الشيعة والتشيع في منظار المستشرقين

: الشيخ ليث العتابي

  لقد حظي التراث الشيعي باهتمام المستشرقين، إما كفرقة، أو كحدث تاريخي، فقد كتبت العديد من الكتابات حول موضوع الشيعة، وما يتعلق بهم، وهي بحق دراسات كثيرة(1) حتى قال عنها الدكتور عبد الجبار الناجي في كتابه (التشيع والإستشراق): (لم يدر في خلدي في بداية الأمر حين شمرت عن ساعدي، وجمعت أدوات بحثي، ومعداته لأرسم مخططاً لمفرداته الدقيقة، بأن تكون إسهامات المستشرقين عن التشيع، وعن سير أهل البيت بمثل هذه الكثافة، والتركيز نوعاً وكماً...)(2).

لكن ما يميز هذا النتاج وبشكل عام أنه اتسم بعدم الإنصاف، وعدم الدقة، وعدم الموضوعية بالتعامل البشري مع الحوادث والنصوص، ذلك بسبب اعتمادهم على التراث الحديثي السني الذي سيطرت عليه الأيديولوجيا السلطوية الحاكمة(3) بما حوته من مرويات موضوعة، وأحاديث، وقصص محرفة، فكانت هذه الروايات المنطلقَ لجملة من المستشرقين الذين فرحوا بها، وأصبحت محركاً لهم للطعن والتشويه، وحجتهم في ذلك أنها من داخل المنظومة الإسلامية، فتمسكوا بها، بل وزادوا عليها بحسب ما يخدم مصالحهم وأهواءهم.

نعم، إنهم وبدراستهم لمذهب التشيع كان هدفهم إبراز الهوة العميقة بين الفرق الإسلامية، وزيادة الشرخ الموجود بالأساس؛ لأن ذلك يخدم سياستهم الإستعمارية. لكن بعضهم درس مذهب التشيع بعد أن تيقن بأن هذه الفرقة الإسلامية قد تم إقصاؤها عن عمد، (إن هذا النفر منهم قد وصل إلى نتيجة مفادها ضرورة إقصاء المؤلفات السنية لكل من يريد التدوين التاريخي عن العقيدة الشيعية...)(4).

وعلى كل حال، فإن المؤلفات الإستشراقية لم تنصف الشيعة، ولم تكتب عنهم بمنهج علمي خالٍ من الأهواء، أو الميول، أو المؤثرات.

ونحن نقول وبكل ثقة: إنّه لا يوجد أي مؤَلَّف استشراقي يخلو من الملاحظات، والمغالطات عن مذهب التشيع، وعن سيرة أهل البيت (عليهم السلام) .

في الوقت الذي يرفض أغلب المسلمين (سنة وشيعة) مناهج أغلب(5) المستشرقين، وبالخصوص ـ طبعاً ـ الطاعنة في الدين الإسلامي (عقيدة وشريعة)، ويرفض الشيعة ـ على وجه الخصوص ـ كثيراً من الإنتقادات التي وجهها المستشرقون إلى المذهب الشيعي . أن أغلب هذه الانتقادات جاءت من اعتمادهم على المصادر السنية فقط في فهم وقراءة الفكر الشيعي.

فمثلاً: في قضية الغدير، حيث أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد نص على أن خليفته في المسلمين من بعده هو علي بن أبي طالب (ع) يوم غدير خم. رغم ذلك نجد أنّ (مارجليوث)(6) في كتاب (محمد وظهور الإسلام. 1905م) يستبعد مثل هذه التوصية. كما ونجد (بروكلمان)(7) في كتاب (تاريخ المسلمين. 1939م) يجري على نفس المنوال. وكذلك (جولدتسيهر)(8) الذي أورد رواية غدير خم بصيغة التشكيك.

يمكن اعتبار القرن الثاني عشر الميلادي(9) ـ تقريباً ـ بداية معرفة أوربا(10) بالمذهب الشيعي كعقيدة وتنظيم سياسي، وذلك بالتزامن مع الحملات الصليبية زمن (الدولة الفاطمية)(11)، إلا أن الأخبار عن الشيعة صيغت بكثير من الخلط  والتعميم، وعدم الفهم العام، مع وجود التأثير الأيديولوجي السياسي على طبيعة تلك الكتابات.

فمثلاً نجد أن (وليم الصوري)(12) والذي يعتبر أهم مؤرخي الحملات الصليبية في القرن الـ( 12م) قد نسب إلى الشيعة الإعتقاد بأنّ علياً هو نبي الإسلام الحقيقي، لولا أنّ الملاك جبرائيل أخطأ وأوصل الرسالة إلى محمد(13).

وسار على هذا النهج (يعقوب دي فيتري)(14) الذي تسنم منصب مطران عكا فيما بين (1216- 1228م) والذي روج فيما كتبه من كتابات إلى أنّ علياً كان نبياً مرموقاً، تكلم إليه الله كتقدير تمييزي عن النبي محمد(15).

وكذلك ما روجه المنصِّر الشهير (ريكولدو ديمونتو كروس)(16) بأنّ الشيعة يعتقدون بأنّ محمداً اغتصب حقوق عليّ. واعتبر (ريكولدو) أن أتباع علي يحتفظون بقدر من اللطف، وأنّهم أقل شيطنة من الأغلبية السنية. وكذلك أمثال دعوات (ريكولدو) المعادية الكثير، فقد تزامنت مع دعوات كثيرة على هذه الشاكلة المعادية للإسلام، نذكر من ذلك على سبيل المثال دعوات (رايمون لول)(17) و(بطرس بسكوال)(18).

كما ونجد جملة من المستشرقين والكتاب الغربيين يعتبرون أن الأفكار الشيعية وبالخصوص بعض الفرق المحسوبة على الشيعة(19)انتحالاً للأفكار الوثنية الإغريقية والفارسية القديمة.

إن الدبلوماسي الفرنسي (جوزيف آرثر غوبينو)(20) الذي خدم كدبلوماسي فرنسي في طهران بين (1855)و(1858م) قدم معلومات جديدة للغرب ليس فقط عن الانشقاق السني الشيعي، كما صوّره هو، بل عن الإتجاهين الرئيسيين بين علماء فارس: (الإخباريين) و(الأصوليين) أي منظومتي (النقل والعقل)، وهي فروقات أرجعها لأسباب اجتماعية، قبل أن تكون دينية بحسب مدعاه.

كما وقد كتب (الفرد فون كريمر)(21) في عام (1868م) عن التعصب المفرط للشيعة، وعدم تحملهم لغيرهم من أتباع الطائفة المحمدية.

وكتب (كرا دي فو) بعد ثلاثين سنة من تاريخ كتابة (كريمر) أنّ الشيعة لديهم تفكير ليبرالي حر، ويكافحون في مواجهة العقلية السنية المتحجرة ضيقة الأفق، وأن العزلة التي يعيشها الشيعة تنبع من خوفهم من الإحتكاك بالآخر، نتيجة نجاسته.

كما ونجد الإدارة البريطانية وفي سبيل تدعيم مكانتها الإستعمارية في الهند، قامت في (كلكتا) بنشر كتاب (شريعة محمد- 1805م) وجاء هذا الكتاب عن مصادر شهيرة للشيعة الإثني عشرية، وأهم ما اعتمد عليه هذا العمل كتاب (تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية) وكتاب (إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان) للعلامة الحلي(22)، وقد قام باختيار النصوص الضابط الإنكليزي (جون بيلي) الأستاذ في الشريعة الإسلامية واللغة العربية والفارسية، وقد سعى (بيلي) إلى نشر عدد واسع من الأسس الشرعية للشيعة الإمامية. 

فيما بعد نشرت دراسات مقارنة بين الشريعة لدى المذهب الحنفي والإثني عشري. ولم يكن الأخير سوى مختارات من كتاب (تحرير الأحكام) المتعلقة بأمور الزواج والطلاق والرق والهبات والعطايا والوقف والمواريث. كما وتمت ترجمة كتاب (حياة القلوب) من الفارسية إلى الإنكليزية، وهو كتاب يتناول سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله). كتبه العلامة الشيخ المجلسي(23).

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) بغض النظر عن محتواها، وأهدافها.

(2) التشيع والاستشراق،  عبد الجبار الناجي،  ص 11.

