نفي مدنية آية المودة وعدم اختصاصها بالحسنين وأبويهما (عليهما السلام)
أثار ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) شبهة حول استدلال الشيعة بآية المودة على عصمة وإمامة أهل البيت (عليهما السلام), مفادها: أنّ الآية وردت في سورة الشورى, وسورةُ الشورى مكية بتمامها, وإنّ الإمام الحسن عليه السلام لم يكن مولوداً وقت ذاك؛ وإنّ علياً عليه السلام إنما تزوج بالزهراء عليها السلام بعد وقعة بدر...وهكذا راح يسترسل بكلامه فكرّر وأعاد, وأورد على ذلك أدلةً متعارضة وبيّناتٍ متناقضة لا تتجارى في حلْبةٍ, ولا تتساير إلى غايةٍ, فقال ما نصُّه: (فهذا كذِبٌ ظاهرٌ؛ فإنّ هذه الآية في سورة الشورى، وسورة الشورى مكّية بلا ريبٍ، نزلتْ قبل أنْ يتزوج عليٌّ بفاطمة رضي الله عنهما، وقبل أنْ يولد له الحسن والحسين؛ فإنّ علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة في العام الثاني، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدرٍ، وكانت بدرٌ في شهر رمضان سنة اثنتين. وقد تقدّم الكلام على الآية الكريمة، وأنّ المراد بها ما بيّنه ابن عباس رضي الله عنهما من أنه لم تكن قبيلةٌ من قريش إلا وبينها وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم قرابةٌ فقال: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(١)، إلا أنْ تودّوني في القرابة التي بيني وبينكم، رواه البخاري وغيره)(٢). وقال: (وقد ذَكر طائفةٌ من المصنِّفين من أهل السُّنة والجماعة والشيعة من أصحاب أحمد وغيرهم حديثاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ هذه الآية لما نزلتْ قالوا: يا رسول الله، مَن هؤلاء؟ قال: عليٌّ وفاطمة وابناهما، وهذا كذبٌ باتفاق أهل المعرفة بالحديث. ومما يبيِّن ذلك أنّ هذه الآية نزلتْ بمكة باتفاق أهل العلم؛ فإنّ سورة الشورى جميعها مكّية، بل جميع الـ (حم) كلُّهن مكيات، وعليٌّ لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة كما تقدّم، ولم يولد له الحسن والحسين إلا في السنة الثالثة والرابعة من الهجرة، فكيف يمكن أنها لما نزلتْ بمكة قالوا: يا رسول الله، مَن هؤلاء؟ قال: عليٌّ وفاطمة وابناهما)(٣). وقال أيضا: (إنّ تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباسٍ يناقض ذلك؛ ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير، قال: سُئل ابن عباسٍ عن قوله تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقلت: أنْ لا تؤذوا محمداً في قرابته، فقال ابن عباس: عجلتَ، إنه لم يكن بطنٌ من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابةٌ، فقال: لا أسألكم عليه أجراً، لكنْ أسألكم أنْ تَصِلوا القرابة التي بيني و بينكم. فهذا ابن عباسٍ ترجمان القرآن وأعلمُ أهل البيت بعد عليٍّ يقول: ليس معناها مودةَ ذوي القربى، لكنّ معناها: لا أسألكم - يا معشر العرب و يا معشر قريش - عليه أجراً، لكنْ أسألكم أنْ تَصِلوا القرابةَ التي بيني و بينكم فهو، سأل الناس الذين أُرسِل إليهم أولاً أنْ يَصِلوا رحِمَه، فلا يعتدوا عليه حتى يُبلِّغ رسالة ربه)(٤) انتهى. ووجدتُ في القوم من يلوك بين أشداقه مقالةَ ابن تيمية, من أمثال القِسْطلاني(٥), وابن كثير(٦),, وعبد العزيز الدهلوي(٧),ومن على شاكلتهم؛ إذ أخذوا عنه تقليداً، واعتنقوا فكره من غير تحقيقٍ، واللهُ سبحانه قد ذمّ أقواماً على تركهم العمل بعقولهم تقليداً لآبائهم، فقال:(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(٨).
أقول: دعوى كون آية المودة مكّية وليست مدَنية, وأنها خطابٌ موجَّه للمشركين القرشيين الذين يعارضون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعيدةٌ كلّ البعد عن نصّ الروايات التي تبين سبب نزول الآية الشريفة وسنأتي على ذكرها فيما بعد.
