درس ناقة صالح: حين تتساوى الأمة في الرضا والسخط

السؤال: ما هو معنى قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

تعتبر الآية موضع السؤال والبحث واحدة من آيات سورة الشمس المباركة، وقبل الوقوف على معناها ننصح القرّاء الكرام بتلاوة السورة بعناية وتدبّر، حيث سيجدون أنّ الله سبحانه وتعالى قد أقسم خلالها إحدى عشرة مرّة ليؤكّد ثلاث حقائق مهمّة:

الأولى: أنّ النفس الإنسانيّة قد أُلهمت معرفة طريق الفجور وطريق التقوى، وأعطيت القدرة على التميّيز بينهما.

والثانية: أنّ وظيفة الإنسان الأبرز والأهم في هذه النشأة هي الاشتغال بإصلاح النفس وتزكيتها من خلال مجانبته لطريق الفجور والتزامه السير في طريق التقوى، وهذا هو الصراط المستقيم.

والثالثة: أنّ الإنسان لم يُترك سدىً ولم تهمل السماء عنايته وإرشاده وهدايته، بل أرسلت إليه الأنبياء والرسل لتكون دليله في مسيرته هذه، فهو بعين الله تعالى؛ ولذا فمتى حاد عن جادّة الصواب وطغى وتمرّد واستيأس الأنبياء من صلاحه جرت فيه سُنّة الله التي حكم الله بها حياة الكائن البشريّ، والتي تتمثّل بمعاجلته بالتأديب ومباغتته بالعقوبة، في إشارة منه تعالى إلى أنّ هذه السنّة ثابتة وليست عن السلمين ببعيد.

ويلاحظ: أنّ هذه الحقيقة الثالثة أوردتها السورة على هيئة نموذج تاريخي لتكون أقرب إلى الذهن وأدعى لتصديق النفس وإذعانها، ولتخلد في ذاكرة المسلمين، فعرض القرآن لنا قصة نبي الله صالح (عليه السلام) مع قومه ثمود، حيث تشير المصادر التاريخيّة والتفسيريّة إلى أنّ ثمود هم من أقدم أقوام العرب البائدة التي سكنت منطقة جبليّة بين الحجاز والشام، سُمّيت فيما بعد (مدائن صالح). وقد كانت لهم حياة رغيدة مرفّهة، وأرض خصبة، وتطوّر عمرانيّ هائل؛ حيث كانوا ينحتون الجبال لتكون بيوتًا لهم، ويتخذون من سهولها قصورًا لهم، لكنّهم لم يكونوا يعبدون الله تعالى، بل هم قوم وثنيّون.

أرسل الله تعالى إليهم صالحًا (عليه السلام) نبيًّا ورسولًا منهم، يدعوهم لعبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، فاستجابوا لدعوته بادئ الأمر، ثمّ ارتدّ أكثرهم عن دينهم، وطالبه عامّتهم بآية: تكون على هيئة ناقة ذات صفّات معقّدة تخرج عليهم من الجبل، فأجابهم إلى ذلك وأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يؤمنوا لو جاءهم بالآية المطلوبة فعاهدوه على ذلك، فلمّا انشقّ الجبل عن ناقة عظيمة بالصفات التي أرادوها، آمن كثير منهم ، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم، وعقروا الناقة التي أرسلها الله لهم آية ومعجزة، ثمّ ألحقوا فصيلها بها، وتحدَّوا صالحًا أن يأتيهم بالعذاب، فأمهلهم ثلاثة أيام فلمّا انقضت جاءتهم صيحة السماء من فوقهم، ورجفة الأرض من تحتهم، ففاضت الأرواح وزهقت الأنفس، وأصبحوا في دارهم جاثمين جثثاً لا أرواح فيها، ولا حراك بها؛ جزاءً بما كذّبوا نبيّهم ولم يرعوا حرمة آية الله فيهم أعني الناقة وفصيلها [ينظر: البداية والنهاية ج1 ص304، تفسير الأمثل ج2 ص243].

وقد أضحى ذكر «ناقة صالح» مؤشّراً على نزول العذاب الإلهيّ، فنجد أنّ أهل البيت (عليهم السلام) متى تعرّضوا لظلامةٍ معيّنة ذكروا أنّهم ليسوا أقلّ شأناً من ناقة صالح أو فصيلها، كناية عن أنّ الله تعالى أنزل العذاب على قوم ثمود بسبب عدم رعايتهم حرمة الناقة، فكيف لا ينزلها على مَن لم يراعِ حرمتهم (عليهم السلام).

