إقرار الإمام الحسن (ع) بشرعية خلافة معاوية.
الشبهة: يعتقد بعضهم ممّن لا نصيب له من العلم، أنّ الصلح المبرَم بين الإمام الحسن عليه السلام، ومعاوية بن أبي سفيان يفضي إلى الإقرار بشرعيّة خلافة معاوية. فكان من المناسب في المقام أنْ أكشف للقارئ الكريم -بادئ ذي بدءٍ- حقيقة هذا الموضوع، وذلك من خلال الخطوات الآتية:
الخطوة الأولى: الخلافة الدينيّة والظاهرية وبيان الفرق بينهما:
الخلافة لغةً تعني ما يجيء من بعد، كأنْ يقال: هو خلَف صدقٍ من أبيه. وتأتي بمعنى النيابة عن الغير كما في الآية الكريمة: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (سورة الأَعراف ١٤٢).
وأما اصطلاحاً فإنها ذُكرت في القرآن الكريم لتعبّر عن مفهومٍ في غاية السمو والرفعة، وهو اصطفاء الله سبحانه وتعالى من ينوب عنه، ويقوم مقامه في تحمّل مسؤولية إعمار الأرض وتسخير مقدّراتها وخيراتها، بل كل ذرة في الكون من أجل السير بالبشرية نحو سعادتها الحقيقية(١).
وقد اشتهر إطلاق تسمية (الخلافة) عند أهل السنة وصفاً للحكومات التي خلفتِ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم ، صالحها وفاسدها، والتي تثبت لمن يقوم مقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم بالاختيار، ويطلق عليها الخلافة الظاهرية ورئاسة الحكومة والإمارة.
بينما مصطلح الخلافة عندنا -الشيعة الإمامية- لا يَثبُت إلا بنصِّ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم ، وقد اتضحت حقيقتها قبل أسطر في أنّها نيابةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، في جميع شؤونه، وبالتالي تكون خلافة عن الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا يتضح لك الفرق بين القيادة الدنيويّة وحكومة الناس (الخلافة الظاهرية)، وبين الخلافة الإلهيّة، أنّ الدنيويّة تعني الحكم والسلطة، أمّا الدينيّة فهي تُعدّ منصباً إلهياً، واستمراراً للنبوّة في وظائفها، باستثناء ما يتعلّق بالوصيّ، قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، وقال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) وهذا معناه أنّ الإمامة منصبٌ إلهيّ وجعلٌ من الله عزَّ وجلَّ.
وقد تنفصل الخلافة الدينيّة عن الدنيويّة كما حصل ذلك مع أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام عندما غُصبتْ خلافته وحصل فصْلٌ بين إمامته الدينيّة والدنيويّة دام سنين، فهذا الفصل لا يجرِّد الإمام عليه السلام عن إمامته بالمعنى الديني والقرآني، وكذلك باقي الأئمة المعصومين من وُلده عليهم السلام.
وما أفضى إليه الصلح لا يُثبت لمعاوية أكثر من القيادة الدنيويّة على الناس، وأما مفردة (الخلافة) الواردة في نص الشبهة أو في ما دار على الألسن، فمغالطةٌ واضحة يراد منها إثباتُ الخلافة الظاهرية لمعاوية كما هو حال أبي بكر وعمر وعثمان، ولكن حتى هذا المعنى لا يَثبُت لمعاوية، بل الثابت من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وسلم المتواتر(٢)، أنّه من البغاة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم لعمار بن ياسر: (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)(٣).
وقد أنكر بعض الصحابة على معاوية دعواه الخلافة، منهم سعد بن أبي وقّاص -وهو من رجال الشورى الذين عيّنهم عمر- عندما دخل على معاوية، فقال: (السلام عليك أيّها الملك)، فقال له: (فهلّا غير ذلك؟ أنتم المؤمنون وأنا أميركم). قال: (نعم، إنْ كنّا أمّرناك)(٤)، وفي لفظ (نحن المؤمنون ولم نؤمِّرْك)(٥).
وممّن أنكر عليه الخلافة أيضاً عائشة بنت أبي بكر، فقال عند بلوغه ذلك: (عجباً لعائشة تزعم أني في غير ما أنا أهله، وأن الذي أصبحتُ فيه ليس لي بحقٍّ، ما لها ولهذا، يغفرُ الله لها، إنما كان ينازعني في هذا الأمر أبو هذا الجال(٦)، وقد استأثر الله به، فقال الحسن: أ وَعجبٌ ذلك يا معاوية؟ قال: إي والله، قال: أفلا أخبرك بما هو أعجب من هذا؟ قال: ما هو؟ قال: جلوسك في صدر المجلس وأنا عند رجليك)(٧).
وهذا يكشف بوضوحٍ أنّ معاوية ليس إلّا ملكاً وحاكماً، وأنّ الصلح المزبور لا يعني -إطلاقاً- أنّه إقرارٌ من الإمام عليه السلام بشرعيّة حكم معاوية، ولا توجد أيّة ملازمةٍ بين الصلح والإقرار بذلك، كيف والخلافة الشرعيّة منصب إلهيّ، وتعيين إمامٍ للناس وخليفةٍ لهم إنّما يكون من قِبَل الله عزَّ وجلَّ، فليس للإمام عليه السلام نزع ثوبٍ ألبسَه اللهُ إيّاه.