وقول ابن تيمية: (فهذا كذبٌ ظاهر؛ فإنّ هذه الآية في سورة الشورى، وسورةُ الشورى مكّيّة بلا ريب), خلافُ ما يقتضيه البحثُ العلميُّ من الأمانة العلمية والخُلُقية في العرض والأخذ والرد, وهذا ليس بغريبٍ على ابن تيمية, الذي عُرف عنه خَرق الإجماعات وادّعاؤها ونسبتها إلى (أهل العلم)، هذا اللغز الذي ظل غامضاً حتى الآن؛ إذ حار علماء أهل السُّنة في كشف النقاب عنه، حتى أنهم لم يعرفوا من هم هؤلاء الذين أكثرَ ابنُ تيمية في نسبة الإجماعات لهم نفياً وإثباتاً, أ فلهذا اللغز حلٌّ أو أنه سيبقى أبدياً؟
هذا, وإطلاقه الأحكام جزافاً من غير تثبُّتٍ ولا تحقيق, الأمر الذي لا شكّ في فساده، ولا عذر لمن اتخذه منهجاً في الاستدلال, لكنْ لا غرابة في مثل صنيع ابن تيمية ومن لفّ لفّه؛ إذ إنّ العصبية المذهبية غالباً ما تطغى على الدليل والبرهان, وقد فعلها مِن قبْلُ فكذّب كلَّ ما تواتر في فضل أهل البيت عليهما السلام, وأنت ترى هنا كيف ألقى أحكامه من غير دليلٍ، ونفى ما هو ثابتٌ بالتواتر عن رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين في تعيينهم المراد بالقربى, من دون أنْ يقيم دليلاً واحداً على ذلك.
وادّعى عدم الريب في كون الآية مكية، ولم يبيِّن لنا ما هو مستنَد عدم الريبة في ذلك, وما هذه إلّا واحدةٌ من ادّعاءاته التي عُرفتْ عنه, فتندرج تحت مقولة الشاعر:
والدعاوى إنْ لم تقيموا عليها *** بيِّناتٍ أبناؤها أدعياء
وبالتأمُّل في مثل هذه الدعوى العريَّة عن الدليل والبرهان, ترى أنها غير مقبولة، وتردّها نصوص أسباب النزول – التي سيأتي ذكرها- وأقوال علماء أهل السُّنة.
وللرد على هذه الشبهة بنحو من التفصيل, نتبع الخطوات الآتية:
خطوات الرد على هذه الشبهة:
الخطوة الأولى: في بيان أهمية معرفة سبب النزول.
إن سبب النزول له من الأهمية بمكانٍ في تحديد مكية أو مدنية الآية على نحوٍ مباشر, وهو لا ينفكّ في الغالب عن موضوع المكي والمدني؛ إذ بواسطته يتم التعرف على تاريخ ذلك السبب, وتحديد مكانه, بل الأمر يتجاوز إلى أبعد من ذلك في بعض الأحيان, وذلك بأنْ يحدِّد يوم نزول الآية.
فسبب النزول علمٌ شريف، ولمعرفته أثرٌ كبير في فهم معاني القرآن الكريم، وحلّ معضلات التفسير؛ إذ من خلاله يتمّ تحديد مدلول آية من الآيات الكريمة في معنىً معيَّن، والذي قد لا يستقيم ذلك المعنى إلّا من خلال معرفة سبب النزول وما يرتبط به من أحداث ووقائعَ تشير إليها الآية، وإلى هذا المعنى أشار الواحديُّ النيسابوريُّ في خطبة كتابه (أسباب النزول) حين قال: (إذ هي أوفى ما يجب الوقوفُ عليها، وأولى ما تُصرَف العنايةُ إليها؛ لامتناع معرفة تفسير الآية وقصْد سبيلها، دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها)(٩).
وقد جعل السيوطيُّ من فوائد معرفة أسباب النزول الوقوفَ على المعنى وإزاحةَ الإشكال عن وجه الآية(١٠).
وجاء عن القُشيريِّ ـ المشهور بابن دقيق العبْد ـ: (بيان سبب النزول طريقٌ قويٌّ في فهم معاني الكتاب العزيز)(١١).. وبلحاظ ما تقدّم اتّضح أنّ لمعرفة سبب النزول مدخلاً كبيراً في بيان المعنى المراد من آيات القرآن الكريم..
وهنا قد تسألُ: ما الطريقُ الصحيح لمعرفة سبب النزول لآيةٍ ما؟
وفي الجواب أقول: الطريق الصحيح لمعرفة أسباب النزول منحصرٌ بالأخبار والروايات المتضمِّنة لنقل الواقعة التي تتحدث عنها الآية.
وأن العلماء عدّوا دراسة أسباب النزول من أقوى الطرق المؤدّية إلى فهم معاني كتاب الله.
الخطوة الثانية: المنهج الأساس في تحديد المكي والمدني.
لا يخفى أنّ المعتمَد عند علماء الفن في معرفة المكي والمدني منهجان أساسان، وهما:
المنهج السَّماعي النقلي: ويستند إلى ما رُوي عن الصحابة الذين عاصروا الوحي, وشاهدوا التنزيل, أو عن التابعين الذين تلقّوا عن الصحابة، وسمعوا منهم كيفية النزول ومواقعه وأحداثه، ومعظمُ ما ورد في المكي والمدني من هذا القبيل.
