الصلاة البتراء

:

- يقوم أهل السنة والجماعة ببتر جزء من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ذكر اسمه الشريف ويقولون: صلى الله عليه وسلم. 

- بينما يأتي الشيعة الإمامية بالصلاة كاملة إذا ذكروا أسمه المبارك ويقولون: صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبترون الصلاة.

وسؤالنا هنا: أيّ من الفريقين يمثّل في هذه المسألة المذهب الحقّ بينما يمثّل الآخر المذهب البدعي ؟؟!!

في البدء ينبغي الإشارة إلى أنّ تشريع الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء بالنصّ القرآني في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (1).

وقد اتفقت كلمة المسلمين على وجوب هذه الصلاة لصيغة الأمر الواردة في قوله تعالى: {صَلَّوا عَلَيْهِ}، والأمر ظاهر في الوجوب كما هو معلوم من علم الأصول .. قال ابن عبد البر: ( وأجمع العلماء على أنّ الصلاة على النبيّ فرض واجب على كلّ مسلم لقول الله عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} )(2). انتهى 

وعن الآلوسي في "تفسيره": (والأمر في الآية عند الأكثرين للوجوب بل ذكر بعضهم إجماع الأئمة والعلماء عليه، ودعوى محمد بن جرير الطبري أنّه للندب بالإجماع مردودة، أو مؤوّلة بالحمل على ما زاد على مرة واحدة في العمر) (3). انتهى 

ومن الشيعة الإمامية صرّح الشريف المرتضى: (ومما يدلّ على وجوب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فأمر بالصلاة عليه، وأجمعنا على أنّ الصلاة عليه لا تجب في غير الصلاة، فلم يكن موضعاً يحمل عليه إلاّ الصلاة) (4). انتهى

وعليه، فتشريع الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أمر مفروغ منه، سواء قلنا إنّ وجوبها يختص في حال فريضة الصلاة - كما نقل إجماع الإمامية الشريف المرتضى -،أو أنّها واجبة مطلقا كما عليه بعض علماء أهل السنّة، فهذا مبحث آخر، لأنّ كلامنا هنا إنّما هو عن كيفية إداءها بعد علمنا بتشريعها !!

 بيان الكيفية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

عند نزول هذه الآية المباركة (آية 56 من سورة الأحزاب) أقبل الصحابة يسـألون النبي عن كيفية الصلاة عليه، وفي هذا الجانب أخرج البخاري وبقية رجال الحديث عن كعب بن عجرة قوله: (سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإنّ الله قد علمنا كيف نسلّم؟ قال: قولوا: اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. اللهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد) (5).

وقد تواتر النقل لهذه الكيفية في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اثنتي عشر صحابيا يرويها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمحدّثون في كتبهم، منهم: أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو مسعود الأنصاري، وزيد بن خارجة وغيرهم ... الأمر الذي يشكل معه الاقتصار على الصلاة فيها على النبي دون الآل.

قال العلامة الصنعاني في "سبل السلام": (الصلاة عليه لا تتم ويكون العبد ممتثلاً بها حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل؛ لأنّه قال السائل: كيف نصلّي عليك؟ فأجابه بالكيفية أنّها الصلاة عليه وعلى آله، فمن لم يأت بالآل، فما صلّى عليه بالكيفية التي أمر بها) (6).انتهى 

وجاء عن ابن الجزري في "مفتاح الحصن" قوله: (والاقتصار على الصلاة عليه (صلّى الله عليه وسلّم) لا أعلمه ورد في حديث مرفوعاً إلاّ في سنن النسائي في آخر دعاء القنوت، وفي سائر صفة الصلاة عليه (صلّى الله عليه وسلّم) العطف بالآل) (7). انتهى

وعن الشوكاني في "فتح القدير": (وجميع التعليمات الواردة عنه (صلّى الله عليه وسلّم) في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلاّ النادر اليسير، حتى أنّ النووي يرى عدم مشروعية الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وحده ما لم يكن معه آله) (8). انتهى 

وجاء عن الألباني قوله: (إن القول بكراهة الزيادة في الصلاة عليه (صلّى الله عليه وسلّم) في التشهد الأوّل على (اللهم صلّ على محمد) مما لا أصل له في السنّة ولا برهان عليه، بل نرى أنّ من فعل ذلك لم ينفذ أمر النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) المتقدم: قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد).

وقال أيضا: (ليس من السنّة ولا يكون منفّذاً للأمر النبوي من اقتصر على قوله: (اللهم صلِّ على محمد) فحسب، بل لابدّ من الإتيان بإحدى هذه الصيغ كاملة، كما جاءت عنه (صلّى الله عليه وسلّم)) (9). 