روى الطبرسيّ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «لَمّا استُخرِجَ أمير المؤمنين (عليه السلام) من منزله خرجت فاطمة (صلوات الله عليها) خلفه فما بقيت امرأة هاشمية إلّا خرجت معها حتّى انتهت قريباً من القبر فقالت لهم: خَلُّوا عن ابن عمي، فوالذي بعث محمداً أبي (صلّى الله عليه وآله) بالحقِّ، إن لم تُخَلُوا عنه لأنشرنَّ شعري ولأَضعنَّ قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على رأسي ولأصرخنَّ إلى الله تبارك وتعالى، فما صالح بأكرم على الله من أبي ولا الناقة بأكرم منّي ولا الفصيل بأكرم على الله من وِلدي» [الاحتجاج ج1 ص113].

وروى العامّة بأسانيد مختلفة عمّن شهد الحسين (عليه السلام) في عرصة كربلاء، قال: «كان معه ابنه الصغير فجاء سهم فوقع في نحره، فجعل الحسين يأخذ الدم من نحره ولُبّته فيرمى به إلى السماء فما يرجع منه شيء، ويقول: اللهم لا يكون أهونَ عليك من فصيل ناقة صالح» [مقاتل الطالبيّين ص59].

فإذا عرفت ذلك، فقد ذكر المفسرون في معنى الآية محل البحث والسؤال الأمور التالية:

1ـ قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾:

العقر: هو إصابة أصل الشيء، ويطلق على نحر البعير [ينظر: تفسير الميزان ج20 ص299]. وقال آخرون: العقر: (هو قطع عصب خاصّ خلف رجل الناقة أو الفرس هو سبب حركتها، فإذا قطع سقط الحيوان، وفَقَدَ القدرة على الحركة والتنقل) [ينظر: تفسير الأمثل ج20 ص102 هامش1] والمعنى: أنّهم كذّبوا صالحاً فقتلوا الناقة.

ويلاحظ أن قاتل الناقة شخص واحد كما أشارت إليه آية سابقة بعنوان: ﴿أَشْقَاهَا﴾ وهو قدار بن سالف، ومع ذلك فقد أسند القرآنُ العقرَ لكلّ طغاة ثمود فقال: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾، وهذا يعني أنّهم جميعاً اشتركوا في الجريمة، كلٌّ من موقعه؛ لأنّ مثل هذه المؤامرات التي تواجهها دعوات المصلحين تحتاج إلى التخطيط والدعم اللوجستي والتأييد الجماهيريّ والغطاء الأمنيّ، ثمّ تأتي بعد ذلك كلّه مرحلة التنفيذ. [ينظر: تفسير الأمثل ج20 ص244]، وقد قال الله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ} [القمر: 29]، ومعناه: فنادى القوم عاقر الناقة لعقرها فتناول عقرها فعقرها وقتلها [ينظر: تفسير الميزان ج19 ص80].

وقال أمير المؤمنين (ع): «أيّها الناس، إِنّما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحدٌ فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا» [نهج البلاغة ص319]، وذكر الفخر الرازيّ: (قال قتادة: ذُكر لنا: أنّه أبى أن يعقرها حتّى بايعه صغيرُهم وكبيرُهم وذكرُهم وأنثاهم، وهو قول أكثر المفسّرين) [تفسير الرازي ج31 ص196].

2ـ قوله تعالى: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ﴾:

أي أطبق عليهم العذاب بصيحة من السماء من فوقهم وحرّك الأرض فأرجفت بهم من أسفلهم، فغشيهم العذاب وأحاط بهم كما يحيط اللحم بالعظم، وأنّه تعالى قد ضاعف عليهم ذلك العذاب وكرّره حتّى لم يبقِ أحداً منهم؛ بما ارتكبوه من الطغيان والتمرّد على تعاليم السماء. يقال: دمّ الرجل فلاناً: إذا عذّبه عذابا ما. ودمّ الشيءَ: إذا طلاه بطلاء يحيط به. وكذلك: دمدم عليه القبر، أي أحاط به. وناقة مدمومة، أي قد ألبسها الشحم، ودمّ البعير دمّاً: إذا كثر شحمه ولحمه حتّى لا يجد اللامس مسّ حجم عظم فيه. فإذا كرّرتَ الاطباق فقلت: (دمدمت)، كان فيه ملاحظة التكرّر وتحقّق الفعل وجريانه على هيئة دفعات متكرّرة، وذلك بسبب التضعيف في اللفظ، فيقال: (دمدم عليهم) في إشارة إلى كون العذاب الذي أصابهم فيه إحاطة من جميع الجهات، وله ارتجاج وتكرار وقوع مرّات وكرّات حتّى أتى على جميعهم فلم يَبقَ منهم متشخّصٌ طاغٍ. [ينظر: تفسير التبيان ج10 ص361، التحقيق في كلمات القرآن ج3 ص241].