والمنهج القياسي الاجتهادي: ويستند إلى خصائص المكي وخصائص المدني, فإذا ما ورد في سورةٍ مكية آيةٌ تحمل طابع التنزيل المدني أو تتضمن شيئاً من حوادثه, قالوا: إنها مدنية.
وإذا ما ورد في سورةٍ مدنية آيةٌ تحمل طابع التنزيل المكي, أو تتضمن شيئاً من حوادثه, قالوا: إنها مكية, وإذا وُجد في سورةٍ خصائصُ المكي قالوا: إنها مكية, وكذا إنْ وُجد فيها خصائص المدني قالوا: إنها مدنية, وهذا هو القياس الاجتهادي؛ ولذا تراهم يقولون مثلاً: كل سورة جاء فيها قصص الأنبياء وذِكْر الأمم الخالية فهي مكية, وكل سورةٍ جاء فيها ذِكْر الفرائض أو الحدود فهي مدنية, وهكذا.
فإذا كان هذان الأمران هما الميزان في تمييز المكي عن المدني فإن الآية – محل البحث- أيْ آية المودة, تكون قد نزلتْ في المدينة المنورة؛ لثلاثة أمورٍ نذكرهما تباعاً:
الأمر الأول: أن آية المودة تحمل طابع التنزيل المدني؛ وذلك للبيان الآتي:
إن مكافحة الوثنية والدعوة إلى التوحيد والمعاد هي مهمة النبي صلى الله عليه وآله قبل الهجرة، ولم يكن المجتمع المكّي مؤهَّلا لبيان الأحكام والفروع أو مجادلة أهل الكتاب من اليهود و النصارى؛ ولذلك تدور أغلب الآيات المكّية حول المعارف والعقائد والعبرة بقصص الماضين، و ما يقرُب من ذلك.
ولما استتبّ له الأمر في المدينة المنورة، واعتنق أغلب سكّانها الإسلام سنحت الفرصة حينها لنشر الإسلام وتعاليمه و لمناظرة اليهود والنصارى؛ إذ كانوا يثيرون شُبهاً ويجادلون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت آياتٌ حول اليهود و النصارى في السُّوَر الطوال.
فلو كان هذا هو الميزان بغية تمييز المكّي عن المدني، فالآية مدنية قطعاً دون ريب؛ لعدم وجود أيَّة مناسبةٍ لسؤال الأجر أو طلب مودة القربى من أُناسٍ لم يؤمنوا به، بل حشَّدوا قواهم لقتله، بخلاف البيئة الثانية، فقد كانت تقتضي ذلك؛ إذ التفَّ حوله رجالٌ من الأوس والخزرج وطوائف كثيرة من الجزيرة العربية – كما سيتضح قريبا- وهذا هو المنهج القياسي الاجتهادي.
الأمر الثاني: الاعتماد على الروايات والمنقولات(١٢), أي المنهج السماعي النقلي: وهذا أيضاً إنْ عدّ ميزانا في التمييز بين المكي والمدني فآية المودة تكون مدنية, فقد صرّح كثير من علماء أهل السُّنة بمدنية أربع آياتٍ من سورة الشورى بما فيها آية المودة, اعتماداً على رواية ابن عباس, وممن قال بذلك من علمائهم أبو حيان في (البحر المحيط)(١٣), والقُرطبي في (الجامع لأحكام القرآن)(١٤), والشوكاني في (فتح القدير)(١٥), والماوَرْدي في (النُّكَت والعيون)(١٦), والزمخشري في (الكشّاف)(١٧), وعز الدين بن عبد السلام في (مختصر تفسير الماوَردي)(١٨), وابن جزي الكلبي في (التسهيل لعلوم التنزيل)(١٩), وأبو الفرج الجوزي في(زاد المسير)(٢٠), والخازن في (لباب التأويل)(٢١), والماتُريدي في (تأويلات أهل السُّنة)(٢٢), والآلوسي في (روح المعاني)(٢٣), والمرَاغي في تفسيره(٢٤), والعيني في (عمدة القاري)(٢٥), ومحمد طاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير)(٢٦), فبالاستناد إلى هذا المنهج – السماعي النقلي- أيضاً تكون آية المودة من الآيات المدنية المتداخلة في السور المكية (سورة الشورى), كما سيأتي بيان ذلك قريباً إنْ شاء الله تعالى.