ومن الغريب هنا أن نجد مثل هؤلاء الأعلام - كابن الجزري والشوكاني والألباني وغيرهم - حين يصرّحون بأنّ الصلاة البتراء (أي الاقتصار بالصلاة على النبي دون الآل) ليست من السنّة وأنّ الآتي بها لا يكون منفذا للأمر النبوي بالصلاة عليه وعلى آله، ومع ذاك تراهم يأتون بالصلاة البتراء في كلماتهم دون الصلاة الكاملة.. وهذه من عجائب الأزدواجية التي يعيشها القوم في دينهم بأن يقولوا ما لا يفعلون و( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) !!!!

وإذا تجشم القوم عناء الإمتثال للأمر النبوي وجاءوا بذكر الآل عند الصلاة على النبي تراهم يعطفون عليهم الصحابة، فيقولون: (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه).. وهذه بدعة أخرى تضاف إلى بدعة الصلاة البتراء؛ إذ لا يوجد دليل على هذه الإضافة من كتاب ولا سنّة وإنما كان دليل إضافتها عند البعض هو القياس لا غير، والقياس من الظن الذي لا يغني من الحقّ شيئا كما سيأتي بيانه في مسألة مستقلة.

 قال النبهاني في "سعادة الدارين": (وأمّا الصلاة على أصحابه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فإنّها لم ترد في الأحاديث، وقد وقع الاتفاق على استحسانها بالقياس على الآل، كما ذكره شرّاح الدلائل وغيرهم) (10). انتهى 

وهذا القياس في المقام باطل؛ لوجود النص، ولا يصح القياس مع وجود النص.. قال الشيخ محمد بن عقيل الحضرمي الشافعي في "النصائح الكافية": (وأظن أنّ الشيخ [ يقصد ابن حجر الذي كان يضيف الصحابة عند الصلاة على محمد وآله ] كغيره لا يجهلون أنّه لم ينقل عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ولا عن أحد من أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ أنه صلّى على الصحب تبعاً للصلاة عليه (صلّى الله عليه وآله) أو أمر بها لا في الصلاة ولا خارجها، وإنّما قاسها من بعدهم على الصلاة على الآل، والقياس الذي ذكروه فاسد؛ لعدم الاطراد، ولوجود الفارق) (11).انتهى 

وقال الشيخ عبد الله الصديق الغماري في "القول المقنع": (ولم يأتِ في شيء من طرق الحديث ذكر أصحابه، مع كثرة الطرق وبلوغها حدّ التواتر، فذكر الصحابة في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله زيادة على ما علّمه الشارع واستدراك عليه، وهو لا يجوز. وأيضاً فإن الصلاة حقّ للنبي صلّى الله عليه وآله، ولآله، ولا دخل للصحابة فيها) (12). انتهى 

أقول: وبلحاظ ما تقدم.. لا يشفع لمن يريد أن يثبت هذه الزيادة (الصلاة على الصحابة) في الصلاة الإبراهيمية بحجة أنّه لا يريد أن يشابه الشيعة أو الرافضة -على حدّ قوله -في ولائهم للآل دون الصحابة، فانظروا إلى الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ماذا يقول ؟؟!!

 يقول  في كتابه في "اللآلئ البهية" : (كذلك في مسألة الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، الأصل فيها أنّ الصلاة عليه، عليه الصلاة والسلام وعلى آله كما جاء ذلك مبيّنا في حديث أبي حميد وغيره في الصحيحين وغيرهما فإنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) علمهم أن تكون الصلاة عليه وعلى آله، فأدخل أهل السنّة إذا ذكروا الصلاة عليه، عليه الصلاة والسلام، وأرادوا أن يذكروا الآل، أدخلوا معهم الصحابة، فقالوا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ولم يقتصروا على الآل، وهذا عند أكثر أهل السنّة لأجل ألا يشابهوا الرافضة والشيعة في توليهم للآل دون الصحب) (13). انتهى

فهذا الكلام من هذا الرجل من عجائب الدنيا السبع ، فهو مع اعترافه بعدم مشروعية الصلاة على الصحابة ، لعدم ورود النصّ فيها ، إلا أنّه يدخلها من باب عدم التشبه مع الرافضة والشيعة الذين التزموا بالسنّة النبوية .. ولا أدري - واقعا - هل الدين هو لعبة بأيدي أصحاب المذاهب يدخلون فيه ما يشاؤون انتصارا لآرائهم المذهبية حتى لو لم يكن هناك دليل واحد على ما يقومون به من كتاب وسنّة ؟؟!!

إن شرّ البلية ما يضحك حقّا !!!

وقد صرّح بعض علماء أهل السنّة بالدوافع الحقيقية التي حدت بأهل السنّة للالتزام بالصلاة البتراء دون الصلاة الإبراهيمية الكاملة، وهي مسايرتهم لبني أمية، خوفا منهم، لأنّ بني أمية كانوا يكرهون أهل البيت (عليهم السلام)، وأهل السنّة كانوا في طاعة بني أمية، فامتنعوا من الصلاة على الآل تقية، ثمّ استمر الذين جاؤا من بعدهم على هذه البدعة غفلة منهم، واستقّر الحال على ما هو عليه الآن !!!

