النبيّ (ص) لم يذكر سوى ثلاثة من التابعين وكلّهم كانوا شيعة لعليّ (ع)!!

:

الملفت للنظر لمن تتبع كتب الحديث والتأريخ أنّ النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر في أحاديثه عن التابعين (من الّذين لم يرهم ويرونه) سوى ثلاثة فقط، بشّر بهم أمّته، فذكر أسماءهم وذكر مواقفهم ومالهم من المنزلة والمكانة، وهؤلاء هم : (أويس القرني ، وجندب بن كعب، وزيد بن صوحان).

والملفت للنظر في هؤلاء الثلاثة أيضا أنهم كانوا كلّهم شيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ هم ممّن جاهد بين يديه (عليه السلام) واستشهد في المعارك الّتي خاضها الإمام (عليه السلام) ضدّ مناوئيه(1)! وهذا الأمر - في واقعه - يُعدّ رسالة ذات مغزى كبير تعين الساعين في الوصول إلى الحقّ وأهله، وهي كغيرها من الإشارات الّتي أرسلها النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى اُمّته في هذا الجانب، فليعتبر بها مَن يعتبر!

جاء في سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود: ((سمعت أبا داود السجستاني يقول: ذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ثلاثة من التابعين جندب العلقي، وأويس القرني، وزيد بن صوحان))(2).

وفي هذا أيضاً روى ابن عساكر: ((عن جابر، عن محمّد بن عليّ (عليه السلام) ومحمّد ابن المطلب وزيد بن حسن، قالوا: شهد مع عليّ بن أبي طالب في حربه من أصحاب بدر سبعون رجلاً، وشهد معه ممّن بايع تحت الشجرة سبع مائة رجل فيما لا يحصى من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وشهد معه من التابعين ثلاثة بلغنا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهد لهم بالجنّة أويس القرني وزيد بن صوحان وجندب الخير، فأمّا أويس القرني فقتل في الرجالة يوم صفين، وأمّا زيد بن صوحان فقتل يوم الجمل))(3)

أويس القرني (خير التابعين):

النبيّ (صلى الله عليه وآله) يبشّر بأويس القرني : 

روى أبو نعيم في (حلية الأولياء) أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال لأبي هريرة: (يا أبا هريرة إنّ الله تعالى يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء الشعثة رؤوسهم المغبرة وجوههم الخمصة بطونهم إلا من كسب الحلال الّذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المتنعمات لم ينكحوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا، وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يُعادوا، وإن ماتوا لم يشهدوا). قالوا: يا رسول الله كيف لنا برجل منهم؟ قال: (ذاك أويس القرني. قالوا: وما أويس القرني؟ قال: أشهل، ذو صهوبة، بعيد ما بين المنكبين، معتدل القامة، آدم شديد الأدمة ضارب بذقنه إلى صدره، رام بذقنه إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله، يتلو القرآن، يبكي على نفسه، ذو طمرين لايؤبه له، متزراً بإزار صوف ورداء صوف، مجهول في أهل الأرض معروف في أهل السماء، لو أقسم على الله لأبر قسمه، ألا وإنّ تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء، ألا وإنّه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد اُدخلوا الجنّة، ويقال لأويس قف واشفع، فيشفع لله(عزوجل) في مثل عدد ربيعة ومضر)(4).

هذا، وقد روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده والحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب أنّه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (إنّ خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم)(5).

والأحاديث المتقدّمة الّتي بشّر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس بأويس القرني جعلته (رضوان الله عليه) في حياته موضع اهتمام الناس وطلبهم، وكان عمر بن الخطاب في خلافته يسأل عنه ويطلبه ليستغفر له عند الله.

