إثبات الصانع من خلال برهان الحدوث
السؤال: ما الدليل أو البرهان العقليّ التفصيليّ الدالّ على إثبات الصانع من خلال إثبات حدوث الأجسام في قول المتكلّمين: (كلّ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث) ؟
الجواب:
يشير السائل إلى ما يُعرف ببرهان الحدوث الذي يُعدُّ من أقدم براهين إثبات الصانع على الإطلاق، وهو ينتهي إلى إثبات حدوث العالَم، ممّا يدلّل على وجود المحدِث له.
ولبيان هذا الأمر سنتكلّم في أمرين:
الأمر الأوّل: في بيان معنى الحدوث عند المتكلّمين:
يطلق الحدوث عندهم ويراد به - عادةً - أحد معنيّين:
الأوّل: الحدوث الذاتيّ، وهو مسبوقيََّة وجود الشيء بالعدم في ذاته؛ وهذا يعني أنَّ الكائنات لا تقتضي الوجود من ذاتها، وإلَّا لكانت موجودةً دائمًا، مقابل ذلك هو القِدَم الذاتيّ الذي يعني أنَّ الوجود يقتضي ذاته ولا يقبل العدم.
والثاني: الحدوث الزمانيّ، وهو مسبوقية وجود الشيء بالعدم الزمانيّ، كما هو الحال في الزمان والمكان، فهذا الحدوث يعني أنَّ الأشياء كانت غير موجودةٍ في وقتٍ ما ثم وجدت، ويقابله القِدَم الزمانيّ، وهو عدم مسبوقية الشيء بالعدم الزمانيّ.
محور برهان الحدوث عند المتكلّمين هو الحدوث الزمانيّ، وهو ما يشمل جميع الأجسام في الكون، أي كلّ ما سوى الله تعالى.
الأمر الثاني: في بيان معنى الأكوان الأربعة:
يعتمد برهان الحدوث - عند المتكلّمين - بشكلٍ أساس على إثبات الحوادث، أي الأكوان الأربعة العارضة للأجسام، وهي: (الاجتماع ، الافتراق، الحركة، السكون)
فالاجتماع: هو كون الجسمين في حيّزين على وجهٍ لا يمكن أنْ يتخلّل بينهما جوهر.
والافتراق: هو كون الجسمين في حيّزين على وجهٍ يمكن معه أنْ يتخلّل بينهما جوهر.
والحركة: هي كون الجسم في حيّزٍ بعد كونه في حيّزٍ آخر، أو انتقال الجسم من مكانٍ إلى آخر.
وأمّا السكون: هو كون الجسم في حيّزٍ بعد كونه في ذلك الحيز نفسه، أي استمرار بقاء الجسم في مكانه.
وإلى هنا ثبت لدينا أنّ الجسم متغيّرٌ ومتبدّلٌ بأي نحوٍ من أنحاء الأكوان الأربعة، فإذا عرفت ذلك فإنّ برهان الحدوث، يتألّف من مقدّمتين: إحداهما: حول إثبات حدوث الأجسام، والأخرى: حول إثبات حاجة الحادث إلى المحدِث، وإليك بيانهما مفصّلاً:
المقدّمة الأولى: إثبات حدوث الأجسام
للمتكلّمين في إثبات حدوث الأجسام قياسٌ منطقيٌّ من الشكل الأوّل الذي متى صحّت مقدّماته - مادّةً وهيئةً - كانت نتائجه يقينيّة حتماً، وهو كالتالي:
* الصغرى: (الجسم لا يخلو من الحوادث) أي لا يخلو عن التغيّر بأحد الأكوان الأربعة.
* الكبرى: (وكلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادثٌ)
* النتيجة: (كلّ جسمٍ حادثٌ)
ويتوقّف الاستدلال بهذا القياس على إثبات ثلاث دعاوى تمثّل خطواتٍ متتاليةٍ في الوصول إلى النتيجة، وهي:
الدعوى الأولى: وجود الحوادث، وهو ثابتٌ عندهم بالأكوان الاربعة (الحركة والسكون والاجتماع والافتراق)
الدعوى الثانية: كلّ جسم لا يخلو من الحوادث، ودليلهم على ذلك هو ما ثبت عقلاً وحساً، فمستحيلٌ أنْ يخلوّ جسمٌ من الحركة أو السكون، وعليه تصبح جميع الاجسام محلٌّ للحوادث بالضرورة، وهو المطلوب.
الدعوى الثالثة: كلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، واستدلوا لهذه الدعوى بأنّ جميع الحوادث معدومةٌ في الأزل، وهذا واضحٌ جدّاً؛ إذ لا واسطة بين القِدَم والحدوث، فالشيء إمّا قديم أو حادث، فيثبت بذلك مطلوبنا.
وإلى هنا تكون المقدّمة الأولى قد تمّت وهي أنّ الأجسام حادثة.
المقدّمة الثانية: إثبات حاجة الحادث إلى المحدِث والصانع.
بعد ثبوت الدعاوى الثلاث المذكورة آنفاً تتمّ للقياس المذكور سلامة خطواته التي سلكها المتكلّمون ويكون: (كلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث)، أي أنّ الأجسام حادثة، أو فقل: (العالَم حادث). ووفقاً لذلك يتشكّل لدى المتكلّمين قياسٌ منطقيٌّ آخر ومن الشكل ألأوّل أيضاً، يهدف بمقدّماته إلى إثبات وجود الصانع لهذا العالَم، وتكون الصغرى فيه هي عين النتيجة التي توصلنا إليها في القياس السابق، وكما يأتي:
* الصغرى: (العالَم حادثٌ)
* الكبرى: (وكلّ حادثٍ مفتقرٌ إلى مُحدِث)، أي إلى علّة توجده.
* النتيجة: (العالَم مفتقرٌ إلى مُحدِث)
بيان ذلك: أمّا صغرى القياس فقد عرفت ثبوتها، وأمّا الكبرى فقد استدلوا لإثباتها بما يلي:
إنّ كلّ حادث - بما هو حادث - لابدّ له من مُحدِث، وهذا أمر بديهيّ نلحظه بالوجدان والمشاهدة ويحكم به العقل والعلم أيضاً. ومُحدِثه: إمّا أن يكون هو الآخر حادثاً ، وإمّا أن يكون قديماً، وعليه:
فإن كان مُحدِث العالم قديماً - كما هو الصحيح والمتعيّن - فقد ثبت المطلوب ؛ لأنّ القدم يستلزم وجوب الوجود لا حدوثه. وهنا تأتي النتيجة الأخيرة، وهي أنّ للعالم مُحدِثاً وموجداً.
أمّا لو ادُّعي كون المحدِثُ حادثاً هو الآخر، فيلزم منه أن يكون لهذا المحدِث محدِثٌ أيضاً، فينتقل الكلام إليه ويقال فيه ما قيل في سابقه: إمّا أن يكون محدِثه حادثاً وإمّا أن يكون قديماً. فإن كان قديماً ثبت المطلوب، وإن كان حادثاً، لزم إمّا الدَّور أو التسلسل، وكلاهما محالٌ باطلٌ كما ثبُت في محلّه من الحكمة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا البرهان يمكن استفادته من عدّة آيات قرآنيّة، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ..} [فصّلت: 53] بمعنى: أنّ النظر والتفكّر في النفس وفي ملكوت السماوات والأرض، وما فيهما من آياتٍ كونيَّةٍ لابدّ من انتهائها إلى معرفة الحقّ، والدلالة بوجودها على وجوده تعالى.
وكذا من روايات العترة الطاهرة، كقوله أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدالِّ على قِدَمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده» [نهج البلاغة ص369 - الخطبة 185]، والمعنى: أنَّ حدوث العالم يدلّ على محدِثٍ له وهو الله تعالى، وإذا كان العالم بوصف كونه حادثاً مخلوقاً له تعالى، فهذا يعني أنّه تعالى قديمٌ أزليٌّ، وإلّا كان – يجلّ شأنه – هو الآخر حادثاً فيحتاج إلى محدث، وحينئذ يلزم الدور أو التسلسل الباطلان.
والحمد لله ربّ العالمين
اترك تعليق