الخطوة الثانية: صلحه عليه السلام مع معاوية كصلح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم مع كفّار قريش: سُئِل عليه السلام عن سبب الصلح فجاء جوابه شافياً ووافياً عندما سأله أبو سعيد، قال: (قلت للحسن عليه السلام: يا ابن رسول الله، لِمَ داهنتَ معاوية وصالحتَه وقد علمتَ أنّ الحقّ لك دونه وأنّ معاوية ضالٌّ باغٍ؟ قال عليه السلام: (يا أبا سعيد، علّة مصالحتي لمعاوية هي علّة مصالحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل، يا أبا سعيد، إذا كنتُ إماماً من قِبَل الله تعالى ذكره، لم يجبْ أن يُسفَّه رأيي فيما أتيتُه من مهادنة)(٨).
وعليه، فإذا كان صلح الإمام الحسن عليه السلام يفضي إلى الإقرار بشرعيّة خلافة معاوية، فهل هذا يعني أنّ صلح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم مع الكفّار في الحديبية إقرارٌ منه بشرعيّة ما هُم عليه من ضلالة وكفر؟!.. كلّا وحاشا، فهذا ممّا تأباه العقول المستقيمة والفِطَر السليمة.
الخطوة الثالثة: الإمام الحسن عليه السلام أعلم بحال معاوية وما جاء بشأنه على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم: ثمّ إنَّ مثل معاوية لا يخفى حاله على الإمام الحسن عليه السلام ، كيف وجدُّه صلى الله عليه وآله وسلّم ، هو المخبِر عن حال معاوية بن أبي سفيان، حيث تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلّم ، أنّه قال -لما أقبل أبو سفيان ومعه معاوية-:(اللّهمّ العن التابع والمتبوع)(٩)، وفي آخر: (اللّهمّ العن القائد والسائق والراكب)(١٠)، وجاء عنه صلى الله عليه وآله وسلّم بسندٍ صحيح، أنّه قال: (إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)(١١)..
الخطوة الرابعة: لقد أنكر الإمام الحسن عليه السلام على معاوية دعواه الخلافة حتّى بعد الصلح، حيث كتب جواباً لمعاوية، قال فيه: (إن هذا الأمر لي والخلافة لي ولأهل بيتي، وإنها لمحرمةٌ عليك وعلى أهل بيتك، سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، لو وجدتُ صابرين عارفين بحقي غير منكرين، ما سلّمتُ لك ولا أعطيتُك ما تريد)(١٢).
ثمّ بيّن عليه السلام وجه الحكمة من مصالحته فقال: (وإنْ كان وجه الحكمة فيما أتيتُه ملتبساً، ألا ترى الخضر عليه السلام لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه السلام فعلَه؛ لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي؛ هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيتُ لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قُتل)(١٣).
وقال عليه السلام ومعاوية حاضرٌ يستمع: (ليس الخليفة من دان بالجور، وعطّل السنن واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكنّ ذلك مَلِكٌ أصاب ملْكاً تمتّع به، وكأنْ قد انقطع عنه واستعجل لذّته، وبقيتْ عليه تبعتُه، فكان كما قال الله عز وجل: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)(١٤).
ومن هنا يتبين أن الإمام الحسن عليه السلام يرى عدم أهلية معاوية لإدارة أيِّ أمرٍ من أمور المسلمين.
وأخيراً فقد بات من الواضح عند الجميع أن الصلح لا يمثل إعطاءَ خلافةٍ لمعاوية ولا تنازلاً عنها ولا أيَّ شيءٍ من هذا القبيل.
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) أزمة الخلافة والإمامة: ٢١.
(٢) قاله صاحب تفسير (المنار) محمد رشيد رضا: ١٠ - ٣٤٠.
(٣) التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي: ٢ - ٢٥١؛ الدر المنثور للسيوطي: ٦ - ٧٧؛ محاسن التأويل للقاسمي: ٦ - ٤٠٣.
(٤) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ٢ - ٩٨٨، ح١٩٥٥؛ مصنف عبد الرزاق: ١٠ - ٣٩٠، ح ١٩٤٥٥.
(٥) تأريخ الإسلام للذهبي: ٤ - ٢٢٠.
(٦) إشارة إلى الإمام الحسن عليه السلام.
(٧) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٣ - ٢٤٢.
(٨) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس: ١٩٦؛ بحار الأنوار: ٤٤ - ٢.
(٩) شرح الأخبار للنعمان المغربي: ٢ - ١٤٦؛ بحار الأنوار: ٣٣ - ١٦٤؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٤ - ٧٩؛ نزهة النظر في غريب النهج والأثر: ٧٠٠.
(١٠) بحار الأنوار: ٣٣ - ١٩٠؛ الغدير للشيخ الأميني: ٣ - ٢٥٢؛ وقعة صفين لابن مزاحم: ٢٢٠.
(١١) أنساب الأشراف للبلاذري: ٥ - ١٢٨؛ تاريخ الطبري: ٨ - ١٨٦؛ تاريخ الإسلام: ٤ - ٣١٢؛ البداية والنهاية لابن كثير: ٨ - ١٣٢؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ١٤ - ٣٦٩؛ وقعة صفين: ٢١٦.
(١٢) الخرائج والجرائح للراوندي: ٢ - ٥٧٦؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس: ٢ - ١٧٨؛ بحار الأنوار: ٤٤ - ٤٥.
(١٣) الطرائف: ١٩٦؛ بحار الأنوار: ٤٤ - ٢؛ علل الشرائع: ١ - ٢١١.
(١٤) شرف المصطفى للخركوشي: ٥ - ٣٠٥؛ سمط النجوم العوالي للعصامي المكي: ٣ - ٩٧؛ نظم درر السمطين للزرندي: ٢٠٢؛ شرح إحقاق الحق للمرعشي: ١١ - ١٩٢؛ منهاج البراعة للخوئي: ١٩ - ١٥١.
اترك تعليق