روى الحاكم في المستدرك عن أسير بن جابر قال: ((قال لي صاحب لي وأنا بالكوفة هل لك في رجل تنظر إليه؟ قلت: نعم، قال: هذه مدرجته وأنّه أويس القرني وأظنه أنّه سيمر الآن، قال: فجلسنا له فمر فإذا رجل عليه سمل قطيفة، قال: والناس يطئون عقبه، قال: وهو يقبل فيغلظ لهم ويكلّمهم في ذلك فلا ينتهون عنه، فمضينا مع الناس حتّى دخل مسجد الكوفة ودخلنا معه، فتنحى إلى سارية فصلّى ركعتين، ثمّ أقبل إلينا بوجهه فقال: يا أيها الناس مالي ولكم تطئون عقبي في كلّ سكة وأنا إنسان ضعيف تكون لي الحاجة فلا أقدر عليها معكم لا تفعلوا رحمكم الله، من كانت له إليَّ حاجة فليلقني ها هنا. قال: وكان عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) سأل وفداً قدموا عليه: هل سقط إليكم رجل من قرن من أمره كيت وكيت؟ قال الرجل لأويس: ذكرك أمير المؤمنين..))(6).

وفي طبقات ابن سعد عن أسير بن جابر قال: ((كان عمر بن الخطاب إذا أتت عليه أمداد اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ فلمّا كان من العام المقبل حجّ رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس القرني، قال: سمعت رسول الله يقول: (يأتي عليك أويس بن عامر من أمداد أهل اليمن من مراد.. بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)))(7).

وهنا نتساءل - بحسب هذه الرواية -: هل استطاع (الخليفة) أن يحظى بأويس القرني ليسأله الاستغفار له كما وجهه النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى ذلك، إذ في قوله (صلى الله عليه وآله): (إن استطعت) إشارة إلى إمكان عدم حصول مثل هذا الأمر؟

والجواب: إنّ الروايات في هذا المعنى مضطربة، ولعل المستفاد من بعضها عدم حصول لقاء بين أويس وعمر، وهناك روايات أخرى تشير إلى حصول مثل هذا اللقاء ولكن أويس لم يستغفر لعمر، بل انملس منه - أي: أفلت منه - كما في رواية الذهبي الآتية.

فقد روى ابن عساكر في تاريخه عن سعيد بن المسيب قال: ((نادى عمر بن الخطاب وهو على المنبر بمنى: يا أهل قرن، فقام مشايخ فقالوا: نحن يا أمير المؤمنين، قال: أفي قرن من اسمه أويس؟ فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ليس فينا من اسمه أويس إلا مجنون يسكن القفار والرمال لا يألف ولا يؤلف، فقال: ذاك الّذي أعنيه، إذا عدتم إلى قرن فاطلبوه وبلّغوه سلامي، وقولوا له: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشّرني بك وأمرني أن أقرأ عليك سلامه. قال: فعادوا إلى قرن فطلبوه فوجدوه في الرمال فأبلغوه سلام عمر وسلام النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فقال: عرفني أمير المؤمنين وشهر باسمي، السلام على رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله)، وهام على وجهه فلم يوقف له بعد ذلك على أثر، ثمّ عاد في أيام عليّ فقاتل بين يديه فاستشهد في صفين أمامه، فنظروا فإذا عليه نيف وأربعون جراحة من طعنة وضربة ورمية))(8).

ويستفاد من هذه الرواية جملة أمور:

أوّلها: عدم لقاء أويس القرني بعمر بن الخطاب بعد هذه الحادثة.

وثانياً: عدم ردّه السلام على عمر وتخصيصه السلام برسول الله (صلى الله عليه وآله) فقط.

ويستفاد أيضاً أنّ الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) كانت كاملة عند الصحابة والتابعين وليست بتراء كما هو الشأن عند أهل السنة اليوم(9).

وكما يستفاد منها أنّ أويس (رضوان الله عليه) ظهر في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقدّم نفسه كفدائي بين يدي الإمام (عليه السلام) ـ كما سيأتي بيانه أيضاً - في الوقت الّذي كان يستكثر مجرد ردّ السلام على عمر فضلاً عن اللقاء به، والفرق واضح بين الموقفين!!

