كيف يكون الله نوراً مع أن النور مستفاد من غيره؟
السؤال: ورد في دعاء الصباح: «وشعشع ضياء الشمس بنور تأجُّجهِ»، الفرق بين الضياء أنَّه ضوءٌ ذاتيٌّ، أما النور فهو ضوءٌ عارض، والقرآن الكريم ذكر بقوله تعالى: {ﷲُ نور السماوات والأرض}، فهل تسمح بتوضيح وهل بينهما تعارض؟
الجواب:
ينبغي الكلام أوّلاً في الفرق بين (الضياء) و(النور)، وثانياً في تعارض ذلك مع كون الله تعالى نوراً، فالكلام في أمرين:
الأمر الأول: الفرق بين (الضياء) و(النور):
وقع خلافٌ بين العلماء في الفرق بينهما على أقوال، عمدتها ثلاثة:
الأوّل: الترادف: وهو أنّ الضياء والنور بمعنىً واحد، ويجوز استعمال أحدهما مكان الآخر من دون فرق في الدلالة، قال أبو هلال العسكريّ: (الفرق بين الضياء والنور: هما مترادفان لغة) [الفروق اللغويَّة ص٣٣٢].
الثاني: الضياء أقوى من النور: فالاختلاف بينهما من جهة الشدّة والضعف، فاستعمال الضياء مع الشمس يشير إلى قوة الإشعاع وسطوعه، بينما استُعمل النور مع القمر لأنَّه أضعف وألطف إشراقاً. وهذا المعنى قد يستفاد من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} [الفرقان: 61]، حيث شبّهت الآيات الشمسَ بالسراج، وهو ما ينبعث منه الضوء بقوّةٍ وحرارةٍ، بخلاف القمر الذي يوصف بأنَّه منيرٌ فقط.
الثالث: الضياء نورٌ ذاتيٌّ والنور أعمّ: فالضياء هو النور الذاتيّ، أي الذي يصدر من ذات الجسم المضيء دون استعانةٍ بغيره كما هو الحال في الشمس، وأمّا النور فهو أعمّ، فيُطلق على النور الذاتيّ كما في الضياء، ويُطلق أيضاً على النور العرضيّ، أي المنعكس والمكتسب من مصدرٍ آخر كما هو حال القمر الذي يكتسب نوره من الشمس.
وبذلك، يكون التعبير القرآنيُّ دقيقاً ومحكماً في التفريق بين المصدر الذاتيّ للضوء (الشمس) والمصدر العاكس أو المكتسب (القمر)، فالشمس أشبه بـ (السراج) الذي يشتعل بذاته، في حين أنّ القمر كـ (مرآة) تعكس نور السراج.
وقد أشار إلى هذه الأقوال الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ في قوله: (هناك نقاشٌ طويل بين المفسّرين في الفرق بين كلمتي الضياء والنور، فالبعض منهم اعتبرهما مترادفتين وأنّ معناهما واحداً، والبعض الأخر قالوا: إنّ الضياء استعمل في ضوء الشمس فالمراد به النور القويّ، أمّا كلمة النور التي استعملت في ضوء القمر فإنّها تدلُّ على النور الأضعف. الرأي الثّالث في هذا الموضوع هو أنّ الضياء بمعنى النور الذاتيّ، أمّا النور فإنّه أعمّ من الضياء ويشمل الذاتيّ والعرضيّ؛ وعلى هذا فإنّ اختلاف تعبير الآية يشير إِلى هذه النقطة، وهي أنّ الله سبحانه قد جعل الشمس منبعاً فوّاراً للنور، في الوقت الذي جعل للقمر صفة الاكتساب، فهو يكتسب نوره من الشمس. والذي يبدو أنّ هذا التفاوت مع ملاحظة آيات القرآن هو الأصح؛ لأنّا نقراً في [الآية 16 من سورة نوح]: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} وفي [الآية 61 من سورة الفرقان]، {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا}، فإذا لاحظنا أنّ نور السراج ينبع من ذاته، وهو منبعٌ وعينٌ للنور، وأنّ الشمس قد شُبّهت في الآيتين بالسراج، سيتّضح أنّ هذا التفاوت مناسبٌ جداً في الآيات مورد البحث) [تفسير الأمثل ج6 ص301].
الأمر الثاني: هل يتعارض ذلك مع قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؟
نقول: لا تعارض أبداً؛ إذ ليس المقصود بالنور في الآية الكريمة هو النور الحسيّ، بل هو النور الوجوديّ الذي به انكشفت الموجودات وانتظمت الأكوان وهُديت العقول واهتدت القلوب. فالله سبحانه هو نور السماوات والأرض بمعنى أنّه هو الوجود الذي به قوام كلّ موجود، وهو الهادي الذي به تهتدي العقول، وهو المنوّر للقلوب بنور معرفته، كما ينير الشمس الأرض بضوئها.