الأمر الثالث: سبب نزول الآية:
حيث صرّحت الروايات بنزولها في الأنصار, الأمر الذي يقتضي كونها مدنية, كما أشار إلى ذلك الآلوسي في كتابه (روح المعاني), فنقل عن السيوطي قوله: (ويدل له ما أخرجه الطبراني والحاكم في سبب نزولها فإنها نزلت في الأنصار) (٢٧), فعن ابن عباس قال: (قالت الأنصار فيما بينهم: لو جمعْنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم مالاً فبسط يده، لا يحول بينه وبينه أحدٌ، فقالوا يا رسول الله، إنّا أردنا أنْ نجمع لك من أموالنا، فأنزل الله عزّ وجلّ (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فخرجوا يختلفون، فقالوا: أ لم ترون إلى ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال بعضهم: إنما قال هذا لنقاتل عن أهل بيته وننصرهم، فأنزل الله عزّ وجلّ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبً) إلى قوله (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) فعرّض لهم بالتوبة، إلى قوله: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) هم الذين قالوا هذا إنْ يتوبوا إلى الله ويستغفرونه)(٢٨).
وفي روايةٍ أخرى قال: (سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً، فخطب فقال للأنصار: أ لم تكونوا أذِلّاء فأعزّكم الله بي، أ لم تكونوا ضُلّالاً فهداكم الله بي، أ لم تكونوا خائفين فأمّنكم الله بي، ألا تردّون عليَّ؟ قالوا: أيّ شيءٍ نجيبك؟ قال: تقولون أ لم يطردك قومك فآويناك؟ أ لم يكذِّبك قومك فصدّقناك؟ فعدّد عليهم، قال: فجثَوا على ركَبهم، فقالوا: أموالنا وأنفسنا لك، فنزلتْ (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى))(٢٩).
فمن خلال سياق القصة التي ذكرتْها الروايات يتضح أنّ الخطاب في الآية كان موجهاً إلى الأنصار لا إلى الكفار, وعليه فمما لا شك فيه تكون الآية الشريفة-محلّ البحث- من الآيات المدنية.
الخطوة الثالثة: مناقشة ابن تيمية في مدعاه.
وإضاءة لهذه المناقشة نذكر نصوصاً من كلام ابن تيمية السابق لتكون ماثلة أمام القارئ وسوف نناقشه على ضوء هذه النصوص؛ لكي يتضح لنا جهل وزيغ هذا الرجل ويتبين لنا أيضاً ضعف وضحالة مقالته وإليك بيان ذلك:
المناقشة الأولى: قال ابن تيمية موْهماً الناس بحجّته التي عزاها إلى مصادر أهل ملّته التي صرختْ بتكذيبه, حيث قال: (إنّ تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباسٍ يناقض ذلك، ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير...) في الصحيحين، أيْ في صحيح البخاري وصحيح مسلم.
أقول: إن ابن تيمية بكلامه المذكور خالف الأمانة العلمية التي طالما داعى بها مَن يخالفه، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: نسبته الحديث الذي استدل به على مدّعاه إلى البخاري, وبعد التحرّي والرجوع إلى المصدر يتضح كذبُه للعِيان, حيث لم يردْ في صحيح البخاري حديثٌ بمثل الحديث الذي زعم ابن تيمية وجودَه في المصدر المذكور, لا من حيث الألفاظ ولا من حيث الراوي, فالراوي في الحديث الذي ذكره هو سعيد بن جبير, بينما الراوي في حديث البخاريّ الذي رواه في صحيحه هو عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس, وأما من ناحية الفاظ الحديث فالحديث الذي ذكره ابن تيمية لم يذكره أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها, لا في صحاحهم ولا مسانيدهم.
الجهة الثانية: نسبته الحديث إلى صحيح مسلم, وبعد الرجوع إلى المصدر، فلك أنْ تتصور عزيزي القارىء مدى أمانة ابن تيمية في النقل، وإذا كان هذا هو حال من يلقبونه بـ(شيخ الإسلام) فما بال من كان دونه, وقديماً قال الشاعر:
إذا كانَ ربُّ البيتِ بالدّفِّ ناقراً * * * فلا تَلُمِ الصِّبيانَ فيه على الرَّقْصِ
حيث لا ذِكْرَ لذلك الحديث الذي عزاه إلى صحيح مسلمٍ البتّة, بل على العكس سيجد الباحثُ فيه حديثاً يعارِض الحديثَ الذي ادعى رواية البخاري له في صحيحه, الأمر الذي يؤدي إلى تساقطهما, فيبطل بذلك ما استدلّ به ابن تيمية لمدّعاه, حيث روى مسلمٌ في صحيحه بسندٍ ينتهي إلى يزيد بن هرمز, أنه قال: (كَتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباسٍ يسأله عن... وعن ذوي القربى، من هم؟ فقال(٣٠) ليزيد: اكتب إليه، فلولا أنْ يقع في أُحْموقةٍ ما كتبتُ إليه، اكتبْ: أنك كتبتَ تسألني عن... وكتبتَ تسألني عن ذوي القربى من هم؟ وإنّا زعمْنا أنّا هم فأبى ذلك علينا قومُنا)(٣١).