وأمّا رواية الذهبي الّتي أشرنا إليها سابقاً فهي: ((قال عمر: فقدم علينا ها هنا فقلت: ما أنت ؟ قال: أنا أويس، قلت: من تركت باليمن؟ قال: اُمّاً لي، قلت: هل كان

بك بياض فدعوت الله فأذهبه عنك؟ قال: نعم، قلت: أنت أخي لا تفارقني. فانملس منّي، فأنبئت أنّه قدم عليكم الكوفة))(10). انتهى

شفاعته (رضوان الله عليه):

مرّت بنا رواية أبي نعيم في الحلية عن أبي هريرة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (وإذا كان يوم القيامة قيل للعباد ادخلوا في الجنّة، ويقال لأويس: قف واشفع، فيشفع لله (عزوجل) في مثل عدد ربيعة ومضر).

وفي (المستدرك على الصحيحين) قال الحاكم: ((عن عبد الله بن أبي الدعاء: أنّه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (يدخل الجنّة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم). قال الثقفي: قال هشام: سمعت الحسن يقول: إنّه أويس القرني))(11).

وفي مسند أحمد يرويه بطريق آخر عن عبد الله بن الجدعاء: (أنّه سمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول: (ليدخلن الجنّة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم). فقالوا: يا رسول الله سواك، قال: (سواي سواي)(12).

وفي رواية ابن عساكر: (يدخل الجنّة بشفاعة رجل من أمتي يقال له أويس فئام(13) من الناس)(14).

وتوجد هناك العشرات من الروايات الواردة في هذا المضمون الّتي يمكن للقارئ متابعتها والاطّلاع عليها(15).

أويس القرني من شيعة أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام):

ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء)، وابن عساكر في (تاريخ مدينة دمشق): ((أنّ أويس القرني عندما شهر باسمه عمر بن الخطاب وكان يطلبه هام على وجهه، ولم يوقف له بعد ذلك أثر دهراً، ثمّ عاد في أيام عليّ (رضي الله عنه)، فاستشهد معه بصفين، فنظروا، فإذا عليه نيف وأربعون جراحة))(16).

فمن هذه الرواية، وغيرها من الروايات نلاحظ أنّ هذا الرجل العظيم الّذي بشّر به النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأخبر المسلمين عن منزلته وماله من الشأن في الدنيا والآخرة، والّذي كان لا ينطق بكلمة (غفر الله لك) في غير محلّها. يذكر نقلة الآثار عنه أنّه قد اعتزل الخلفاء قبل عليّ (عليه السلام) ولم يشارك في غزواتهم، إلا أنّه عند تسلّم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) زمام الأمور يقبل على أمير المؤمنين (عليه السلام) ليقدّم نفسه كفدائي بين يديه، وهذا الفعل من أويس - وهو خير التابعين - عبرة بالغة لمن أراد الاعتبار بها والاستفادة منها في دنياه وآخرته.

روى الحاكم في مستدركه عن أبي مكين قال: ((رأيت امرأة في مسجد أويس القرني قالت: كان يجتمع هو وأصحاب له في مسجدهم هذا يصلّون ويقرؤن في مصاحفهم فآتي غداءهم وعشاءهم ها هنا حتّى يصلوا الصلوات قالت: وكان ذلك دأبهم ما شهدوا حتّى غزوا، فاستشهد أويس وجماعته من أصحابه في الرجالة بين يديَّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين))(17).

وأيضاً روى الحاكم في مستدركه من طريق الأصبغ بن نباته، قال: ((شهدت عليّاً يوم صفّين يقول من يبايعني على الموت، فبايعه تسعة وتسعون رجلاً فقال: أين التمام؟ فجاءه رجل عليه أطمار صوف، محلوق الرأس فبايعه على القتل، فقيل: هذا أويس القرني، فما زال يحارب حتّى قتل))(18).

وقد أصبح أويس (رضوان الله عليه) في جيش عليّ (عليه السلام) علامة أخرى من علامات الهدى الّتي اشتمل عليها هذا الجيش المبارك، يميّز به الناس - من الّذين اشتبهت عليهم الأمور - الحقّ من الباطل.

