التشيّع العربيّ والتشيّع الفارسيّ

السؤال: هناك من يسعى إلى تقسيم التشيّع بناءً على العرق، مثل التشيّع الفارسيّ والتشيّع العربيّ. ومن بين هؤلاء، الدكتور عبدالله بن سليمان الشايع الذي تناول هذا الموضوع في كتابه (التفريق بين التشيّع العربيّ والفارسيّ - دراسة نقديَّة). فما هو السبب وراء لجوء البعض إلى هذا التفريق؟ وهل يستند إلى أسسٍ واقعيَّة، أم إنَّه مجرد تخيّلاتٍ وأوهام؟

:  الشيخ أمير الخزاعي

الجواب:

في بادئ الأمر تجدر الإشارة إلى أنّ البحث المشار إليه في السؤال هو دراسة نقديّة تهدف إلى تفكيك الادّعاء القائل بوجود اختلافٍ جوهريٍّ بين ما يُسمّى بالتشيّع العربيّ والتشيّع الفارسيّ من حيث العقائد والمضمون؛ إذ يرى المؤلّف أنّ من يُقدَّم بوصفه مصلحاً من الشيعة العرب، ويُدّعى أنّه يختلف في عقائده عن الشيعة الفرس، لا يبتعد في الواقع عن عموم المذهب الشيعيّ إلّا في بعض المسائل الجزئيّة، مع بقائه متمسّكاً بالعقائد الأساسيّة نفسها، كالإيمان بالعصمة والبداء والرجعة، وتفضيل الإمام عليّ (عليه السلام) على سائر الصحابة، و غيرها من العقائد الشيعيّة؛ وعليه، فإنّ البحث في جوهره يشكّل ردّاً على هذا التصوّر، لا تأييداً له، إذ يقرّر عدم وجود فرقٍ جوهريٍّ بين التشيّع العربيّ والفارسيّ، وإنْ كان نقده للعقائد الشيعيّة نفسها يحتاج إلى مناقشةٍ وتفنيدٍ مستقلّ.

أمّا فيما يتعلّق بموضوع التفريق بين التشيّع العربيّ والتشيّع الفارسيّ، فقد استندت هذه الفكرة إلى كتاب (التشيّع العربيّ والتشيّع الفارسيّ) لنبيل الحيدريّ، والذي تأثّر بدوره بكتابات الدكتور علي شريعتيّ في (التشيّع العلويّ والتشيّع الصفويّ). كما اعتمد في هذا المجال على أعمال بعض المستشرقين، مثل: برتولد شبولر في (تاريخ إيران في القرون الإسلامية الأولى)، وبيتر جكسون في (تاريخ كمبريدج لإيران)، وكلود كاهن.

غير أنّ هذا الاتجاه في البحث قوبل بانتقاداتٍ علميّةٍ عديدة من قِبَل العلماء والباحثين، حيث تعاني هذه الدراسات من عدة إشكالات منهجيّة، أبرزها غياب الأدلّة الكافية، والاعتماد على مصادر غير موثوقة، وسوء فهم معايير حجّيَّة الروايات عند الشيعة من حيث السند والمتن وعلم الرجال، والتناقضات الداخليّة فضلاً عن انعدام الموضوعيّة وارتكاب العديد من المغالطات المنطقيّة، كإغفالها للواقع التاريخيّ وتعاملها الانتقائيّ مع المصادر؛ إذ يتمّ التركيز على بعض الروايات أو الظواهر بمعزلٍ عن السياق العام للتشيّع ومسيرته الفكريّة والسياسيّة عبر التاريخ.

ومن النقاط التي يجب أنْ تُؤخذ بعين الاعتبار عند تقسيم الشيعة إلى فرسٍ وعربٍ: هو أنّ من قاموا بهذا التقسيم استندوا إلى قضيتين:

الأولى: هي الأسباب التي جعلت الإيرانيين يقبلون المذهب الشيعيّ، حيث ذكر البعض أنّ هذه المسألة كانت ناتجةً عن دافعٍ عرقيّ، ممّا جعلهم يقبلون هذا المذهب.

والقضية الثانية: فهي تأثير الفرس على المذهب الشيعي.

ونحن سنذكر أمثلةً على كلٍ من هاتين القضيتين، ونقوم بنقدها إجمالاً:

أحد الجوانب المهمة التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي في معظم الآراء المطروحة، أو التي لم تؤثّر تأثيراً جوهرياً في أفكار بعض الباحثين، هو الواقع الدينيّ لإيران على مدى تسعة قرون فقد غُفل تماماً عن أنّ إيران - باستثناء بعض الحالات المحدودة زمانياً ومكانياً - كانت في معظّمها على مذهب أهل السنة والجماعة؛ إذ يمكن تقديم قائمةٍ طويلةٍ من العلماء والكتّاب السنّة الإيرانيين الذين لا يمكن مقارنتهم من حيث العدد مع الكتّاب الشيعة خلال تلك العصور، وهذه الحقيقة لا تحتاج إلى كثيرٍ من الشرح؛ حيث إنّ استيعابها كفيلٌ بإعادة النظر في بعض التصوّرات الشائعة حول نشأة التشيّع وانتشاره في إيران، ومن هنا نسأل هل يصّح أنْ يقال: إنّ مذهب العامّة متأثّرٌ بأفكارٍ فارسيّةٍ حيث إنّ أكثر علمائهم من الفرس؟ أو هم قبلوا مذهب العامّة على حساب العرق؟

لقد أشار بعض الباحثين إلى هذه الحقيقة -وإنْ كان تأثيرها في تحليلهم محدوداً - ومنهم ريتشارد فرای، الذي أبدى استغرابه من الاعتقاد السائد بأنّ إيران كانت دائماً مركزاً للتشيّع، وأوضح أنّ شرق إيران - على وجه الخصوص - كان مركزاً رئيسيّاً للسنة. ويؤكّد أن مراجعة أوائل الحركات الشيعيّة تظهر أنّ نشأتها الحقيقيّة كانت في العراق، وخاصة في مدينة الكوفة، حيث كانت مركزاً أساسياً للحركات الشيعيّة المبكرة.

ويضيف فرای: أنّ الفكر الشيعيّ كان في بداياته أكثر التصاقاً بالعرب منه بالإيرانيين، ممّا ينفي فكرة أنَّ التشيّع نشأ كنتيجة مباشرة للثقافة الإيرانيّة [ينظر: عصر زرین فرهنگ ایران ص172ـ173].

وفي سياقٍ مماثلٍ، يشير إلى أنّ الحركات الفرَقيّة المناهضة للأمويّين كانت نشطةً في المناطق الشرقيّة من الخلافة الإسلاميّة، وأنّ دعم الشيعة لأهل البيت لم يكن مقتصراً على العرب أو الفرس، بل كان ظاهرةً عامةً في مختلف المناطق الإسلاميّة.

كما يوضّح أنّ نجاح الدعاة الشيعة في بعض الأقاليم مثل مناطق بحر قزوين وسيستان لا يعني أنّ إيران كانت البيئة الأكثر تقبّلاً للفكر الشيعيّ، بل على العكس، كانت الغالبيّة الساحقة من سكانها على مذهب أهل السنة [ينظر: بخارا دستاورد قرون وسطی ص81ـ82].

أمّا آدم متز، فيُفنّد الادعاء القائل بأنَّ التشيّع كان مجرد ردّ فعلٍ إيرانيٍّ على الإسلام، مستشهداً بالدراسات التاريخيّة التي تبيّن أنّ توزيع الشيعة في القرن الرابع الهجريّ كان أكثر انتشاراً في العراق والجزيرة العربيّة واليمن مقارنةً بشرق العالم الإسلاميّ، حيث كانت الغلبة للمذهب السنيّ، باستثناء بعض المناطق مثل قمّ [ينظر: تمدن اسلامی در قرن چهارم هجری ج1 ص 77].

وفي السياق ذاته، يوضح پطروشفسكي - معتمداً على أبحاث جولدتسيهر وولهاوزن - أنّ الفرق الشيعيّة انتشرت في البيئات العربيّة والتركيّة كما انتشرت في بعض المناطق الإيرانيّة، وأنّه لم يكن هناك انحيازٌ خاصٌّ عند الإيرانيين نحو التشيّع دون غيرهم. كما يؤكّد أنّ التشيّع لم يكن المذهب المهيمّن في إيران بين القرنين العاشر والخامس عشر الميلاديّ، بل كان هناك توازنٌ بين انتشار المذهبين الشيعيّ والسنيّ في مختلف المناطق الإيرانيّة [ينظر: اسلام در ایران ص51 ـ50].

بناءً على ذلك، لا يبدو أنَّ هناك مجالاً للشكّ في أنّ التشيّع نشأ في البيئات العربيّة وبين القبائل العربيّة، وليس في إيران كما يُروّج البعض.

وهناك مسألةٌ أخرى كثيراً ما يتمّ التطرّق إليها، وهي زواج الإمام الحسين (عليه السلام) من ابنة يزدجرد الثالث، آخر ملوك الساسانيّين، ولكنْ إنّ هذه العلاقة الزوجيَّة – إنْ صحّت – لم يكن لها دورٌ مباشرٌ في انتشار التشيّع في إيران، خصوصاً أنَّ إيران بقيت سنيَّة المذهب حتّى القرن التاسع الهجريّ، ولم يكن التشيّع مذهباً سائداً فيها إلّا بعد قيام الدولة الصفويّة. واللَّافت للنظر أنّ بعض المصادر التي تناولت هذا الزواج تشير إلى أن بنات يزدجرد لم يكنّ محصوراتٍ في الزواج من أئمة أهل البيت، بل تذكر بعض الروايات أنَّ إحداهنَّ تزوجت من أحد أبناء عمر بن الخطاب، وأخرى من أحد أبناء أبي بكر [ينظر: تاريخ اليعقوبيّ ج2 ص335، وقعة صفين ص12]. ولو كان لهذا الزواج أثرٌ حاسمٌ في انتشار التشيّع في إيران، لكان من المتوقّع أنْ يكون لأبناء عمر وأبي بكر تأثيرٌ مماثلُ في الاتجاه المعاكس، وهو ما لم يحصل. وقد تحدّث الشيخ مطهريّ عن عدم ارتباط الشيعة الإيرانيين بهذه القضية، ونفى ذلك من هذه الزاوية، وقال: (لو كان من المفترض أنْ يكرم الناس في إيران يزدجرد، لما تركوه وحده ولم يقتلوه. فكيف يحدث أنّ الإيرانيين لا يحمون يزدجرد، ولكنّهم بعد ذلك يكرّمون أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبب ارتباطهم بيزدجرد، ويضعونهم في أعمق نقاط قلبهم، ويكرسون أعلى مشاعرهم لهم؟!) [خدمات متقابل اسلام وایران ص107ـ108].

وما يبقى للنقاش هو مدى انسجام الفكر الشيعيّ مع بعض الأفكار السائدة في إيران قبل الإسلام؟

في هذا السياق، غالباً ما يُشار إلى وجود تشابهٍ بين نظرية الإمامة الشيعيّة ونظام الحكم الملكيّ الوراثيّ الذي كان شائعاً في إيران القديمة، كما يُستشهد بوجود مظاهر مثل إقامة الأضرحة والمآتم الحسينيّة باعتبارها امتداداً لمراسم الحداد التي كانت تُقام لسياوش في الثقافة الفارسيّة [ينظر: تصوف وتشیّع ص45 وص48].

لكن هذا الطرح بحاجة إلى إعادة نظرٍ دقيقة، فبداية عقيدة الإمامة في الفكر الشيعيّ ليست مجرد انتقالٍ وراثيٍّ للسلطة، كما هو الحال في الملكيّة الموروثة، بل تستند إلى مفهوم النصّ والتعيين الإلهيّ، ممّا يميزها عن أنظمة الحكم الملكيّ التقليديّ.

وإذا كان التشابه في النظام الوراثيّ هو الدليل على تبني الفرس للفكر الشيعيّ، فلماذا لم يدفعهم هذا إلى قبول الحكم الأمويّ والعباسيّ، وهما أنظمة ملكيّة وراثيَّة اعترف بها أهل السنة قبل غيرهم؟ بل على العكس، كان الإيرانيون في معظمهم خاضعين للخلافتين الأمويّة والعباسيّة لقرونٍ طويلة، ممّا يدلّ على أنّ فكرة التوريث لم تكن العامل الأساس في تحديد موقفهم السياسيّ أو الدينيّ.

يضاف إلى ذلك: أنَّ الملكيّات الوراثيّة لم تكن خاصةً بالفرس وحدهم، بل كانت منتشرةً في جميع أنحاء العالم القديم، بما في ذلك الجزيرة العربيّة، حيث عرف العرب هذا النوع من الحكم في دول مثل المناذرة والغساسنة، وحتّى بعض القبائل التي كانت تُورث زعامتها بشكلٍ شبه وراثي. وعليه، فإنّ فكرة أنّ الإيرانيين قد انجذبوا إلى التشيّع لمجرد وجود تشابهٍ بين الإمامة والملكيّة الوراثيّة، أو أنّهم أثّروا في الشيعة بهذا التفكير تفتقر إلى الدّقة العلميّة، حيث إنّ نظام الحكم الوراثيّ كان مقبولاً ومألوفاً في العديد من الثقافات، بما في ذلك البيئات العربيّة.

ومن هنا، فإنّ القول بأنّ التشيّع كان ردّة فعلٍ إيرانيٍّ ضد الإسلام أو أنّه نتاج ثقافةٍ فارسيّةٍ بحتة يتعارض مع الحقائق التاريخيّة. فالتشيّع - كما تؤكّد معظم الدراسات - نشأ في الكوفة والبصرة والمدينة، وبين القبائل العربيّة، ثم امتد إلى مناطق مختلفةٍ، من بينها بعض المناطق الإيرانيّة، لكنّه لم يكن ظاهرة فارسيَّةً خالصةً، لا في النشأة ولا في التطوّر.

كذلك في النظم القبليّة، يُعتبر النسب العامل الأكثر أهميّة في تحديد القيم وانتقالها من جيلٍ إلى آخر، حيث تُبنى الفضيلة والشرف على أسسٍ وراثيّةٍ داخل العشيرة. ومن المثير للتساؤل أنّ مثل هذا النظام الاجتماعيّ كان أكثر وضوحاً بين العرب ممّا كان عليه في إيران في ذلك العصر؛ لذا، إذا كان القبول بإمامة الأبناء عن الآباء هو السبب في انتشار التشيّع في إيران أو أنّ هذه الفكرة جاءت من الغلو الفارسيّ – كما يدّعي بعض الباحثين – فلماذا لم ينتشر هذا المذهب بالدرجة نفسها في المجتمعات العربيّة التي تُعلي من شأن النسب؟ فلماذا نقول هذه الفكرة من الفرس و الحال هي لا تنسجم مع الأفكار الفارسيّة آنذاك، بل هي تنسجم مع المجتمع العربيّ؟

ومن اللافت للنظر أنّ بعض الكتّاب قد ذهب إلى القول بأنّ الخليفة في التصوّر الشيعيّ يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ شيخ القبيلة، حيث يكتسب مكانته بسبب نسبه، فضلاً عن قرابته من النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). [ينظر: أدب الشیعة لعبدالحسين حميده ص12]. فهل يعكس هذا الطرح فكراً عربيَّاً أو إيرانيَّاً؟ في الحقيقة لا ينتمي هذا المفهوم بشكلٍ حصريٍّ إلى أيّ منهما، بل هو جزءٌ من نظم الحكم التقليديّة التي عرفتها البشريّة عبر العصور.

ومن جانب آخر، هناك فكرة الفره الإيزديّ الفارسيّ (النور الإلهيّ) في الفلسفة الإيرانيّة القديمة، والتي تشير إلى أنّ الملك هو ظلّ الله على الأرض، وأنّ نور الله يتجلّى عليه، فهي فكرةٌ شائعةٌ في النظم الملكيّة في مختلف الحضارات، فقد ادّعى بعض الفراعنة الألوهيّة، بينما قدّم الملوك أنفسهم بوصفهم ممثليّن للإرادة الإلهيّة. ومن هنا، فإنّ محاولة إرجاع بعض المفاهيم الشيعيّة إلى هذه الخلفيّة لا تضيف بُعداً جديداً للنقاش؛ لأن مثل هذه الأفكار كانت منتشرة في معظم أنحاء العالم القديم.

بل يمكن أن يقال: إنّ النبوّة نفسها تحمل بعض التشابه مع هذه المفاهيم، حيث إنّ النبيّ هو رسول الله وممثلّه بين البشر. فإذا كان البعض يعتبر التشيّع متأثّراً بمفهوم الفره الإيزدي الفارسيّ، فهل ينبغي تعميم هذا الطرح ليشمل النبوة أيضاً؟ أي أنّ فكرة النبوّة أيضاً مأخوذة من فلسفة القديمة الفارسيّة؟

فإذاً الفكرة التي يطرحها الشيعة حول الإمامة، والتي تقوم على اختيارٍ إلهيٍّ مستندٍ إلى معايير دينيّة، تتشابه مع الاصطفاء الإلهيّ للأنبياء، وليس مع النظام الملكيّ الوراثيّ القائم على القوّة السياسيّة.

إحدى القضايا التي طُرحت بشأن التشيّع والفكر الإيرانيّ هي ربط التشيّع بالحركة الشعوبيّة، من الواضح أنّ أولئك الذين اعتقدوا - قديماً وحديثاً - بتفوّق العرب على غيرهم، اعتبروا التشيّع مذهباً شعوبياً معادياً للعرب، حيث رأوا فيه وسيلةً اتخذها بعض الأعاجم لرفض سيادة العرب، بل ربّما بالغوا في موقفهم هذا. وقد ذهب هؤلاء إلى القول بأنّ الإيرانيين استخدموا التشيّع غطاءً لمواجهة الإسلام، أو بالأحرى لمقاومة هيمنة العرب.

وقد ازداد انتشار هذا الطرح مع مقاومة الإسماعيليين في إيران للسلطة السلجوقيّة والخلافة العباسيّة، حيث حاولت شخصيّاتٌ مثل خواجة نظام الملك - الفقيه الإيرانيّ الشافعيّ المتعصب - في كتابه "السياسة نامة" ربط حركتهم ببعض الحركات ذات الطابع المجوسيّ التي ظهرت في إيران خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين.

وأّدَّى هذا الربط إلى دمج عدة مفاهيم، مثل الزندقة، والباطنيّة، والشعوبيّة، والتشيّع، في إطارٍ واحد، بحيث أصبحت الشعوبيّة تُستخدم أحياناً أداةً لاتهام التشيّع بأنّه ليس سوى امتدادٍ لحركاتٍ معارضةٍ للعرب والإسلام. [ينظر: فصلنامه نامه مفيد رقم 8 رسول جعفريان].

وخلال العقود الأخيرة، سعى بعض الباحثين العرب إلى ربط التشيّع بالحركة الشعوبيَّة، ومن الواضح أنَّ مثل هذا الطرح يمثل مغالطةً تاريخيَّةً كبيرةً، إذ إنّ التشيّع لم يكن يوماً حكراً على الإيرانيين، بل كان مذهباً له أتباعٌ من العرب والفرس وغيرهم على حدٍّ سواء؛ فإنّ مراجعة تاريخ الفكر الشيعيّ تُظهر بوضوح أنّ التشيّع - منذ نشأته - لم يكن ظاهرةً شعوبيّةً أو فارسيّةً بحتة، ففي صفوف الشيعة، كما في غيرهم من باقي المذاهب، وُجد من يميل إلى النزعة الشعوبيّة، كما وُجد من يعارضها بشدّة؛ والدليل على ذلك أنّ بعض الكتّاب الشيعة كتبوا مؤلّفاتٍ مناهضةً للحركة الشعوبيَّة تماماً، كما كتب بعض الشيعة مؤلّفات ذات طابعٍ شعوبيّ. على سبيل المثال، نجد كتاب مثالب القبائل لأحمد بن إبراهيم بن معلى، الذي ينتمي إلى بني تميم لكنّه انتقل إلى فارس، وكان أحد رجال الحديث الشيعة الذين نقلوا عن رواة أهل السنة. وقد وصفه النجاشيّ بقوله: (لم يُجمع مثل كتابه) [رجال النجاشي ص96]، وغيرها تظهر عند مراجعة الفهارس.

ومن جهةٍ أخرى، هناك العديد من المؤلفات الشيعيّة التي تُظهر اهتماماً بفضائل العرب، ممّا يدلّ على أنّ التشيّع لم يكن مرتبطاً بالحركة الشعوبيّة بأيّ شكلٍ قاطع. فمثلاً، كتب أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعريّ - وهو أحد كبار علماء الشيعة في قم - كتاباً بعنوان فضائل العرب [ينظر: رجال النجاشيّ ص82]، وكذلك نجد سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّيّ [ينظر: رجال النجاشيّ ص178]، وغيرها عديدة في الفهارس.

فهذا التباين في المواقف داخل الفكر الشيعيّ يُظهر بوضوح أنّ التشيّع لم يكن يوماً مرادفاً للشعوبيّة، بل كان مذهباً دينيَّاً مستقلّاً تطوّر في بيئاتٍ عربيّةٍ وفارسيّةٍ على حدٍّ سواء. فالتشيّع - منذ نشأته - كان مذهباً ذا طابعٍ دينيٍّ بالدرجة الأولى، احتضنته بيئاتٌ متعددةٌ، عربيّةٌ وفارسيّةٌ وغيرهما، ولم يكن مجرد أداةٍ لمعارضة العرب أو التعبير عن نزعاتٍ قوميّة.

والملاحظة المثيرة للاهتمام أنّ أصحاب الانتقادات الموجهّة إلى التشيّع الفارسيّ، الذين قاموا بتقسيم الشيعة إلى عربٍ وفرسٍ، لم يكونوا على دراية -أو لم يرغبوا أنّ يدركوا بأنّ ما يوجّهونه من انتقاداتٍ وادّعاءاتٍ إلى التشيّع الفارسيّ - مثل إنّ التوحيد ليس مهمّاً، أو النبوّة ليست ذات أهمية، أو أنّ القرآن محرّف - قد استندوا فيها إلى بعض الروايات المنقولة في كتب العلماء غير العرب، مع أنّهم - في الوقت نفسه - زعموا أنّ في التشيّع العربيّ هذه الأمور مهمة، باستنادهم إلى رواياتٍ أخرى نقلها العلماء غير العرب أنفسهم في كتبهم؟!

وهذا دليلٌ على أنّ أصحاب هذه الانتقادات ليسوا من ذوي الاختصاص، وإنّما هم يؤدّون وظيفة مطلوبةً منهم، إذْ لا يفهمون أنّ مجرد وجود الروايات في كتابٍ معيّنٍ لا يعني صحّتها بالضرورة، بل يجب أنْ تخضع هذه الروايات للموازين الحديثيّة والرجاليّة والاستنباطيّة. فلذا وقعوا في التناقض، ومغالطة انتقاء الأدلّة، وغيرها من المغالطات المنهجيّة التي لا يسع المجال إلى طرح جميعها.

وفي المحصّلة: بناءً على ذلك، يمكننا القول: إنّ هذه الفكرة لم تستند إلى أدلّةٍ كافيةٍ أو مصادر موثوقة، بل كانت مجرد ادعاءاتٍ دون أيّة براهين قويّة، كما أنّها ارتكبت العديد من المغالطات المنطقيّة وتجاهلت الحقائق التاريخيّة، ولم تكن تهدف الوصول إلى الحقيقة، بل كانت مجرد أوهامٍ تحركها أهداف سياسيّة ومواقف معادية للشيعة.

وللمزيد يُراجع ما كتبه الشيخ رسول جعفريان في كتابه (تاريخ التشيّع في إيران).