فابن عباسٍ في الحديث الذي رواه البخاريّ(٣٢) يقول معترضاً على سعيد بن جبير: (عجِلْتَ, إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة), وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ينقض ذلك, حيث يقول ابن عباس: (وإنا زعمنا أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا) فالتعارض بيّنٌ واضح.
وبهذا الذي تقدم فإنْ كان ابن تيمية يريد بما ذكره الحديثَ الذي رواه البخاري في صحيحه, فلا مناص حينئذٍ من ثبوت تلاعُبه بألفاظِ الحديث الذي استدل به متوخياً بذلك مواءمة مقتضى الحديث لهواه ورأيه, حيث قال: (ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير، قال: سُئل ابن عباسٍ عن قوله تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقلت:...).
فالملحوظ في نص كلام ابن تيمية هذا أنّ الراوي هو سعيدُ بن جبير, بينما الراوي في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه هو عبد الملك بن ميسرة، وأنه سمع طاووساً عن ابن عباس: أنه سُئل عن قوله (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم, فقال ابن عباسٍ: عجِلتَ, إنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يكن بطنٌ من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: (إلا أنْ تصِلوا ما بيني وبينكم من القرابة))(٣٣).
والأثر الذي يتركه تلاعُب ابن تيمية بألفاظ الحديث المذكور يقتضي تقديم قول ابن عباسٍ على قول سعيد بن جبير, وقول ابن عباس هو أنه ليس المراد بالقربى (قربى آل محمد) كما قال سعيد بن جبير, بل المراد كلُّ قريش, ومن هذا التحريف تعرف مراده ومبتغاه وهو جعل الحديث دليلاً يؤيد رأيه، ويدعم مُدّعاه.
ففرْقٌ بين أنْ يكون الراوي طاووس أو سعيد بن جبير؛ إذ إن سعيداً لو كان راوياً لهذا الحديث لَعُدَّ ذلك – أي نقله لقول ابن عباس – بياناً وإقراراً منه بصحة ما قاله ابن عباس.. وهذا مما يصب في صالح أحقاد ابن تيمية, وتعصبه الذميم؛ وأما لو كان الراوي طاووس وانه سمع من ابن عباس... بأن سعيدا سبق ابن عباس في الاجابة على السؤال وهو أن المراد من القربى هم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان مما زاد من قوة الأخذ بقول سعيد هذا, ما قاله ابن حجر في معرض كلامه وشرحه للحديث بما نصه:(وهذا الذي جَزم به سعيد بن جبير قد جاء عنه من روايته عن ابن عباس)(٣٤) والرواية عن ابن عباس في المراد من القربى وانهم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم متظافرة ومتواترة وبهذا يتعين الأخذ بما قاله سعيد بن جبير على ما جاء في حديث البخاري وهذا مما يأباه ابن تيمية, فكان هو الدافع من اقدامه على التلاعب بالحديث، لكن الذي رواه البخاري – كما عرفت- يكذِّب ما قاله ابن تيمية؛ إذ إن الراوي للحديث ليس سعيد بن جبير بل هو عبد الملك بن ميسرة، وأنه سمع طاووساً عن ابن عباس(٣٥).
المناقشة الثانية: قال ابن تيمية:(نزلت قبل أنْ يتزوج عليٌّ بفاطمة رضي الله عنهما، وقبل أنْ يولد له الحسن والحسين، فإنّ علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة في العام الثاني، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدرٍ، وكانتْ بدرٌ في شهر رمضان سنة اثنتين).
وكلامه هذا كافٍ في إلقاء ظلالٍ ثقيلةٍ من الشك والريب حول مدنيّة آية المودة؛ إذ إنه ذَكر تأريخ زواج الطاهرة الزهراء عليها السلام بسيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه السلام ثم سلّط الضوء على تأريخٍ لا خلافَ في صحته، وهو ولادة سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين عليهما السلام فجعل ذلك كلّه إحدى مقدمات استدلاله, فخَرج بنتيجةٍ تقتضي مكّية الآية – محلّ البحث-.
وبعبارة أوضح: أنّ ابن تيمية يستدل على مكّية الآية بما يأتي: إن سورة الشورى نزلت في مكة, وإنّ علياً عليه السلام لم يتزوج بالزهراء عليها السلام إلا في المدينة, والحسن والحسين عليهما السلام إنما وُلدا في المدينة أيضاً, إذن آية المودة لا تختص بأهل البيت عليهما السلام؛ لأنها آيةٌ في سورةٍ نزلت بتمامها في مكة، وهي سورة الشورى.
وهذا قياسٌ باطل من وجهين:
١ – أنّه لا دليل على أنّ سورة الشورى نزلتْ بتمامها في مكة؛ لما صرّح به جُلّ علماء أهل السُّنة, حيث نفَوا مكّيّة أربع آياتٍ من سورة الشورى بما فيها آية المودة, اعتماداً على رواية ابن عباسٍ، وسيأتي تفصيل الكلام حول هذه المسألة قريباً.