روى أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه - واللفظ له - والذهبي في (سير أعلام النبلاء)، وابن سعد في الطبقات: عن يزيد بن زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ((لمّا كان يوم صفين نادى مناد من أصحاب معاوية أصحاب عليّ: أفيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم، فضرب دابته حتّى دخل معهم، ثمّ قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (خير التابعين أويس القرني)))(19).

وممّا يجدر ذكره هنا أن نعرف بأنّه قد شهد مع عليّ (عليه السلام) يوم صفين من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمانون بدرياً، وخمسون ومائتان ممّن بايع تحت الشجرة(20)،

وفي رواية ابن عبد البر عن عبد الرحمن بن أبزى قال: ((شهدنا مع عليّ (رضي الله عنه) صفين في ثمانمائة من بايع بيعة الرضوان قتل منهم ثلاثة وستون منهم عمّار بن ياسر))(21).

جندب بن كعب .. قاتل الساحر زمن عثمان :

من المعروف أنّ جندب بن كعب هو الّذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ): (يضرب ضربة تفرق بين الحقّ والباطل)(22)، وفي لفظ ابن السكن وابن مندة وابن عساكر: (وإنّما جندب فيضرب ضربة يكون فيها أمّة وحده)(23)، فهو الّذي قتل الساحر الّذي كان يقوم بألعابه وشعوذاته أمام الوليد بن عقبة الّذي كان والياً على الكوفة من قِبل عثمان ابن عفان، فصعد إليه واخترط سيفه وضربه ضربة فرّقت بين رأسه وجسده، ثمَّ قال مخاطباً له: إن كنت صادقاً أيّها الساحر فأحي نفسك. فأنكر عليه الوليد ذلك، ثمَّ أراد أن يقتله به فمنعه الأزد، فتراءى له أن يحبسه ثمّ يقتله غيلة، وقد كان على السجن الّذي وضعه فيه رجل نصراني كان قد تأثّر بجندب كثيراً لما رآه منه من قيام ليله وصيام نهاره، فكان من أمره أن أوكل بالسجن رجلاً، وخرج يسأل الناس هذا السؤال: من هو أفضل أهل الكوفة؟ فقالوا له: الأشعث بن قيس، فاستضافه فرآه ينام الليل ثمّ يصبح فيدعو بغدائه، فخرج من عنده وسأل: أيّ أهل الكوفة أفضل؟ قالوا: جرير بن عبد الله، فذهب إليه فوجده ينام الليل ثمَّ يصبح فيدعو بغدائه، فاستقبل القبلة، وقال: ربّي ربّ جندب، وديني دين جندب، وأسلم(24).

وفي (مروج الذهب) : ((نظر السجّان إلى قيام ليله إلى الصبح، فقال له: انج بنفسك، فقال له جندب: تقتل بي، قال: ليس ذلك بكثير في مرضاة الله والدفع عن ولي من أولياء الله، فلمّا أصبح الوليد دعا به وقد استعدّ لقتله، فلم يجده، فسأل السجّان، فأخبره بهربه، فضرب عنق السجّان وصلبه بالكناسة))(25).

وقد استشهد جندب بن كعب في معركة الجمل بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كما يذكر ذلك الزبير بن بكار في الموفقيات .

زيد بن صوحان العبدي (زيد الخير):

تابعي كبير، وأحد المخضرمين، من الأخيار الأبرار الّذين ذكرهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يرهم، وهو كان قد أدرك النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلا أنّه لم تثبت له صحبة.

قال الذهبي في ترجمته: ((كان من العلماء العبّاد، ذكروه في كتب معرفة الصحابة، ولا صحبة له، لكنه أسلم في حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وسمع من عمر، وعليّ، وسلمان))(26).

وفي (الإصابة) لابن حجر: ((قال ابن الكلبي في تسمية من شهد الجمل مع عليّ: وزيد بن صوحان أدرك النبيّ(صلى الله عليه وآله) وصحبه، وتعقبه أبو عمر فقال: لا أعلم له صحبة وإنّما أدرك، وكان فاضلاً ديّناً، سيّداً في قومه))(27).

