الإنسان حريّة الاختيار بين الهداية والضلال، وهو ما يُفسِّر لماذا لم يَهتدِ البشر جميعُهم رغم أنَّ الهداية موجودةٌ فطريًّا. فاللهُ سبحانهُ وتعالى منح الإنسان عقلًا وإرادةً حُرَّةً ليختارَ بين الخير والشرِّ، فقد يتبعُ الإنسان الفطرة السليمة ويستجيب للهدايةِ التكوينيَّةِ، وقد يرفض ذلك بناءً على اختياره الشخصيِّ. فالضلال لا يتناقض مع الهدايةِ التكوينيَّةِ، بل هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لاختيار الإنسان باستخدام إرادته الحُرَّةِ. فاللهُ سبحانه وتعالى لم يفرض الهداية على البشر بالقوَّة أو الإكراه، بل جعل لهم حُريَّة الاختيار بين السعيِ وراءَ الهداية أو الانحراف عنها. وكثيرٌ من البشر يرفضون الهداية أو يتَّبعون طرقًا غيرَ صحيحةٍ بسبب تأثيراتٍ مختلفةٍ، مثل البيئة، والتربية، والشبهات، والشهوات النفسيَّة، أو حتّى نتيجة وساوس الشياطين التي قد تَحرِفُهم عن الحقّ. فاللهُ سبحانهُ وتعالى لا يَظلِمُ أحدًا، بل يُعطي لكلِّ إنسانٍ فرصةً متساويةً للسير في طريق الهداية، لكنَّ المسألةَ في نهاية المطاف تظلُّ مَرهونة بكيفية استجابة الإنسان لتوجيهات الله والالتزاِم بما فُطِرَ عليه. كما أنَّ هذا الاختيارَ جزءٌ من الاختبار الإلهيِّ للإنسان في الدنيا. والهداية المتعلِّقة بإرادة الإنسان تُسمَّى الهدايةَ التشريعيَّةَ، وهذه الهداية تتطلَّب مجهودًا من الإنسان في اتِّباع تعليمات الشرع والابتعاد عن المعاصي والضلالات التي قد تعترضُه. يقول الشيخُ السبحانيُّ: "إذا كانت الهداية التكوينيَّة العامَّة أمرًا نابعًا من ذات الشيء بما أودع الله فيه من أجهزةٍ تسوقُه إلى الخيرِ والكمال، فالهداية التشريعيَّة العامَّة عبارةٌ عن الهداية الشاملة للموجود العاقل المُدرِك، المُفاضةِ عليه بتوسُّطِ عوامل خارجةٍ عن ذاته، وذلك كالأنبياء والرُّسل والكتب السماويَّة وأوصياء الرُّسِل وخلفائهم والعلماء والمُصلحينَ وغير ذلك من أدوات الهداية التشريعيَّة العامَّة التي تَعمُّ جميع المكلَّفينَ" [ملخَّص الإلهيَّات ص734]. ويقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازيُّ: "الهداية التشريعيَّة تعني هداية الناس عن طريق التعليم والتربية، والقوانين، والحكومات العادلة، والموعظة والنصيحة. وهذه الهداية يقوم بها الأنبياء والأئمَّة والصالحون والمربُّونَ المُخلِصون. وقد أشار القرآن إلى هذا بقولهِ: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}" [تفسيرُ الأمثل ج2 ص325]؛ وعلى ذلك، تكون الهداية التشريعيَّة مُكمِّلةً للهداية التكوينيَّة، فلا يستغني الإنسان عن الأنبياء والرُّسل والتشريعات التي تُرشِدُهُ وتهديه إلى الأهداف نفسها التي فُطِرَ عليها. في المحصِّلة، لا يُمكنُ تفسير الضلال إلَّا من خلال فهم العلاقة بين الهداية التكوينيَّة (الفِطرة) والإرادة الحُرَّة للإنسان، فاللهُ تعالى قد فَطَرَ الإنسان على الهدايةِ وزوَّدَهُ بالقدرة على التمييز بينَ الخير والشرِّ، ولكنَّ الخيار الأخير يظلُّ بيد الإنسان.
اترك تعليق