٢ – أنّ زواج عليٍّ عليه السلام من الزهراء عليها السلام- وكونه في المدينة, وكذلك ولادة السبطين الحسن والحسين عليهما السلام- لا علاقة له البتّة في إثبات مكّية الآية لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ.
الخطوة الرابعة: أقوال علماء أهل السُّنة حول مدنيّة آية المودّة
إنّ ابن تيمية استدلّ على مكيّة الآية بما يأتي: إنّ سورة الشورى نزلتْ في مكة, وإنّ علياً عليه السلام لم يتزوج بالزهراء عليها السلام إلا في المدينة, والحسن والحسين عليهما السلام إنما وُلدا في المدينة أيضاً, إذن آية المودّة لا تختص بأهل البيت؛ لأنها آيةٌ في سورةٍ نزلتْ بتمامها في مكّة، وهي سورةُ الشورى.
وهذا -كما قلْنا فيما تقدّم- قياسٌ باطلٌ من وجوه, أحدها وأهمها: أنّه لا دليلَ على أنّ سورة الشورى نزلتْ بتمامها في مكة؛ فجُلُّ علماء أهل السُّنة على نفي مكّية أربع آياتٍ من سورة الشورى، بما فيها آيةُ المودّة, اعتماداً على رواية ابن عباس.
فبعض علماء أهل السُّنة صرّح بمكّية السورة على الإطلاق, إلا أنّ ذلك باعتبار الأغلب كما أشار إليه الآلوسيّ (٣٦), والبعض الآخر قال بأنها مكّية، ونفى مكّية أربع آياتٍ منها من دون ذكر ما يستند إليه، وكأنّ المسألة باتتْ من المسلَّمات لديه, وثالثٌ ذكر ذلك مستنداً إلى روايةٍ عن ابن عباسٍ وقتادة كما سيتضح لك فيما يأتي, وإليك أقوالهم:
١. قال أبو حيان محمد بن يوسف بن علي في تفسيره البحر المحيط: (هذه السورة مكّية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر, وقال ابنُ عباسٍ: مكّية إلا أربع آيات, من قوله تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخر الأربع آيات؛ فإنها نزلتْ بالمدينة)(٣٧).
٢. قال أبو عبد الله شمس الدين القرطبي في تفسير الجامع لأحكام القرآن: (بسم الله الرحمن الرحيم، سورة الشورى مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر, وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها أُنزلت بالمدينة: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخرها, وهي ثلاثٌ وخمسون آية)(٣٨).
٣. قال محمد بن عليّ الشوكاني في فتح القدير: (رُوي عن ابن عباسٍ وقتادة أنها مكية إلا أربع آياتٍ منها أُنزلتْ بالمدينة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخرها)(٣٩).
٤. عبد الله محمود شحاتة, في تفسير مقاتل بن سليمان: (سورة الشورى مكية إلا الآيات ٢٣, ٢٤, ٢٥, ٢٧, فمدنية، وآياتها ٥٣, ونزلتْ بعد سورة فُصِّلتْ)(٤٠).
٥. قال أبو الحسن الشهير بالماوَردي في تفسيره (النُّكت والعيون): (مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقاله ابن عباس وقتادة, إلا أربع آيات منها نزلتْ بالمدينة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخرها)(٤١).
٦. قال أبو القاسم جار الله الزمخشري في تفسيره (الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل): (سورة الشورى مكّية إلا الآيات ٢٣, ٢٤, ٢٥, ٢٧ فمدنيةٌ...)(٤٢).
٧. قال أبو محمد عز الدين بن عبد السلام في تفسيره (تفسير القرآن) وهو مختصر لتفسير الماوردي): (سورة الشورى مكية إلا أربع آياتٍ مدنية (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) ٢٣ إلى آخرها)(٤٣).
٨. قال ابن جزي الكلبي الغرناطي في تفسيره (التسهيل لعلوم التنزيل): (سورة الشورى مكّية إلا الآيات ٢٣و٢٤و٢٤و٢٥و٢٧ فمدينة، وآياتها ٥٣ نزلتْ بعد فُصِّلتْ)(٤٤).
٩. وقال أبو الطيب محمد صديق خان القنوجي في تفسيره (فتح البيان في مقاصد القرآن): (سورة الشورى، وتسمى حم عسق, وسورة شورى من غير ألف ولام, وسورة حم عسق، وهي ثلاثةٌ وخمسون آية... ورُوي عن ابن عباس أنها مكّية إلا أربع آياتٍ نزلتْ بالمدينة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخرها)(٤٥).
١٠. وقال علي بن محمد بن الحسن السخاوي في (جمال القُراء وكمال الإقراء): (قالا - أي ابن عباس وقتادة - في الشورى آيات غير مكّية)(٤٦).
١١. وقال زكريا زين الدين أبو يحيى السنيكي في (المقصد لتلخيص ما في المرشد): (سورة الشورى مكّية إلا قوله (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً) أما الآيات الأربع فمدنية)(٤٧).
١٢. وقال مرعي الكرمي المقدسي الحنبلي في (قلائد المرجان): (سورة الشورى مكّية كلها إلا أربع آياتٍ نزلتْ بالمدينة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) الآيات...)(٤٨).
١٣. وقال أحمد بن محمد الدمياطي شهاب الدين الشهير بالبناء في (إتحاف فضلاء البشر): (شورة الشورى مكّية إلا أربع آياتٍ، من (قُلْ لَا أسْأَلُكُمْ) إلى أربع آيات فمدنية...)(٤٩).
١٤. وقال أبو الحسن النوري الصفاقسي المالكي في (غيث النفع في القراءات السبع): (مكية، وقال ابن عباس رضي الله عنه: إلا أربع آياتٍ من (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً) إلى شديد، فإنها مدنية)(٥٠).
١٥. وقال جمال الدين أبو الفرج الجَوزي في (زاد المسير): (سورة الشورى, وتسمى حم عسق, وهي مكّية, رواه العوفي وغيره عن ابن عباس, وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور, وحُكي عن ابن عباس وقتادة, قالا: إلا أربع آياتٍ نزلْن بالمدينة أوّلها: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) وقال مقاتل: فيها من المدنيّ...)(٥١).
١٦. وقال علاء الدين علي المعروف بالخازن في (لباب التأويل في معاني التنزيل): (... عن ابن عباسٍ إلا أربع آياتٍ نزلت بالمدينة، أولها (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً)...)(٥٢).
١٧. وقال محمد بن محمد أبو منصور الماتريدي في (تأويلات أهل السُّنة): (سورة حم عسق مكّية إلا آيات)(٥٣).
١٨. وقال الآلوسيّ في (روح المعاني): (وفي البحر: هي مكّية إلا أربع آياتٍ من قوله تعالى (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخر أربع آيات, وقال مقاتلٌ: فيها مدنيٌّ...)(٥٤).
١٩. قال أحمد بن مصطفى المراغي في تفسيره (تفسير المراغي): (هي مكّية إلا الآيات ٢٣, ٢٤, ٢٥, ٢٦, ٢٧ فمدنية...)(٥٥).
٢٠. وقال محمد عزّت دروزة في (التفسير الحديث): (وقد ذَكر المصحَف الذي اعتمدناه أنّ الآيات (٢٣-٢٥) مدنيّاتٌ...)(٥٦).
٢١. محمود بن أحمد بن موسى العينيّ في (عمدة القاري) قال:(قَالَ مقَاتل: وفيهَا من المدَنيّ قَوْله: (ذَلِك الَّذِي يُبشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) (الشورى: ٣٢). وَقَوله: (وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِروْنَ) إِلَى قَوْله: (أُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ) (الشورى: ٩٣ -١٤))(٥٧).
٢٢. محمد طاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير) قال: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ اسْتِثْنَاءُ أَرْبَعِ آيَاتٍ أُولَاهَا قَوْلُهُ (قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: ٢٣) إِلَى آخِرِ الْأَرْبَعِ الْآيَاتِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ الله عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (الشورى: ٢٣، ٢٤). رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ)(٥٨).
٢٣. رضوان بن محمد المخلّلاتي في (القول الوجيز) قال: (مكّية, وعن ابن عباسٍ وقتادة: غير أربع آياتٍ منها نزلتْ بالمدينة، وهي قوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً) إلى قوله تعالى (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ))(٥٩).
فالباحث المنصف - أياً كان - عند تتبّعه أقوال علماء أهل السّنة حول مكية سورة الشورى سيحمل هذا الإطلاق على التغليب حتماً, قال الزرقاني في (مناهل العرفان) ما نصّه: "إنَّ وَصف السورة بأنَّها مكية أو وصفها بأنَّها مدنية يكون بحسب حال أكثر الآيات التي تغلب على السورة، فإنْ كانت أكثر آيات السورة مكيةً كانت السورة مكية، وإنْ كان أكثرها مدنياً كانت السورة مدنية"(٦٠).
هذا من جانب, ومن جانبٍ آخر فقد ورد مقيِّدٌ لذلك الإطلاق، وهو ما ورد عن ابن عباسٍ وقتادة مما يفيد مدنية بعض آياتها؛ إذ صرحت الأخبار الواردة عنه أنه نفى مكية أربع آيات من سورة الشورى؛ لكونها نزلت في المدينة كما قد اتضح ذلك سابقاً في بيان سبب نزول آية المودة, الأمر الذي من شأنه تحديد كون الآية مدنيةً أو مكية.