وذكره الخطيب البغدادي وكذلك ابن عساكر في تاريخهما بأنّه كان ممّن يقوم الليل ويصوم النهار(28). وزيد (رضوان الله عليه) بعد هذا ممّن كان يحظى بثقة السيدة عائشة، كما سيأتي في كتاب لها إليه، وأيضاً كانت له المنزلة والمكانة عند عمر بن الخطاب... روى ابن سعد والذهبي وابن عساكر: أنّه وفد قوم من أهل الكوفة على عمر وفيهم زيد بن صوحان فجاءه رجل من أهل الشام يستمد فقال عمر: يا أهل الكوفة إنّكم كنز الإسلام وإن استمدكم أهل البصرة أمددتموهم، وإن استمدكم أهل الشام أمددتموهم، وجعل عمر يرحل - أي: يمسك زمام الراحلة - لزيد ويقول: هكذا فاصنعوا بزيد وإلا عذبتكم(29).

وفي لفظ ابن أبي شيبة: ((دعا عمر زيد بن صوحان فصفنه - أي: فحمله - على الرحل كما تصفنون أنتم أمراءكم، ثمّ التفت إلى الناس فقال: افعلوا بزيد وأصحابه مثل هذا))(30).

وممّن وثّق زيد بن صوحان العبدي (رضوان الله عليه) ابن سعد في الطبقات، حيث قال: ((عن عليّ بن هاشم عن أبيه أنّ زيد بن صوحان أوصى أن يدفن معه مصحفة، وكان ثقة قليل الحديث))(31).

وأيضاً ذكره ابن حبان في (الثقات)(32)، وقال عنه في (مشاهير علماء الأمصار): ((زيد بن صوحان من عبد القيس أبو سليمان كان من أوتي لساناً وبياناً، حضر يوم الجمل، وكان مع عليّ بن أبي طالب))(33).

وزيد (رضوان الله عليه) قبل هذا كلّه كان ممن بشّر به النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأخبر أنّه سيسبقه عضو من أعضائه إلى الجنّة، وقد عُدَّ هذا الإخبار من أعلام نبوّته (صلى الله عليه وآله)، وأيضاً من إرشاداته (صلى الله عليه وآله) - الّتي يدركها ذوي البصائر دون غيرهم - إلى الأمّة في اتّباع طريق الحقّ وأهله، إذ العلم بحسن عاقبة المرء دليل على حسن الطريق الّذي سار عليه وأوصله إلى الجنّة، وقد سار زيد بن صوحان - وهو المبشّر بسبق عضو من أعضائه إلى الجنّة - على طريق الولاء لعليّ (عليه السلام) حتّى استشهد بين يديه في واقعة الجمل كما سيأتي بيانه!

روى ابن سعد، وابن عساكر، والذهبي، وابن الأثير، وابن حجر، وآخرون غيرهم: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان في سفر مع أصحابه، فنزل رجل من القوم فساق بهم ورجز، ثمّ نزل آخر، ثمّ بدا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يواسي أصحابه فنزل فجعل يقول: (جندب وما جندب والأقطع الخير زيد)، ثمّ ركب، فدنا منه أصحابه فقالوا: يا رسول الله سمعناك الليلة تقول: جندب وما جندب والأقطع الخير زيد، فقال (صلى الله عليه وآله): (رجلان يكونان في هذه الأمّة يضرب أحدهما ضربة تفرق بين الحقّ والباطل، والآخر تقطع يده في سبيل الله، ثمّ يتبع الله آخر جسده بأوّله). وفي لفظ ابن عساكر: (والآخر يقال له زيد يسبقه عضو من أعضائه إلى الجنّة فيتبعه سائر جسده). قال يعلى بن عبيد: ((قال الأجلح: أمّا جندب فقتل الساحر عند الوليد بن عقبة، وأمّا زيد فقطعت يده يوم جلولاء، وقتل يوم الجمل))(34).

وروى ابن كثير في (البداية والنهاية): ((عن عليّ (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من سرّه أن ينظر إلى رجل يسبقه بعض أعضائه إلى الجنّة فلينظر إلى زيد بن صوحان). قلت: قتل زيد هذا في وقعة الجمل من ناحية عليّ))(35).

وفي (تاريخ مدينة دمشق) لابن عساكر: ((قال الحارث الأعور: كان ممّن ذكره رسول الله (صلى الله عليه وآله) زيد الخير وهو زيد بن صوحان، قال (صلى الله عليه وآله): (سيكون بعدي رجل من التابعين وهو زيد الخير يسبقه بعض أعضائه إلى الجنّة بعشرين سنة)، فقطعت يده اليسرى بنهاوند(36)، ثمّ عاش بعد ذلك عشرين سنة، ثمّ قتل يوم الجمل بين يدي عليّ، وقال قبل أن يُقتل: إنّي قد رأيت يداً خرجت من السماء تشير إليّ أن تعال وأنا لاحق بها يا أمير المؤمنين فادفنوني في دمي فإنّي مخاصم القوم))(37).

وقد روي عنه أيضاً ساعة موته أنّه قال: ((لا تنزعوا عنّي ثوباً إلا الخفين، ولا تغسلوا عنّي دماً ادفنوني في ثيابي وارمسوني في الأرض رمساً فإنّي رجل محاج أحاج يوم القيامة، وفي لفظ: فإنّي رجل مخاصم))(38).

وعن ابن حجر في (تعجيل المنفعة) قال: ((وفضائل زيد كثيرة، وقتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين))(39).

ثبات زيد بن صوحان على المبدأ :

 إنّ هذا الرجل العظيم - المبشّر بالجنّة - كان من أبرز الداعين إلى الحقّ وأهله، وكان من أهل الثبات على المبدأ لا يثنيهم في البقاء على موقفهم تنوّع وسائل الترغيب أو الترهيب الّتي تُعرض عليهم.

قال له سلمان يوماً: كيف أنت إذا اقتتل القرآن والسلطان؟ قال: إذا أكون مع القرآن، قال: نعم الزيد إذا أنت(40).

ولمواقفه في الإصحار بالحقّ نجد مثل سعيد بن العاص والي الكوفة الجديد الّذي عيّنه عثمان بن عفان بدلاً عن الوليد بن عقبة يشتكي لعثمان من زيد بن صوحان وأصحابه أمثال مالك الأشتر، وكميل بن زياد النخعي، والحارث الهمداني، وجندب بن كعب الأزدي، من المعروفين بولائهم لأمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) والمناهضين لحكم بني أمية، فيأمره عثمان بتسييرهم إلى الشام، فيكتب معاوية من الشام إلى عثمان: ((إنّك بعثت إليَّ قوماً أفسدوا مصرهم وأنغلوه، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قبلي ويعلّموهم ما لا يحسنونه حتّى تعود سلامتهم غائلة، واستقامتهم اعوجاجاً)) فكتب عثمان إلى معاوية أن يسيّرهم إلى حمص، ففعل وكان واليها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة.. ويقال: إنّ عثمان كتب في ردّهم إلى الكوفة فضج منهم سعيد ثانية فكتب في تسييرهم إلى حمص، فنزلوا الساحل(41).

وجاء في تاريخ الطبري: ((لمّا قدمت عائشة (رضي الله عنها) إلى البصرة كتبت إلى زيد ابن صوحان: من عائشة ابنة أبي بكر أم المؤمنين حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان أمّا بعد فإذا أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا على أمرنا هذا فإن لم تفعل فخذّل الناس عن عليّ))(42)، وفي شرح النهج للمعتزلي أنّها كتبت له: ((أمّا بعد فأقم في بيتك، وخذّل الناس عن عليّ، وليبلغني عنك ما أحب، فإنّك أوثق أهلي عندي، والسلام))(43).

قال الطبري: ((فكتب إليها: من زيد بن صوحان إلى عائشة ابنة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمّا بعد فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أوّل من نابذك))، ثمّ نقل الطبري عن زيد بن صوحان قوله: ((رحم الله أم المؤمنين اُمرت أن تلزم بيتها وأُمرنا أن نقاتل، فتركت ما أُمرت به وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه))(44).

وقد وقف زيد (رضوان الله عليه) بعد رسالته هذه إلى عائشة في أهل الكوفة يخطب فيهم ويحثّهم على المسير إلى نصرة الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) والقتال بين يديه. وعن الطبري وابن كثير: ((فقام زيد فشال يده المقطوعة...ثمّ قرأ {ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا..} إلى آخر الآيتين(45)، وقال: سيروا إلى أمير المؤمنين وسيّد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحقّ))(46).

وعلى هذه العقيدة قاتل زيد بن صوحان بين يدي أمير المؤمنين(عليه السلام) في واقعة الجمل قتال الأبطال حتّى نالت منه الجراحات مبلغاً، فأتاه أمير المؤمنين(عليه السلام) وبه رمق فوقف عليه وقال له: (رحمك الله يا زيد، فوالله ما عرفناك إلا خفيف المؤنة، كثير المعونة). قال: فرفع إليه رأسه فقال: وأنت يرحمك الله، فوالله ما عرفتك إلا بالله عالماً، وبآياته عارفاً، والله ما قاتلت معك عن جهل ولكن سمعت حذيفة بن اليمان يقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: (عليّ أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، ألا وإن الحقّ معه، ألا وإنّ الحقّ معه يتبعه، ألا فميلوا معه)(47). رحم الله زيداً وأسكنه الجنّة مع إمامه أمير المتّقين (عليه السلام).

____________

1- أويس القرني استشهد بصفين ، وجندب بن كعب قاتل الساحر استشهد يوم صفين نصّ على ذلك الزبير بن بكار في الموفقيات، وزيد بن صوحان استشهد يوم الجمل .

2- سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود 1: 185.

3- تاريخ مدينة دمشق 19: 442.

4- حلية الأولياء 2: 81، 82.

5- صحيح مسلم 7: 189، مسند أحمد 1: 38، المستدرك على الصحيحين 3: 457 وصححه، ووافقه الذهبي.

6- تتمة الحديث في (المستدرك على الصحيحين) 2: 397، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي كما في ذيل المستدرك، وقال: (صحيح على شرط مسلم).

7- الطبقات الكبرى 6: 164، سير أعلام النبلاء 4: 21، النهاية في غريب الحديث 6: 164.

8- تاريخ مدينة دمشق 9: 434، كنز العمال 14: 10 يرويه عن ابن عساكر، سير أعلام النبلاء 4: 31. تاريخ الإسلام 558:3.

9- وفي هذه تذكرة لمن يدّعي أنّه سلفي ولا يتّبع خير التابعين في صلاته على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويأتي بالصلاة البتراء دونها، قال النبي(صلى الله عليه وآله): (لا تصلّوا عليَّ الصلاة البتراء)، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال (صلى الله عليه وآله): (تقولون اللّهمّ صل على محمّد وتمسكون، بل قولوا اللّهمّ صل على محمّد وعلى آل محمّد)، اُنظر الصواعق المحرقة 2: 430.

10- سير أعلام النبلاء 4: 24، مسند ابن المبارك: 25، قال الجوهري في الصحاح 3 : 980: يقال انملس من الأمر، إذا أفلت منه.

11- المستدرك على الصحيحين 3: 461، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه، ووافقه الذهبي كما في ذيل المستدرك.

12- مسند أحمد 3: 470.

13- فئام: الفئام مهموز: الجماعة الكثيرة كما في (لسان العرب) 12/ 448، والنهاية لابن الأثير 3: 406.

14- تاريخ مدينة دمشق 9: 438.

