هل التواترُ يُفيدُ اليقينَ والمُطابقةَ للواقع؟

: السيد رعد المرسومي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إذا عرَفنا معنى التواترِ وشروطَه، سنعرفُ أينَ تكمنُ مثلُ هذهِ الشُّبهة، فنقولُ: إنّ الحديثَ المتواترَ: هوَ الحديثُ الذي اجتمعَت فيهِ شروطٌ أربعة:  1- أن يرويَه عددٌ كثيرٌ منَ الرّواةِ يستحيلُ في العادةِ تواطؤهم أو توافقُهم على الكذب. 2- أن يرويه عنهم مثلُهُم مِن مصدرِه رسولُ الله (ص) إلى مُنتهاه. 3- أن يكونَ أخـذُ بعضِهم مِن بعضٍ قد استندَ إلى الحسِّ وهوَ السّماعُ أو ما في معناه مِـمّا يثبُتُ به الاتّصال. 4- أن يفيدَ خبرُهم العلمَ لسامعِه. ثُـمَّ هاهُنا ملاحظاتٌ مُهمّةٌ لا بُدَّ مِن أخذِها في الاعتبارِ في هذا الموضوع: إحداها: أنّه ليسَ هناكَ عددٌ مُحدّدٌ في رواةِ الحديثِ المتواتِر، بل الملاكُ فيهِ بلوغُه حدّاً به تستيقنُ النفسُ مِن صدورِ الحديثِ عن النبيّ (ص) أو عن أحدِ المعصومينَ (عليهم السلام)، فقد يحصلُ التواترُ بعشرةٍ أو أقلّ، وربّما لا يحصلُ بمئةٍ لقربِهم مِن وصفِ الصّدقِ وعدمِه، فكَم مِن أحاديثَ رواتُها كثيرونَ رُبّما بلغوا العشرةَ أو زادوا، لكنَّ مدارَ أسانيدِها على رواةٍ لم يُؤمَن تواطؤهم على الكذبِ أو الخطأ، وهذا يعني وجوبَ النظرِ في أحوالِ الرواةِ للأمنِ مِن وقوعِ ذلكَ مِنهم. [ينظر: «النكتُ» لابنِ حجرٍ العسقلانيّ، الصفحةُ (53-57)، و«البدايةُ» للشهيدِ الثاني، الصّفحةُ (13)، و«الرعايةُ في علمِ الدراية» للشهيدِ الثاني كذلك، الصّفحة (60)]. ولكنَّ بعضَ المُعاصرينَ قد غفلوا عن هذا الأمر، فاعتدّوا بشـرطِ الكثرةِ في عددِ المُخبرينَ فحَسب، ذاهلينَ عن أنّ هذا الشرطَ لا بُدّ منهُ في الخبرِ المشهورِ كذلك، لأنّ الخبرَ المشهورَ هو ما رواهُ عددٌ كثيرٌ منَ الرواة، ولم يبلُغ التواتر، ولم يقَع بهِ العلم، وهوَ ما يُسمّى بـ(المُستفيضِ) على رأي. [ينظر: «شرحُ لُغةِ المحدِّث» لأبي معاذٍ طارقٍ بنِ عوض الله، الصفحة (102)]. والملاحظةُ الثانية: ننوّهُ بالشرطينِ الأوّلِ والثالثِ لِـما بينَهما منَ الارتباطِ الوثيقِ، إذ بهما سنعرفُ أنّ هذا الحديثَ ـ موضع البحثِ والدراسة ـ أتحقّقَت فيهِ كثرةٌ مُعتدٌّ بها منَ الطرق، تمنعُ بها العادةُ مِن تواطئِهم أو توافقِهم على الكذبِ أم لا؟ ذلكَ بأنَّ هذا الحديثَ إذا كانَ وارداً بطرقٍ كثيرة، فمعناه أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن هذهِ الطرقِ له وجودٌ مُستقلٌّ وواقعٌ يُثبِتُ ذلكَ، فيجيءُ حينئذٍ معيارُ العادةِ المُطّردة، فيمنعُ مِن تواطئِهم أو توافقِهم على اختلاقِ الخبر. أمّا مُجرّدُ وجودِ الحديثِ بطُرقٍ كثيرةٍ في كتبِ الحديثِ والمسانيد، فهوَ لا يكفي لتحقّقِ التواترِ ولاسيّما معَ البُعدِ عن عصرِ النصّ، ذلكَ بأنَّ بعضَ الكذّابينَ أو المُدلّسينَ كانَ يعمدُ إلى أن يسـرقَ الحديثَ مِن غيرِه مِن أمثالِه، وبطريقةِ السّرقةِ هذهِ تتعدّدُ الطّرق، وكلّها في الحقيقةِ ترجعُ إلى طريقٍ واحدٍ أو طريقين، وحينئذٍ سيُنقضُ أهمُّ شرطٍ مِن شروطِ التواتر. هذا وإنّ معرفةَ هذهِ الأُمورِ لا تصحُّ إلّا بالرّجوعِ إلى كلماتِ النقّادِ، لبيانِ أنَّ طرقَ الحديثِ قد خلَت منَ المُدلّسينَ والكذّابين، وخلَت كذلكَ منَ الإرسالِ والانقطاع، ومِن كُلِّ ما ينقضُ وجودَ الطريقِ أو يخلَّ باستمرارِ هذا الشرطِ مِن بدايتِه إلى مُنتهاه، وِفقَاً لمعاييرِ علمِ الحديث. والملاحظةُ الثالثة: لا بدَّ منَ التنبيهِ على أنّ العبارةَ المشهورةَ «الحديثُ المتواترُ: لا يُبحَثُ فيه عن رجالِه أثقاتٌ هُم أم لا؟» إنّما تجري في مقامِ الثبوتِ لا الإثبات، وتحديداً يُمكنُ جـريانُ هذا الحُكمِ في حالـةِ وجودِ طبقةٍ واحدةٍ بينَنا وبينَ القضيّةِ المنقولةِ إلينا، كما في الأمثلةِ المعروفةِ التي درجَ عليها غيرُ واحدٍ منَ الأعلامِ لتقريبِ الموضوعِ إلى ذهنِ المُتلقّي، مِن قبيلِ: (إذا أخبرنا عددٌ كثيرٌ أنّه شاهدَ مكّةَ أو شاهدَ الصّين ...)، فإنَّ هذهِ القضيّةَ لا تحتاجُ إلى النظرِ والبحثِ عن رجالِها أثقاتٌ هُم أم لا؟ لأنَّ العلمَ بهذهِ القضيّةِ والاعتقادَ بها ـ ﭐستناداً إلى مُستقرِّ العادةِ ـ سيتدرّجُ فيقوى شيئاً فشيئاً، حتّى يصلَ إلى مرتبةِ التواترِ عندَ مَن يسمعُ هذهِ القضيّةَ بنفسِه مِن عددٍ كثيرٍ أنّهم شاهدوا مكّةَ أو الصّينَ أو نحوَهما منَ القضايا، لكن إذا تعدّدَت الوسائطُ أو الطبقات، فبلغَت ـ على سبيلِ المثال ـ سبعَ طبقاتٍ أو أكثرَ كما هوَ حالُ الأسانيدِ التي تنقلُ لنا عدّةَ قضايا عن رسولِ اللهِ (ص)، أو عن أحدِ المعصومينَ (عليهم السلام)، فالأمرُ فيها مُختلفٌ، لأنّه إذا أرَدنا أن نُثبِتَ التواترَ في هذهِ القضيّةِ ذاتِ الطبقاتِ المُتعدّدةِ، فلا بُـدَّ أن يتحقّقَ التواترُ عندَ الطبقةِ الثانيةِ التي سمعَت بهذهِ القضيّةِ أو ذلكَ الخبرِ منَ الطبقةِ الأُولى وِفقاً لشروطِ التواترِ المعروفة، وهكذا الحالُ عندَ الطبقةِ الثالثة، إذ سيتحقّقُ التواترُ عندَها حينَ تسمعُ بالقضيّةِ نفسِها منَ الطبقةِ الثانية، وهكذا يستمرُّ الحالُ في بقيّةِ الوسائطِ والطبقاتِ بشروطِ التواترِ نفسِها، إلى أن يصلَ إلى الطبقةِ السابعة، فحينئذٍ يُصَوّبُ قولُ مَن يقول: إنَّ هذا الحديثَ أو تلكَ القضيّةَ قد تحقّقَ فيها التواتر، جيلاً بعدَ جيلٍ وطبقةً بعدَ طبقة، ذلكَ بأنَّ عددَ الرّواةِ في كُلِّ طبقةٍ مِن طبقاتِه حقّاً قد بلغَ حدّاً تمنعُ العادةُ في مثلِه أن يتواطؤوا أو يتوافقوا على الكذب. والملاحظةُ الرابعة: إذا لم نعرِف سلفاً أنَّ هذا الحديثَ كانَ مُتواتِراً في الأجيالِ السّالفةِ وِفقَاً لمعاييرِ التواتر، ثُـمَّ أردنا ـ نحنُ في العصورِ المُتأخّرةِ أو المُعاصرة ـ أن نعرفَ أنّ هذا الحـديثَ أَيُمكنُ أن يكونَ متواتراً وِفقَاً لمعاييرِ التواتر؟ فإنّه لابُـدَّ مِن وجودِ طرقٍ كثيرةٍ لهذا الحديثِ، ولا بدَّ لهذه الطرقِ مِن واقعٍ ووجودٍ يثبتُ ذلك، لا أن تكونَ طُرقاً مُختلقةً، بأن يكونَ في أسانيدِها رجلٌ كذّابٌ أو وضّاعٌ للحديث، ذلكَ بأنَّ وجودَ مثلِ هؤلاءِ الرّواةِ في هذهِ الأسانيدِ سيجعلُ مِنها في حيّزِ العدمِ كما لا يخفى، وكذلكَ إن وُجِدَ في أحدِ الأسانيدِ راوٍ مُدلّس، وفي سندٍ ثانٍ انقطاعٌ، وفي ثالثٍ إرسالٌ، ونحو ذلك، فإنَّ كلَّ ذلكَ مِـمّا يخلُّ بالإسـنادِ مِن جهةِ ثبوتِ واقـعِه ووجودِه، وحينئذٍ لا يصيرُ الخبرُ مُتَكَـثِّراً بمثلِ هذهِ الطرقِ، فيترتّبُ على ذلكَ حدوثُ نقصٍ في كثرةِ الطرق، ومِن ثَـمَّ سيختلُّ أهمّ شرطٍ مِن شروطِ التواتر، وهوَ كثرةُ الطرقِ التي لا بُـدَّ مِن وجودِها لهذا الحديث. ويُمكنُ تقريبُ هذه المسألةِ بتوضيحٍ آخر: وذلكَ بأن نقولَ: إنّ كُلَّ طريقٍ مِن هذهِ الطرقِ سيكونُ بمنزلةِ رجلٍ يخبرُنا بذلكَ الخبرِ أو تلكَ القضيّة، فإن لم يكُن لتلكَ الطرقِ واقعٌ يثبتُ وجودَها، فكيفَ سيحصلُ التدرّجُ في العلمِ والاعتقادُ بذلكَ الخبرِ شيئاً فشيئاً، حتّى يصلَ إلى التواترِ المنشود؟! وعليه، ينبغي للباحثِ المُنصفِ ولاسيّما في هذا العصرِ ألّا يغترَّ بتعدّدِ الأسانيد، فيستغني عن ثبوتِ أفرادِها، إذ هناكَ منَ الأحاديثِ التي تتعدّدُ أسانيدُها وتتكاثرُ طرقُها، لكنّها واهيةٌ لا يثبتُ مِنها شيءٌ، وحينئذٍ فإنّ العادةَ في مثلِ هذه الحالاتِ لا تمنعُ منَ الحُكمِ على الرّواةِ باحتمالِ تواطئهم أو توافقِهم على الكذب. ومِن هُنا تعلمُ موطنَ الشبهةِ التي ربّما يُوردُها بعضُ أهلِ العلمِ على الحديثِ المتواتر، وإلّا فلو ثبتَ أنّ الحديثَ متواترٌ، فلا بدّ مِن أن يُفيدَ اليقينَ بمضمونِه، ولكنَّ لُـبَّ المسألةِ يَكمُنُ في كيفيّةِ إثباتِ أنّ الحديثَ ـ موضعَ البحثِ والدراسة ـ متواترٌ؟ أو قل: مَنِ الذي يُرجَعُ إليهِ في تحديدِ تواترِ الأحاديثِ التي منَ المُمكنِ أن تكونَ مُتواترة؟ أكُلُّ مَـن حَكَمَ على حديثٍ ما أنّه متواترٌ يُصَـدّقُ في قولِه؟ أم لا بُـدَّ أن نستوثقَ ونُدَقِّقَ في الأحكامِ التي تصدرُ مِن هُنا وهناكَ حتّى لا نقعَ في شَرَكِ التقليدِ الأعمى؟ ودمتُم سالِمين.