زيارة القبور بين شريعة الإسلام والشرايع الأخرى
السؤال: هذا القرآن بين أيدينا هل نقل لنا أنَّ نبيّاً من زمن نبيّنا آدم إلى يومنا هذا أو رجلٌ صالحٌ كان يزور القبور ويطوف حولها؟
الجواب:
بداية لابد أنْ نلفت نظر السائل الكريم الى أنَّ سؤاله يقتضي حصر الدليل الشرعيّ بالقرآن الكريم، وكأنَّه يردّد قول القائل (حسبنا كتاب الله) مع اتفاق المسلمين على أنَّ الأدلة على الأحكام الشرعيَّة أربعةٌ (الكتاب والسنة والأجماع والعقل)، وإنْ اختلفوا في تفاصيلها، وإلَّا كيف يفسر لنا السائل تفاصيل الأحكام من صومٍ وصلاةٍ وحجٍّ وغيرها، وأكثرها لم يذكر في القرآن؟! ويمكن مراجعة بعض أجوبة المركز على "القرآنيين"عبر الروابط التالي:
https://alrasd.net/arabic/5154
https://alrasd.net/arabic/contemporaryy/1993
وفي أحاديث الفريقين حول جواز زيارة القبور ما فيه قطع لأيَّة شبهة، منها ما أخرجَه أحمدُ بنُ حنبلٍ في (مُسنده) في (5/422)، إذ قالَ: حدّثنا عبدُ الملكِ بنُ عمرو، حدّثنا كثيرٌ بنُ زيد، عن داودَ بنِ أبي صالح، قالَ: أقبلَ مروانُ يوماً فوجدَ رجلاً واضعًا وجهَه على القبر، فقالَ: أتدري ما تصنع؟ فأقبلَ عليه فإذا هوَ أبو أيّوب، فقالَ: نعَم، جئتُ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله ولم آتِ الحجرَ، سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ يقول: "لا تبكوا على الدينِ إذا وليَهُ أهله، ولكن ابكوا عليهِ إذا وليَه غيرُ أهله"
وأخرجَه أيضاً الحاكمُ في كتابِه "المُستدرَكُ على الصّحيحين" في (ج4/ص560)، رقمُ الحديثِ (8571): وصحَّحهُ ووافقَه الذهبيّ في التلخيص، وحسّنَ إسنادَه الصالحيّ في كتابِه ((سُبلُ الهُدى والرّشاد، في سيرةِ خيرِ العباد))، (ج12/ص398)، والسمهوديّ في كتابِه: ((خلاصةُ الوفا بأخبارِ دارِ المُصطفى)) في (1/ص457).
ومن أراد المزيد فعليه بهذا الرابط: https://alrasd.net/arabic/3273
ثم إنَّ زيارة القبور من الممارسات والسلوكيّات التي لا تنافي الفطرة السليمة، ولا يحكم العقل بقبحها في حدّ ذاتها، هذا مضافاً إلى انعقاد السيرة العقلائيّة - فضلاً عن سيرة المتشرّعة - على القيام بزيارة قبور الأحبّة في جميع الأمم والحضارات الأخرى عبر القرون، إذا ما ضممنا إلى ذلك كلّه أنّ الأصل في الأشياء الإباحة فحينئذٍ لم تعُد هذه الممارسة بحاجةٍ إلى برهنةٍ واستدلالٍ على جوازها، وإنّما تحريمها والمنع منها هو الذي يحتاج إلى الدليل، ومع عدمه يبقى الحكم بالإباحة سالماً من المعارض كما لا يخفى.
بناءً على ذلك فقد كانت زيارة القبور بصورةٍ عامّةٍ - ومنها قبور الأولياء والصالحين - من الممارسات والطقوس الدينيّة التي أجمع علماء المذاهب الإسلاميّة كافّة على جوازها، بل قد ذهبوا إلى استحبابها شرعاً، وأوردوا في ذلك جملةً من الأدلّة النقليّة.