قال العلامة الصنعاني في "سبل السلام": (ومن هنا تعلم أنّ حذف لفظ الآل من الصلاة كما يقع في كتب الحديث ليس على ما ينبغي، وكنت سؤلت عنه قديماً فأجبت أنّه قد صحّ عند أهل الحديث بلا ريب كيفية الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهم رواتها، وكأنّهم حذفوها خطأ وتقية لما كان في الدولة الأموية من يكره ذكرهم، ثمّ استمرّ عليه عمل الناس متابعة من الآخر للأول فلا وجه له) (14). انتهى 

من هم (الآل) الذين يصلّى عليهم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟؟!!

 بقي أن نشير إلى (الآل) المقرون ذكرهم في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولا نذهب بعيدا في بيان هذا المعنى، فبعد شهادة القوم المتقدّمة بأنّهم أضافوا الصحابة في هذه الصلاة مع الآل حتى لا يشابهوا الرافضة والشيعة في توليهم للآل دون الصحب، الأمر الذي يكشف معه على أنّ الآل في هذه الصلاة هم غير الصحابة وغير الأمة، وبهذا لا تستقيم دعوى البعض بأنّ المراد بالآل هم أمته أو أصحابه أو أتباعه، ونحو ذلك من التمحلات التي نسمعها هنا وهناك؛ لأنّ التفصيل - بين الآل والصحابة - مانع من الشركة كما هو واضح .  

نعم.. بقي السؤال عندنا هنا عن أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) هل يدخلن في مفهوم (الآل) أو لا ؟؟!!

وجوابه: لقد نصّ أكثر علماء أهل السنّة على أنّ المراد بـ (آل محمد) هم أهل بيته ..

قال ابن الأثير في "النهاية": (قد اختلف في آل النبيّ صلّى الله عليه وآله؟ فالأكثر على أنّهم آل بيته) (15). انتهى 

وعن ابن حجر في " فتح الباري "، قال: (وقال أحمد المراد بآل محمد في حديث التشهد أهل بيته ) (16). انتهى 

وجاء عن ابن تيمية في "منهاج السنة" قوله: (والصحيح إن آل محمد هم أهل بيته، وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم) (17). انتهى

أقول: وهذا هو المستفاد من حديث كعب بن عجرة المتقدم، الذي رواه البخاري.. فالصحابة حين سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف الصلاة عليكم أهل البيت ؟؟ أجابهم: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد.. ومن هنا قال الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" بعد نقله لحديث كعب: (وإنّما خرّجته ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعاً هم) (18). انتهى 

طيب.. ومن هم أهل بيته ؟؟!!

روى أحمد في مسنده وغيره أنّ رسول الله (صلى عليه وآله وسلم) دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين، وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي ) (19).

ومن المعلوم في علم البلاغة أنّ تعريف الجزئين يفيد التعيين والإنحصار (20)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا معرّف الجزئين، فـ (هؤلاء) اسم اشارة وهو من المعارف، و(أهل بيتي) مضاف ومضاف إليه، معرفة أيضا.. فيثبت المطلوب..

قال الفخر الرازي في "تفسيره": (آل محمد (صلى الله عليه وسلم) هم من يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أنّ فاطمة وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشدّ التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل) (21). انتهى 

فالحمد لله الذي جعلنا من مذهب آل محمد، مذهب الثقلين (الكتاب الكريم والعترة الطاهرة)، ولم يجعلنا من مذهب أهل البدع، الذين سايروا سلاطين الجور وأئمة الضلال من بني أمية فضلّوا وأضلّوا.. وصلى الله على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين..

____________________________________

(1) سورة الأحزاب : 56. 

(2) فتح المالك بتبويب التمهيد -لابن عبد البر - 3: 237، تحقيق د. مصطفى صميدة .

(3) روح المعاني22: 81.

(4) الناصريات: 229.

(5) صحيح البخاري 4: 118، كتاب بدء الخلق.

(6) سبل السلام 1: 305.

(7) سعادة الدارين -للنبهاني- :29.

(8) فتح القدير 4: 380.

(9) صفة صلاة النبي : 129، 133.

(10) سعادة الدارين : 30.

(11) النصائح الكافية:296.

(12) القول المقنع :10.

(13) اللآلئ البهية في شرح العقيدة الواسطية 2: 410.

(14) سبل السلام 1: 305.

(15) النهاية في غريب الحديث 1: 81.

(16) فتح الباري 11: 192.

(17) منهاج السنة 7: 76.

(18) المستدرك على الصحيحين 3: 160.

(19) مسند أحمد 18: 244، ح 26388، قال حمزة أحمد الزين - المحقق للمسند: إسناده صحيح، المستدرك على الصحيحين 3: 15،صححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(20) اُنظر: الإتقان في علوم القرآن - للسيوطي -: 583 في دلالة تعريف الجزئين على إفادة الحصر والتعيين.

(21) تفسير الرازي 27: 166.

 

المرفقات