إذا كانت معرفة الله فطريَّة، فما الحاجة إلى الأدلة العقليَّة والفلسفيَّة؟

السؤال: ذكرتم في أحد أجوبتكم لسؤالٍ عن وجود الله تعالى وارتباطه بالفطرة: إنَّ الله تعالى قد فطرنا على معرفته، وللإنسان معرفةٌ فطريَّةٌ بربّه، ولكن هذه الفطرة تُطمس أو تُشوه بسبب الملذات والشهوات. وذكر ايضاً في الجواب: أنَّ عقل الانسان محدودٌ والله لا محدود، وبذلك لا يمكن أنْ نستخدم العقل لمعرفته، وإنّما نعرفه بالفطرة والوجدان؛ لأنّ كلَّ سبيلٍ لمعرفة الله بالعقل سيؤدي حتما إلى تصوره، والله غير متصور، بناءً على ذلك، هل يعني أنَّ الأدلَّة التي قدَّمها الفلاسفة والمتكلمون جميعها باطلة؟ لأنَّ دليل الفطرة لوحده لا يكفي في مواجهة شبهات المفكرين وغيرهم، أم إن المقصود بكلامكم أن دليل الفطرة هو الأصل وبقية الأدلة العقليَّة والكلاميَّة هي بمثابة تذكيرٍ وتنبيه؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

ما أشار إليه السائل قد تضمّنته مجموعةٌ من الأجوبة السابقة المتعلقة بإثبات وجود الخالق، وقد تكون تلك الأجوبة قد تضمَّنت حدوداً غامضة بين دليل الفطرة ودليل العقل والعلاقة بينهما؛ ولذا، سنؤكّد في هذه الإجابة على تلك الحدود في شكل نقاطٍ واضحةٍ ومبسطة:

أولاً: معنى الفطرة وعلاقتها بمعرفة الله تعالى:

الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي حالةٌ مغروسةٌ في كيان الإنسان، تجعله بطبيعته ميّالاً إلى الإيمان بالخالق والتوجه إليه. وهي ليست معرفةً تفصيليَّةً أو عقليَّةً مجردة، بل شعورٌ داخليٌّ أصيل، يشبه الحدس أو الإحساس العميق الذي لا يحتاج إلى تعليمٍ أو تلقين.

هذا الإدراك الفطريُّ لوجود الله تعالى لا يعني أنَّ الإنسان له معرفة تفصيله بالله وبصفاته، بل يعني أنَّه يشعر بأنَّ لهذا الوجود خالقاً، وأنَّ هناك قوةً عُليا ينبغي أنْ يتوجَّه إليها؛ ولهذا، فإنَّ هذه الفطرة ترتبط بالوجدان، وتتحرك عند الإنسان كلَّما خلا قلبه من شواغل الغفلة أو مؤثرات البيئة المنحرفة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بوضوح، حيث قال: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، أي أنَّ هذا الميل نحو الإيمان بالله ليس شيئاً مكتسباً من الخارج، بل هو أمرٌ مزروعٌ في أصل الخلقة، وجزءٌ من التكوين البشريّ، وجاء في قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، ما يدلُّ على مدى بداهة الإيمان بالله تعالى، وكأنَّ الشك في الله أمرٌ مخالفٌ للطبيعة الإنسانيَّة السليمة.

وتتجلّى هذه الفطرة بوضوح في لحظات المحنة والضيق، حيث تنكشف عن الإنسان كلُّ الحجب التي فرضتها الظروف، فيلجأ بفطرته الصافية إلى الله، حتى الكافر لا يجد في لحظة المحنة ملجأ غير الله تعالى، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

لكن، كما ذكرتم في السؤال، هذه الفطرة قد تتشوه أو تطمس بسبب المؤثرات الخارجيَّة مثل الشهوات والملذات، أو بسبب تأثر الإنسان بمفاهيم مغلوطةٍ، أو فلسفاتٍ تهدف إلى إبعاد الإنسان عن فطرته.

لذا، من المهم أنْ نفهم أنَّ الفطرة لا تعني أنَّ الإنسان يمتلك جميع المعارف بشكلٍ كاملٍ، بل هي بداية الطريق للتوجه إلى الله تعالى، وأساس منطلق الإنسان للتعرف عليه.

ثانياً: العلاقة بين العقل والفطرة:

أما عن موضوع العقل وارتباطه بمعرفة الله، فعلى الرغم من أنَّ العقل محدودٌ بطبيعته مقارنةً بكمال الله تعالى، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ العقل لا يستطيع أنْ يهتدي إلى الله.

العقل البشري ليس قادراً على إدراك الله في ذاته؛ لأنَّ الله تعالى لا يمكن أنْ يُحاط به عقلاً، لكن هذا لا يعني أنَّ العقل لا يمكن أنْ يتوصَّل إلى أدلةٍ على وجود الله، خاصةً عندما يتم استخدامه لتأمّلاتٍ عقليَّة منسجمةٍ مع الفطرة.

فالعقل في هذا السياق هو أداة لفهم الأدلة والآيات الكونيَّة التي تنبّه الإنسان وتذكّره بتلك الحقيقة الفطريَّة. وبعبارة أخرى: العقل – من خلال الاستدلال المنطقيّ – يقيم البرهان الذي يعزّز ذلك الدافع الفطريَّ ويثبّته في وجدان الإنسان، فالفطرة تدفع العقل نحو البحث والسؤال، وتثير فيه الحاجة إلى الإجابة، بينما يقوم العقل بدوره في تأكيد ما تشير إليه الفطرة من خلال أدواته في التأمل والتحليل والاستدلال، وبهذا يتحقق نوعٌ من الانسجام بين الفطرة والعقل، حيث لا يكون أحدهما بديلاً عن الآخر، بل يكون كلٌّ منهما مكملاً ومؤيداً للآخر في طريق معرفة الله.

ثالثاً: في الأدلة العقليَّة والفلسفيَّة:

وبناءً على النقطة السابقة، فإنَّ الأدلة التي قدّمها الفلاسفة والمتكلمون لها قيمةٌ كبيرةُ في دعم إيمان الإنسان ورفع الشبهات التي قد يواجهها في مسألة وجود الله تعالى، هذه الأدلة ليست باطلة، بل هي وسيلةٌ لتوضيح الفكرة وتعميق الإيمان، وتستخدم لتثبيت الفطرة في ذهن الإنسان المتأثر بالشبهات الفكريَّة.

على الرغم من أنَّ دليل الفطرة قد يكون (الأصل) في معرفة الله، فإنَّ الأدلة العقليَّة والكلاميَّة تعمل بمثابة (تنبيهٍ) أو (توضيحٍ) يعزّز هذا الفهم الفطريَّ ويوجّه العقل لتقدير الأمور بشكل أعمق.

أحد المفاهيم المهمة في هذا السياق هو أنَّ الأدلة العقليَّة ليست بديلةً للفطرة، ولكنَّها مكملةٌ لها، فهي تساعد الإنسان في مواجهة الشبهات الفكريّة وتقدّم له تأكيداتٍ عقليَّةً على ما يشعر به في قلبه.

في المحصلة، ما نودُّ التأكيد عليه هنا هو أنَّ الفطرة تُشكّل البداية الأساس للتوجه نحو الله، فهي الباعث الأول الذي يدفع الإنسان للسؤال والبحث، وبدون هذا الإحساس الفطريّ لا يجد العقل مبرراً كافياً لابتداء رحلة المعرفة في هذا الاتجاه، غير أنَّ الإنسان - بصفته كائناً مفكراً وعاقلاً - لا يمكنه أنْ يُغفل دور الاستدلال المنطقيّ، خاصة في مقام الاحتجاج والنقاش، حيث يصبح البرهان العقليُّ ضرورةً للتثبيت والردّ على الإشكالات؛ ولهذا، فإنَّ الإنسان في مواجهة الشبهات الفكريَّة لا يستغني عن دليل العقل، وفي الوقت نفسه لا يستغني عن كلِّ وسيلةٍ توقظ ما هو كامنٌ في فطرته وتعيد إحياء إحساسه الوجدانيّ بالحقيقة. فالمعرفة بالله ليست نتاج جانبٍ واحدٍ، بل هي تفاعلٌ حيٌّ بين الفطرة والعقل، يُثمر يقيناً راسخاً وإيماناً واعياً.