قال النوويّ: (اتفقت نصوص الشافعيّ والأصحاب على أنه يُستحبّ للرجال زيارة القبور، وهو قول العلماء كافّة. نقل العبدريّ فيه إجماع المسلمين، ودليله مع الإجماع الأحاديث الصحيحة المشهورة، وكانت زيارتها منهيّاً عنها أولاً ثمّ نُسخ.. ويستحبّ للزائر أن يدنو من قبر المزور بقدر ما كان يدنو من صاحبه لو كان حيّاً وزاره،..) [المجموع ج5 ص310].
والأمر أوضح عندنا - نحن الإماميّة الاثنا عشريّة –
وعلى استحباب زيارة قبور الأنبياء والأولياء المؤكّد والشديد انعقد إجماع علماء الطائفة الحقّة (أعلى الله برهانهم)، باعتبار أنَّ هاتيك القبور من خير المواضع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى. وتُعدُّ زيارتها من تمام الوفاء بالعهود للنبيّ والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم)؛ (إذ إنّ لكلّ نبيّ وإمام عهداً في عنق أوليائه وأتباعه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحُسن الأداء زيارة قبره...) [ينظر: عقائد الإماميّة ص101]. والذي يحدو بنا إلى المشروعيّة هو العشرات من الأحاديث المتواترة معنويّاً عن أئمّتنا الأطهار (عليهم السلام) والتي تحثّنا على الزيارة؛ لما فيها من الثمرات الجليلة والفوائد العظيمة، وقد جمع صاحب الوسائل تلك الأحاديث في أكثر من ثمانين باباً [ينظر: وسائل الشيعة ج14 ص320- 572]
وهكذا هو حال السلفيّة، كما صرّح به ابن تيميّة فقال: (ويستحب أيضاً زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد؛ للدعاء لهم والاستغفار؛ لأنّ النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) كان يقصد ذلك، مع أنّ هذا مشروع لجميع موتى المسلمين، كما يستحب السلام عليهم والدعاء لهم والاستغفار. وزيارة القبور بهذا القصد مستحبةٌ وسواءٌ في ذلك قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم) [مجموع الفتاوى ج17 ص470].
ولأجل ذلك جاز عندهم زيارة قبور الخلفاء الثلاثة بعد زيارة قبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، قال ابن عثيمين: (فإذا دخل المسجد صلّى فيه ما شاء الله ثمّ ذهب إلى قبر النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فوقف أمامه وقال: السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته... ثمّ يخطو عن يمينه قليلاً لِيُسلّم على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا أبا بكر... ثمّ يخطو عن يمينه قليلاً لِيُسلّم على عمر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين عمر...، ويخرج إلى مسجد قباء متطهراً ويصلّي فيه، ويزور البقيع - وهو مقبرة المدينة - فيسلّم على عثمان رضي الله عنه، يقف على قبره ويقول: السلام عليكم ...، ويُسلّم على أهل البقيع ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة. ويخرج إلى أُحُد فيزور قبر حمزة عمِّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ومَن هناك من الشهداء ويترضّى عنهم، ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة) [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين ج24 ص435].
أما دعوى انعدام الأدلّة القرآنيّة على مشروعيّة الزيارة فغير دقيقةٍ بالمرّة، وإلّا فهنالك أدلّة واضحة، منها:
1- قصة أصحاب الكهف: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]، التي تدلّ على مشروعيّة بناء القبور وزيارتها في الأمم السابقة.
2- الآية الخاصة بالمنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، حيث يشير المنع من الصلاة أو القيام على قبورهم إنّما هو لنفاقهم، وإلّا فلا مانع من زيارة قبور غير المنافقين والدعاء لهم، كما أكّد علماء التفسير.