(3) كالأيديولوجيا الاموية،  وعلى رأسها معاوية بن أبي سفيان واضع أسس مدرسة الدس والتزوير والوضع والتحريف.

(4) التشيع والاستشراق،  عبد الجبار الناجي،  ص17.

(5) الأغلب وليس الكل.

(6) ديفيد صمويل مارجليوث (1858-1940م) مستشرق انكليزي، عمل قساً في كنيسة انكلترا، ثم أستاذاً لتدريس اللغة العربية في جامعة أكسفورد.

(7) كارل بروكلمان (1868- 1956م).

(8) اجانتس جولدتسيهر  (1850- 1921 م) مستشرق يهودي مجري.

(9) بحسب بعض ما ورد من نظرية تاريخية حول ذلك.

(10) أو العالم الغربي كما يحلو للبعض تسمية ذلك.

(11) الدولة الفاطمية، أو الخلافة الفاطمية، أو الدولة العبيدية، هي إحدى دول الخلافة الإسلامية، والوحيدة بين دول الخلافة التي اتخذت المذهب الشيعي (الإسماعيلي) مذهباً رسمياً لها، تأسست سنة (909 م) وانتهت سنة (1171م).

(12) وليم الصوري (1130-1185م) مؤرخ صليبي، رئيس أساقفة (صور) و(القدس)، مستشار الملك (بلدوين الرابع) ملك مملكة بيت المقدس الصليبية، ولد في بيت المقدس من أسرة ذات أصول فرنسية أو إيطالية.

(13) كان سبب تأكيده على هذا الادّعاء هو وجوده في الكتب السنية التي أخذوا منها بدون تحليل أو تمحيص، علماً إن إثارة مثل هكذا مسائل (تفريقية) تفيد المستعمر الذي رفع شعاره المشهور (فرق تسد) وفق منهج  (تلفيقي) بكل معنى الكلمة.

(14) يعقوب دي فيتري  (1170- 1240 م) مؤرخ وقس ولاهوتي كنسي فرنسي الأصل.

(15) يراجع كتاب: الشيعة في المشرق الإسلامي تثوير المذهب وتفكيك الخريطة،  عاطف معتمد عبد الحميد.

(16) ريكولدو ديمونتو كروس (1243-1320م) راهب دومنيكي إيطالي ومبشر شديد الخصومة على الإسلام، له كتاب (تفنيد آيات القرآن).

(17) رايمون لول أو باللفظ الخاص الصحيح  (رايموندوس لولوس) (1230-1315م) فيلسوف كتالوني، أنضم إلى رهبنة الفرنسسكان، انكب على دراسة اللغة العربية والثقافة الإسلامية قاصداً من وراء ذلك دعوة المسلمين إلى المسيحية، له كتاب (الفن الأكبر) الذي حاول فيه أن يدافع عن المسيحية ضد الإسلام، وانتقد فيه فلسفة ابن رشد.

(18) بطرس بسكوال (1227-1300م) لاهوتي اسباني، له كتاب (الفرقة المحمدية).

(19) الفرق المغالية، والمهرطقة.

(20) جوزيف آرثر دي غوبينو  (1816- 1882 م) أديب وديبلوماسي فرنسي اشتهر ببحوثه ودراساته حول الشرق،  حيث جمع بين الشعر والصحابة والرواية والفلسفة،  وأبرز نتاجاته الفكرية  (التفاوت بين الأجناس البشرية) والذي تأثر به أصحاب نظرية العنصرية الجرمانية،  وله روايات ومذكرات عديدة منها  (الثريا) و (قصص آسيوية) و (جدة وعدن ومسقط ثلاث سنوات في آسيا 1855- 1858 م) ترجمة: مسعود سعيد عمشوش. أقام في إيران مدة خمس سنوات وكان مسؤولاً في السفارة الفرنسية بمدينة طهران. 

(21) الفرد فون كريمر (1828-1889م) مستشرق نمساوي، ألماني الجنسية، كان قنصلاً في مصر وبيروت.

(22) الحسن بن يوسف بن المطّهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي (648-726ﻫ).

(23) محمد باقر المجلسي (1037-1111ﻫ).