3ـ قوله تعالى: ﴿رَبُّهُمْ﴾:

فيه إشارة إلى أنّه تعالى مدبّر شؤون خلقه بما فيه صالحهم، وقد أجرى فيه سنناً ثابتة لا تتبدّل ولا تتحوّل، منها أنّه يعلم الصالحين منهم ممّن يستحقّون البقاء على الأرض كما أنّه يعلم الفاسدين المفسدين، فكانت الحكمة تقتضي تطهير الأرض من هؤلاء لئلا يُفسدوا غيرهم معهم، تماماً كما حكى تعالى عن نبيّه نوح (عليه السلام): ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: 26ـ27]، وكلّ ذلك لا يخرج عن كون ما فعله تعالى بهم ما هو خير لهم، فهو (ربّهم) ويعلم أن تعجيل إماتتهم خيرٌ لهم من بقائهم؛ لأنّ الإنسان لو ترك سدىً ولم يجد من يربّيه ويأخذه بالعقاب عند الإساءة فلربّما طغى وتمادى في الذنوب الكبيرات وأوغل في المعاصي الموبقات فاستحقّ بذلك أضعافاً مضاعفة من العذاب الأليم، ومثل هذا لا ريب في كون الموت خيراً له من الحياة؛ ولذا روي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قوله: «لا يتمنّينَّ أحدُكم الموتَ لِضُرٍّ نزل به، وليقل: اللَّهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي» [منتهى المطلب ج7 ص129].

4ـ قوله تعالى: ﴿بِذَنْبِهِمْ﴾:

الباء فيه للتعليل والسببيّة، أي أنّه تعالى أنزل عليهم العذاب بسبب ذنبهم في ردّ الدعوة وقتل الناقة التي هي آية الله إليهم ومعجزة نبيّهم فيهم. وفيه إشارة إلى العدل الإلهيّ وأنّه جلّ وعلا ملتزم مع المجرمين بما قطعه من عهد على ذاته المقدّسة بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ فلا يُجري فيهم عدله ولا ينزل عليهم عذابه حتّى يستوفوا فرصتهم كاملة من رحمته بتوفير الهداية لهم إلى ما يفرضه الشرع الشريف وإرشادهم إلى ما يقضي به العقل السليم من استحقاقه تعالى عليهم من التوحيد والطاعة والعبادة.

5ـ قوله تعالى: ﴿فَسَوَّاهَا﴾:

فيه أربعة آراء:

الأوّل: المساواة بين الأمّة في العذاب من دون فرق بين الذين عقروا الناقة وغيرهم! [ينظر: تفسير غريب القرآن للطريحيّ ص38]، والسرّ في ذلك يرجع إلى ما ذكره أمير المؤمنين (ع) بقوله: «أيّها الناس ، إِنّما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحدٌ فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا» [نهج البلاغة ص319].

الثاني: تسوية قصورهم وديارهم بالأرض بمعنى تسطيحها واعفاء ما فيها من ارتفاع وانخفاض. [ينظر: تفسير الأمثل ج20 ص244].

الثالث: سوّى ثمود القبيلة الكبيرة بالأرض، فالضمير في قوله (فسوّاها) يرجع لثمود باعتبار أنّهم قبيلة أي فسوّى قبيلتهم بالأرض، فأطبق عليهم ما يتمّ بضررهم وعذابهم حتّى أهلكوا [ينظر: التحقيق في كلمات القرآن ج3 ص241].

الرابع: أنّ الضمير في (سوّاها) يعود للدمدمة المفهومة من قوله: (فدمدم)ـ والمعنى فسوى الدمدمة بينهم فلم يفلت منهم قويٌّ ولا ضعيف ولا كبير ولا صغير. [ينظر: تفسير الميزان ج20 ص299، تفسير الكشّاف ج4 ص260].

هذا ما وفقنا الله تعالى لبيانه والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.