هذا, ومن تأمل في ما ذكرناه هان عليه ترك الهوى المردي واعتاض عنه بالنافع المجدي.
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) سورة الشورى: آية ٢٣.
(٢) منهاج السنة – لابن تيمية- ٤: ٥٦٢.
(٣) منهاج السنة, ٤: ٥٦٤.
(٤) منهاج السنة, ٧: ١٠٠.
(٥) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري- للعسقلاني- ٧: ٣٣١.
(٦) تفسير ابن كثير, ٧: ٢٠١.
(٧) مختصر التحفة الاثني عشرية, ١٥٣.
(٨) سورة الزخرف: آية ٢٣.
(٩) أسباب نزول الآيات ـ للواحدي ـ: ٤.
(١٠) انظر: الإتقان في علوم القرآن ١: ٨٧، ولباب النقول في أسباب النزول: ١٣.
(١١) لباب النقول في أسباب النزول: ١٣، البرهان في علوم القرآن ـ للزركشي ـ ١: ٢٣.
(١٢) انظر: مفاهيم القرآن – للشيخ السبحاني- ١٠: ٢٧١.
(١٣) تفسير البحر المحيط, ٩: ٣٢٢.
(١٤) تفسير القرطبي, ١٦: ١.
(١٥) فتح القدير, ٤: ٦٠١.
(١٦) تفسير الماوردي, ٥: ١٩١.
(١٧) تفسير الزمخشري, ٤: ٢٠٨.
(١٨) مختصر تفسير الماوردي, ٣: ١٣٧.
(١٩) التسهيل لعلوم التنزيل, ٢: ٢٤٤.
(٢٠) زاد المسير, ٤: ٥٨.
(٢١) لباب التأويل, ٤: ٩٣.
(٢٢) تأويلات أهل السنة, ٩: ١٠٠.
(٢٣) روح المعاني, ١٣: ١١.
(٢٤) تفسير المراغي, ٢٥: ١٣.
(٢٥) عمدة القاري, ١٩: ١٥٦.
(٢٦) التحرير والتنوير, ٢٥: ٢٣ – ٢٤.
(٢٧) روح المعاني – للآلوسي- ١٣: ١١.
(٢٨) المعجم الكبير – للطبراني- ١٢: ٣٣.
(٢٩) المعجم الأوسط – للطبراني- ٤: ١٥٩, وأسباب النزول – للواحدي - ٣٧٤.
(٣٠) أي ابن عباس.
(٣١) صحيح مسلم, ٣: ١٤٤٥, ح ١٨١٢.
(٣٢) على زعم ابن تيمية فيما نسبه الى البخاري.
(٣٣) صحيح البخاري, ٦: ١٢٩, ح٤٨١٨.
(٣٤) فتح الباري – لابن حجر العسقلاني-, ٨: ٥٦٤.
(٣٥) صحيح البخاري, ٦: ١٢٩, ح٤٨١٨.
(٣٦) روح البيان, ٢٥: ١٠.
(٣٧) تفسير البحر المحيط, ٩: ٣٢٢.
(٣٨) تفسير القرطبي, ١٦: ١.
(٣٩) فتح القدير, ٤: ٦٠١.
(٤٠) تفسير مقاتل بن سليمان, ٣: ٧٦١.
(٤١) النكت والعيون, ٥: ١٩١.
(٤٢) تفسير الكشاف, ٤: ٢٠٨.
(٤٣) تفسير القرآن (مختصر تفسير الماوردي), ٣: ١٣٧.
(٤٤) التسهيل لعلوم التنزيل, ٢: ٢٤٤.
(٤٥) فتح البيان في مقاصد القرآن, ١٢: ٢٧١.
(٤٦) جمال القُراء وكمال الإقراء, ١: ١٣٧.
(٤٧) المقصد لتلخيص ما في المرشد: ص٧٦.
(٤٨) قلائد المرجان: ص١٨٠.
(٤٩) إتحاف فضلاء البشر: ص٤٩١.
(٥٠) غيث النفع في القراءات السبع, ١: ٥٢٠.
(٥١) زاد المسير, ٤: ٥٨.
(٥٢) لباب التأويل في معاني التنزيل, ٤: ٩٣.
(٥٣) تأويلات أهل السُّنة, ٩: ١٠٠.
(٥٤) روح المعاني, ١٣: ١١.
(٥٥) تفسير المراغي, ٢٥: ١٣.
(٥٦) التفسير الحديث, ٤: ٤٣٥.
(٥٧) عمدة القاري, ١٩: ١٥٦.
(٥٨) التحرير والتنوير, ٢٥: ٢٣ – ٢٤.
(٥٩) القول الوجيز: ص٢٨٤.
(٦٠) انظر: الزرقاني- مناهل العرفان- ١: ١٩٩.
اترك تعليق