وأمّا دعوى أنّ الأنبياء وعباد الله الصالحين في الأمم السالفة لم يزوروا القبور فهذا من أوضح الكذب وأفحشه، فإنّ من راجع تاريخ الأمم السالفة ووقف على قصص الأنبياء وسيرتهم وجد الكثير من ذلك، فمثلاً:
روى ابن كثير عن وهب بن منبه قال: "وقف عيسى هو وأصحابه على قبرٍ وصاحبه يُدلّى فيه، فجعلوا يذكرون القبر وضيقه، فقال: قد كنتم فيما هو أضيق منه من أرحام أمهاتكم، فإذا أحبَّ الله أنْ يوسّع وَسَّع" [البداية والنهاية ج2 ص286].
ورى العامّة أيضاً أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى سليمان بن داود (عليهما السلام) أنْ يبني حائراً حول قبر خليل الله إبراهيم (عليه السلام) لكي يأتيه الزوّار، فقال: « ابنِ على قبر خليلي حِيراً ليكون لزوّاره بعدك...» [ينظر معجم البلدان ج2 ص212، إتحاف الأخِصّا ج2 ص104، أنيس الجليل ج1 ص138]، وروى ابن الجوزيّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): "لما أُسري بي إلى بيت المقدس مرّ بي جبريل (عليه السلام) إلى قبر الخليل (عليه أفضل الصلاة والسلام) فقال: أنزل صلِّ هاهنا ركعتين فإنّ هاهنا قبر أبيك إبراهيم (عليه السلام) " [تاريخ بيت المقدس ص75].
وقد ذكر علماء السنّة كالسفارينيّ وغيره أنّ عيسى ابن مريم (عليه السلام) بعد نزوله من السماء في آخر الزمان يذهب إلى المدينة فيزور قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويحجّ البيت الحرام ويتوفى بالمدينة المنورة فيدفن هناك [ينظر: لوامع الأنوار البهيّة ج2 ص113]، وفي ذلك أخرج الحاكم بإسناده عن أبي هريرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: "لَيَهبطنَّ ابن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً ولَيَسلُكنَّ فجاً حاجّاً أو معتمراً، ولَيَأتينَّ قبري حتّى يسلّم عليَّ ولأردنَّ عليه" صحّحه الحاكم ووافقه الذهبيّ [المستدرك ج2 ص751].
على أنّنا ننبّه القرّاء الكرام هنا بأنّ المقايسة بين شريعةٍ وأخرى في الأحكام والتشريعات أمرٌ غير صحيحٍ على الإطلاق، ويمثّل جنوحاً عن الصراط القويم في إثبات ما يجوز أو لا يجوز ؛ وذلك لوضوح أنّ لكلّ نبيٍّ وأمّة شريعتها الخاصّة بها والتي قد تختلف في الكثير من أحكامها عن نظائرها من الشرائع الأخرى والشواهد على ذلك غير خفيّةٍ على المسلمين، قال تعالى: « لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» [المائدة: 48].
بناءً على ذلك يكفينا في المقام جواز الزيارة في شريعتنا التي هي أكمل الشرائع على الإطلاق، وأنّ نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) -وهو أشرف الأنبياء والمرسلين - قد كان يزور القبور بنفسه الشريفة ويُعلّم زوجته عائشة كيفية الزيارة. [ينظر صحيح مسلم ج3 ص63]، بل ويعلّم عامّة المسلمين ما يقولونه عند زيارتها، فقد أخرج أحمد بإسناده عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر، يقول: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إنْ شاء الله بكم للاحقون، أنتم لنا فرطٌ ونحن لكم تبعٌ، فنسأل الله لنا ولكم العافية» وقال الأرنؤوط: (إسناده صحيح على شرط مسلم) [مسند أحمد ج38 ص147].
وأمّا الطواف حول القبور فلا يستحق بسط الكلام فيه؛ لوضوح أنّ الطواف عند جميع المسلمين – ومنهم الشيعة – هو شعيرةٌ مختصّةٌ بالبيت الحرام حصراً، وليس لدى المسلمين مطافٌ غيره.
والنتيجة: أنّ زيارة القبور مشروعةٌ في الدين الإسلاميّ مع قطع النظر عن حكمها في الشرائع السابقة، فسواء شُرّعت فيها أم لم تُشَرّع فليس ذلك يعنينا في شيء.
والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق