من هو الأسبق في جدلية التوحيد والشرك ؟
إن الإنسان ومنذ أول يوم نزل فيه إلى الأرض كان موحداً وعابداً ومطيعاً لله سبحانه وتعالى، إلا أنه وبعد سنوات من التوسع، والتكاثر، ومع كثرة المتطلبات والإحتياجات، وما آلت إليه المجتمعات من انقسامات وهجرة، كل ذلك أدى إلى تعدد الشعوب، و إلى تشعب الجماعات، وتفرق القبائل، وتكثر اللغات و اللهجات.
نتيجة لكل ذلك، ابتعد الإنسان عن سيرة أبيه الأول آدم (عليه السلام)، وعن نهجه وشريعته. فخسر الأمان الذي كان يظله، والبركة التي كانت لديه. فعرضت له أزمات ونكبات، ورأى أهوالاً و أشياء مخيفة جعلته يفكر في كيفية توفير الحلول لها.
الا أن الحلول كانت فردية تدل على قصر نظره، واعتماده على حواسه المجردة، فما كان من الشيطان إلا أن يتدخل ـ فهذه فرصته ـ لإبعاد هذا الإنسان عن الطريق الصحيح، فبدت للعيان ظاهرة جديدة، ألا وهي عبادة غير الله تعالى، ابتدأت بعبادة الطبيعة، وانتهت بنصب وعبادة الأوثان و الأصنام، مما زاد في اختلاف الناس، و تكثر مذاهبهم في ذلك، و أدى إلى تمردهم على الفطرة السليمة، وابتعادهم عن العبودية الأصيلة لله سبحانه و تعالى.
يقول الفيلسوف الأمريكي( ماكس مولر )(1):( أن هذه الآلهة المجسمة ليست إلا تمثيلاً طرأ على الإنسان، بعد تلك الفكرة الطبيعية. وبناء على هذا فقد ركع آباؤنا و سجدوا أمام الله الحق حتى قبل أن يجسروا على الإشارة إليه باسمه )(2) ، كل ذلك كان بفعل أسباب متعددة، منها على سبيل المثال:
1ـ عبادة الهوى.
قال تعالى: (( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ )) الجاثية (23).
2ـ اتباع الشيطان إلى حد العبودية له.
قال تعالى: (( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )) البقرة (168).
و قال تعالى: (( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )) يس (60).
فما كان من الله سبحانه وتعالى، وبعد شيوع كل ذلك الإختلاف إلا أن يبعث الأنبياء والرسل (عليهم السلام) لإرجاع الإنسان إلى أصله الأول، وإلى فطرته السليمة.
قال تعالى: (( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )) البقرة (213).
فكان هذا الإختلاف امتحاناً للإنسان.
قال تعالى: ((وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *)) هود (119).
إن دور الأنبياء والرسل (عليهم السلام) هو إزالة حالة الشرك لدى المجتمعات، وإرجاع الناس إلى الفطرة السليمة.
فـ(( عندما يذكر القران قصص نهضة الأنبياء العظام، فإنّه يؤكد في عدة مواضع على هذه النقطة ، وهي: أن الرسالة الأصلية للأنبياء تتمثل بإزالة أثار الشرك و الوثنية، و ليس إثبات وجود الله، لأن هذا الموضوع مخبأ في أعماق فطرة كل إنسان ))(3).
وهذا جلي واضح للمتصفح لآيات القران الكريم الموضحة لدعوات الأنبياء والرسل (عليهم السلام) لأقوامهم، فالأصل في كل الدعوات واحد، ألا وهو الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى وطاعته وعبادته.
قال تعالى: ((وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)) الزخرف (45).
و قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) الروم (30).
فالمتحصل: أن نشأة الإنسان الأولى قائمة على التوحيد، أما الشرك فأمر عرضي في حياة الإنسان ، فالإنسان موحد بالفطرة، والمتصفح للحقائق التاريخية ـ غير المحرفة ـ يجدها تدل و بشكل قاطع على وجود الدين لدى الإنسان ومنذ القدم، وأن الإنسان الأول و المجتمعات الأولى كانت موحدة، ومعترفة بوحدانية الله سبحانه و تعالى.
يقول الأستاذ الشهير(هرشل): ( كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته و لا نهاية...)(4).
كما ويقول المؤرخ الكبير ويل ديورانت)(5):(.. فأن الإلحاد الديني من الحالات النادرة، وهذا الإعتقاد القديم بأن التدين حالة بشرية عامة يتطابق مع الحقيقة )(6).
ويقول الفيلسوف الأمريكي (ماكس مولر):( خلافاً لما تقوله النظرية الشهيرة بأن الدين ظهر أولاً بعبادة الطبيعة، والأشياء، والأصنام، ثم وصل إلى عبادة الله الواحد، فلقد أثبت علم الآثار بأن عبادة الله الواحد كانت سائدة منذ أقدم الأيام )(7).
إذن فالإنسان الأول والمجتمع الأول كان موحداً، أما الشرك فأمر عارض دخل على المجتمع الإنساني. إن الصراع ما بين الشرك والتوحيد صراع أزلي، ومستمر على طول حياة بني الإنسان.
(ولذا كانت روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرز و الإجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة، وحتى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين، فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال و تعظيمها واحترامها والبلوغ في الخضوع لها، ما يمثل لك وثنية العهود الأولى و الإنسان الأولي )(8).
إن المتتبع لحالة الصراع المحتدم على مر العصور بين جند الرحمن وجند الشيطان، يلحظ أن جوهر الصراع يكمن في: (من الذي تكون له العبودية ؟ ).
فنعلم وبما لا يقبل الشك أن صراع التوحيد ضد الشرك هو منهج الرسالات الإلهية إزاء الملأ المستكبر، والطاغوت المتجبر. نعم لقد كان هذا الصراع يمثل خطاً ثابتاً في المنطق القرآني، حيث يدعو لتخليص الناس من الشرك وعبودية العباد والشهوات، ليرتقي بهم إلى عبودية الله سبحانه و تعالى رب العباد وخالقهم وسيدهم.
يقول مولى الموحدين أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب (عليه السلام): ((... أما بعد، فان الله بعث محمداً صلى الله عليه و آله، ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، و من عهود عباده إلى عهوده، و من طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته ))(9).
قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )) النحل (36).
فالصراع مع الشرك وأتباعه وأدعيائه هو الأصل والأساس، وذلك لأنهم العقبة الكؤود في طريق الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، الذين بعثهم الله عز وجل لإنقاذ الإنسان من الضلالة والجهالة والضياع. والهدف من وراء كل ذلك كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) هو: ((... لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك... ))(10).
فصراع التوحيد وأولياء الرحمن، ضد الشرك وأدعياء الشيطان، يمثل الهوية المتكررة في كل زمان ومكان نحو الحقيقة المتمثلة في العبودية الخالصة لله سبحانه و تعالى.
قال تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) الحديد (25).
وأساساً فان ملحمة الصراع الفكري والمبدئي بين التوحيد و الشرك تمثل رأس المواجهة و سنام المعركة و ذروة الإحتدام و قمة التحدي، حيث يقوم التوحيد بفضح الأفكار الضالة، و المفاهيم المنحرفة، ومواجهتها بجدية و صراحة، في الدعوة إلى نبذ الشرك والتخلي عنه، والعزوف عن متبنياته، والخروج من دائرة تأثيراته، و اعتباره سلطاناً غاشماً على العقول، وسرطاناً فتاكاً للنفوس.
قال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً )) النساء (167).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ماكس مولر أو موللر:( 1823 ـ 1900 م ) عالم ألماني، ولد في مدينة ديساو الألمانية، أهتم باللغة السنسكريتية الهندية القديمة.أسهم في الدراسة المقارنة في مجالات اللغة و الدين و علم الأساطير، على الرغم من أن علماء العصر الحديث قد نبذوا الكثير من نظرياته.سافر إلى المملكة المتحدة سنة ( 1846 م ) وعاش فيها بقية حياته، عمل استاذاً للغات الأوربية الحديثة بجامعة أكسفورد من سنة ( 1854 ) حتى سنة ( 1868 )، على الرغم من عمله المتعلق بالفلسفة واللغات والديانات الهندية، إلا أنه لم يزر الهند أبداً في حياته
(2) أصل الدين وارتقا ؤه ، ماكس مولر، ص 23 .
(3) نفحات القران ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج 2 ، ص 27 ـ 28 .
(4) الدعوة الإسلامية ، محمد حسين أل كاشف الغطاء ، ج 1 ، ص 82 .
(5) ويل ديورانت ( 1885 ـ 1981 م ) .
(6) قصة الحضارة ، ويل ديورانت ، ج 1 ، ص 87 .
(7) الفطرة ، مرتضى مطهري ، ص 148 .
(8) الميزان ، الطباطبا ئي ، ج 10 ، ص 293 .
(9) الكافي ، الكليني ، ج 8 ، ص 387 .
(10) نهج البلاغة .
اترك تعليق