15- اُنظر: سير أعلام النبلاء 4: 32، المستدرك على الصحيحين 3: 457، مصنف بن أبي شيبة 7: 539، كنز العمال 12: 75، 76، تاريخ الإسلام 3: 558، ميزان الاعتدال 1: 282، لسان الميزان 1: 474.

16- سير أعلام النبلاء: 4/ 32، تاريخ مدينة دمشق: 9/ 434.

17- رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين: 3/ 461، ولم يتعقبه الذهبي بشيء.

18- المستدرك على الصحيحين 3: 455 وصححه، الإصابة 1: 361.

19- مسند أحمد 3: 480، المستدرك على الصحيحين 3: 455، سير أعلام النبلاء 4: 31، الطبقات الكبرى 6: 163، مجمع الزوائد 10: 22 قال: رواه أحمد وإسناده جيد، الإصابة 1: 360.

20- اُنظر المستدرك على الصحيحين 3: 112.

21-الاستيعاب 3: 1138.

22- تاريخ مدينة دمشق 19: 442.

23- الطبقات الكبرى 6: 123، سير أعلام النبلاء 3: 526، أسد الغابة 2: 234.

24- كنز العمال 11: 669 ينقله عن الثلاثة عن أبي ذر، الإصابة 2: 532.

25- الأغاني 5: 157، شرح نهج البلاغة 17: 243، تهذيب الكمال 5: 143 ـ 146، سير أعلام النبلاء 5: 157، الإصابة 1: 616.

26- سير أعلام النبلاء 3: 525.

27- الإصابة 2: 532.

28- تاريخ بغداد 8: 440، تاريخ مدينة دمشق 19: 440.

29- الطبقات الكبرى 6: 124، سير أعلام النبلاء 3: 526، تاريخ مدينة دمشق 19: 438.

30- المصنف 6: 128.

31- الطبقات الكبرى 6: 126.

32- الثقات 4: 248.

33- مشاهير علماء الأمصار: 162.

34- الطبقات الكبرى 6: 123، تاريخ مدينة دمشق 11: 312، سير أعلام النبلاء 3: 525، أسد الغابة 2: 234، الإصابة 2: 533، كنز العمال 11: 668 يرويه عن ابن السكن وابن مندة وابن عساكر عن أبي ذر.

35- البداية والنهاية 6: 238، وهذا الحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة 6: 416 أيضاً، ونقله ابن حجر عن أبي يعلى وابن مندة في الإصابة 2: 532.

36- في مكان قطع يد زيد بن صوحان قولان، وفي هذا يقول ابن الأثير في ((اُسد الغابة)) 2/334: ((زيد بن صوحان قطعت يده يوم جلولاء، وقيل بالقادسية في قتال الفرس، وقتل هو يوم الجمل)) (انتهى)، إلا أنّ الأكثر الّذي أثبته أهل الحديث والتاريخ أنّها قطعت يوم جلولاء كما عن الاستيعاب لابن عبد البر، والمعارف لابن قتيبة وغيرهم.

37- تاريخ مدينة دمشق 19: 434.

38- السنن الكبرى 4: 17، مصنف عبد الرزاق 3: 542، 5: 274، مصنف بن أبي شيبة 3: 139، 7: 606، تلخيص الحبير 2: 144 قال ابن حجر: قال ابن عبد البر: إنّه جاء بطرق صحاح، تفسير القرطبي 4: 271، الطبقات الكبرى 6: 125.

39- تعجيل المنفعة: 143.

40- مصنف ابن أبي شيبة 7: 205، 8: 641، تاريخ مدينة دمشق 19: 441.

41- أنساب الأشراف 6: 156، واُنظر أيضاً: تاريخ المدينة لابن شبه النميري 3: 1141.

42- تاريخ الطبري 3: 492.

43- شرح نهج البلاغة 6: 226.

44- تاريخ الطبري 3: 492، البداية والنهاية 7: 261.

45- سورة العنكبوت، الآية 1 و2.

46- تاريخ الطبري 3: 499، البداية والنهاية 7: 263.

47- المناقب للخوارزمي: 177 يرويه عن ابن مردويه.