روى الشيخ الكلينيّ بسندٍ صحيحٍ عن الإمام الباقر (عليه السلام) - في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}- قال: «هو هادٍ لأهل السموات، وهادٍ لأهل الأرض» [الكافي ج1 ص115]، فنجد أنّ الإمام (عليه السلام) يفسّر (النور) في الآية الكريمة بـ (الهداية)، أي أنّ الله تعالى هو الذي يهدي أهل السماوات والأرض إلى الحقّ والمعرفة، فالنور هنا ليس حسيّاً، بل هو نور الهداية الربانيّة.
فالنور في الأصل هو ما تتجلّى به الأجسام الكثيفة للعين، فهو الذي يجعل الأشياء مرئية لنا؛ لأنّه ظاهرٌ بنفسه ومظهِرٌ لغيره، وهذا هو المفهوم الأوّل والأساس لكلمة النور، ثمّ امتدّ هذا المعنى ليدخل في مجالاتٍ أخرى فصار يُطلق - إمّا على سبيل الاستعارة أو كمفهوم حقيقيٍّ ثانٍ ــ على كلّ وسيلةٍ تُظهِر شيئاً من الأشياء المحسوسة، فمثلاً: قيل إنّ الحواس الخمس تُعدّ أنواراً؛ لأنّها تكشف لنا عن عوالم محسوسة، فالسمع يكشف الأصوات، والشمّ يكشف الروائح، وهكذا. ثمّ جرى تعميم مفهوم النور ليشمل ما وراء المحسوسات، فصار يُطلق على العقل أيضاً؛ لأنّ بوساطته يتجلّى لنا عالم المعقولات.
وهذا التوسيع في المفهوم جاء نتيجةً لتحليل خصائص النور من حيث كونه (ظاهراً في نفسه ومظهرا لغيره)، وهاتان هما الركيزتان الأساسيتان في كلّ استعمالات هذا اللفظ.
وعندما نتأمّل في حقيقة الوجود، نجد أنّ كلّ شيء إنّما يكون ظاهراً بذاته من حيث هو موجود، فالوجود ذاته يتضمّن خاصيّة الظهور؛ ولذلك يصحّ وصفه بأنّه نور، لكنّ بما أنّ الموجودات الممكنة لا تملك وجودها بذاتها، بل هي مخلوقة بإيجاد الله سبحانه، فإنّ وجودها وما يتفرّع عنه من ظهور إنّما هو مستند إلى الله تعالى، الذي هو المصدر المطلق للوجود والنور.
وعلى هذا، فإنّ الآية الكريمة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا تعني أنّ الله هو نورٌ من نوع النور الفيزيائيّ المنتشر في الكون، بل المعنى أنّ الله تعالى هو السبب في وجود وظهور كلّ ما في السماوات والأرض، فهو الذي يفيض النور، أي الوجود والظهور، على جميع الكائنات. وهذا ما يُفهم من إضافة النور إلى السماوات والأرض، ثمّ نسبته إلى الله سبحانه، أي أنّ النور الذي به تنكشف حقائق الأشياء هو من الله تعالى، لا من ذاتها. وبالتالي، فإنّ تفسير قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بأنّه «منوّر السماوات والأرض»، يُقصد به أنّ الله تعالى هو الذي يمنحها الوجود والظهور، لا أنّ نورَه قائمٌ فيها كشيءٍ ماديٍّ، تعالى الله عن ذلك.
وعليه، فإنّ المقصود بكون الله نور السماوات والأرض أنّه مصدر النور الوجوديّ العام الذي به تظهر الأشياء وتتحقق، وهذا النور هو عين الرحمة الإلهيّة الشاملة التي وسعت كلّ شيء.
وقد أشار إلى ذلك العلّامة الطباطبائيّ (قدّس سرّه) في [تفسير الميزان ج15 ص122].
ونستنتج ممّا تقدّم: أنَّ معنى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هو أنّ الله سبحانه: نورٌ وجوديٌّ - أي هو سبب وجود كلّ ما سواه -، ونورٌ هدايتيّ - أي هو مَن يهدي العقول والقلوب -، ونورٌ معنويّ - أي يظهر به الحقّ ويُكشف به الباطل -. وهذا لا يتعارض مع الفرق بين (الضياء) و(النور) الحسيّ، كما هو واضح.
اللّهمّ اجعل لنا نوراً في قلوبنا، ونوراً في قبورنا، ونوراً في سمعنا، ونوراً في أبصارنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق