هَلْ الوِلَايَةُ التّكوينِيَّةُ تَعْنِي التَّصَرُّفَ خَارِجَ قُدْرَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ؟!!
أَبُو حُسَيْن الشَّوهَانِي /: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.. يَقُولُ البَعْضُ بِشَأْنِ الوِلَايَةِ التّكوينِيَّةِ :مَعْنَى الوِلَايَةِ التّكوينِيَّةِ هُوَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الأَنْبِيَاءَ وَالأَئِمَّةَ يَحْكُمُونَ العَالَمَ وَيُدَبِّرُونَهُ، وَأَعْطَاهُمْ القُدْرَةَ عَلَى أَنْ يَنْقُلُوا الشَّمْسَ مِنْ الغَرْبِ إِلَى الشَّرْقِ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجَفِّفُوا البِحَارَ وَالأَنْهَارَ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ. فَهَلْ هَذَا مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ لِلأَنْبِيَاءِ وَالأَئِمَّةِ؟! وَلاَ بُدَّ هُنَا مِنْ الرُّجُوعِ إِلَى القُرْآنِ، حَيْثُ يَقُولُ حِكَايَةً عَنْ الرَّسُولِ: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِّن الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)) (الأحقَافُ:9)، ((قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)) الأعرَافُ:188)، ((إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23))) (فاطر:23). أَوَّلاً: هَلْ يَصْدُرُ مِثْلُ هَذَا الكَلَامِ عَنْ شَخْصٍ يَمْلِكُ إِدَارَةَ العَالَمِ؟! وَثَانِياً: لِمَاذَا يَجْعَلُ اللهُ الوِلَايَةَ لِلأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ؟ فَالوِلَايَةُ إِنَّمَا تَكُونُ لِسَدِّ النَّقْصِ، فَنَحْنُ نَجْعَلُ الأَبَ وَلِيّاً لِلطِّفْلِ لِسَدِّ نَقْصِهِ مَثَلاً، فِي حِينِ أَنَّ وِلَايَةَ اللهِ شَامِلَةٌ لِكُلٍّ: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4))) (الملك:3 – 4). أَمَّا إِنَّهُمْ وَاسِطَةُ الفَيْضِ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَرْزُقُنَا بِشِكْلٍ مُبَاشِرٍ، وَإِنَّمَا بِوَاسِطَةِ الأَئِمَّةِ، مَعَ أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ يَتَحَدَّثُ عَنْ أَنَّ الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَرْزُقُ ((إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58))) (الذّاريَاتُ:58)، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَرْزُقُنَا بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ، وَيُحْيِي المَوْتَى بِشِكْلٍ مُبَاشِرٍ، وَيُمِيتُ بِشِكْلٍ مُبَاشِرٍ ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26))) (آلُ عِمرَانَ:26). وَمِنْ المُؤَكَّدِ أَنَّ الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُفِيضُ عَلَى عِبَادَهِ.. وَمِنْ خِلَالِ دِرَاسَةِ الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ وَمَا رُوِيَ عَنْ الرَّسُولِ (ص) وَأَهْلِ بَيْتِهِ (عَلَيْهُمْ السَّلَامُ( سَوْفَ نَسْتَفِيدُ الأُمُورَ التَّالِيَةَ: 1 - أَنَّ مَعْنَى الخَلَقِ هُوَ الإخْتِرَاعُ وَالإِبْدَاعُ، وَهُوَ مُنْحَصِرٌ بِاللهِ سُبْحَانَهُ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ القُدْرَةُ عَلَى الإخْتِرَاعِ، لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الوَاجِبِ سُبْحَانَهُ، وَغَيْرُهُ مُمْكِنٌ. 2 - مَا قِيلَ أَوْ يُقَالُ إنَّ مُعْجِزَاتِ الأَنْبِيَاءِ هِيَ فِعْلُهُمْ وَصُنْعُهُمْ، مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى الخَلْقِ، وَهُوَ الإِيجَادُ وَالإخْتِرَاعُ الخَارِجُ عَنْ حُدُودِ القُدْرَةِ البَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَوْلِيَاءَ (عَ) بِشَرٌ مُحْدَثُونَ وَعِبَادٌ مَصْنُوعُونَ لَا يَخْلُقُونَ وَلَا يَرْزُقُونَ. 3 - اِنْحِصَارُ الوِلَايَةِ التّكوينِيَّةِ بِاللهِ سُبْحَانَهُ، لأَنَّ المَقْصُودَ مِنْ الوِلَايَةِ هُوَ التَّصَرُّفُ فِي عَالَمِ المَلَكُوتِ وَالكَونِ وَالخَلْقِ وَالإِيجَادِ وَالإِحْيَاءِ وَيَحُلُّ ذَلِكَ مِنْ مُختصَّاتِهِ سُبْحَانَهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي سُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ. وَقَالَ المَرْحُومُ السَّيِّدُ الكُلپايكَانيُّ فِي نَتَائِجِ الأَفْكَارِ الأَوَّل ص 221 - 223. الكَلَامُ حَوْلَ المُفَوَّضَةِ وَهُمْ فِرْقَةٌ قَائِلُونَ بِانْعِزَالِ اللهِ تَعَالَى عَنْ الأَفْعَالِ وَإِرْجَاعِ الأُمُورِ إِلَى العِبَادِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوَّضَ الأَفْعَالَ إِلَى المَخْلُوقِيْنِ، هَذَا وَالْحَقُّ أَنَّ التَّفْوِيضَ عَلَى أَقْسَامٍ: مِنْهَا: القَوْلُ بِأَنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ العِبَادَ أَعْطَاهُمْ قُدْرَةً أَغْنَاهُمْ بِهَا عَنْهُ فَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَقِلُّونَ فِي الأُمُورِ قَائِمُونَ عَلَى وِفْقِ مَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَقَدَّرْتِهِمْ وَلَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَإلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ الأُمُورِ لِتَفْوِيضِ الأَمْرِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مِثْلُ أنَّ مُثْرِياً أَعْطَى فَقِيراً مَالاً وَأَمَرَهُ بِالتِّجَارَةِ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا الآخِذُ بَعْدَ قَبَضِهِ وَأَخْذِهِ المَالَ المَزْبُورَ يُتْجِرُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى المُعْطِي أَصْلاً، وَعَلَى هَذَا فَالله تَعَالَى وَإِنْ كَانَ قَادِراً إِلَّا أَنَّ العَبْدَ أَيْضاً قَادِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، غَايَةُ الأَمْرِ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ بِذَاتِهِ، وَالإِنْسَانُ قَادِرٌ بِاللهِ سُبْحَانَهُ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا الإعْتِقَادِ هُوَ مَا رَأَوْهُ مِنْ القَبَائِحِ وَالسُّوءِ وَالفَحشَاءِ الصَّادِرَةِ مِنْ الإِنْسَانِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُولُوا بِتَفْوِيضِ الأُمُورِ إِلَى العَبْدِ لَزِمَ نِسْبَةُ تِلْكَ الذُّنُوبِ والقَبَائِحِ إِلَيْهِ تَعَالَى فَلِأَجْلِ تَنْزِيهِ اللهِ عَنْ اِرْتِكَابِ الجَرَائِمِ قَالُوا بِأَنَّ اللهَ فَوَّضَ الأُمُورَ إِلَى العِبَادِ وَلَا دَخْلَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي أُمُورِهِمْ أَصْلاً. وَمِنْهَا: القَوْلُ بِتَفْوِيضِ أَمْرِ الخَلْقِ وَالرِّزْقِ إِلَى بَعْضِ عِبَادِهِ كَأنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الأَرْضَ فَوَّضَ الأَمْرَ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَخَلَقَ هُوَ (صَلَّى اللهَ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مَا فِيهَا، أَوْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مُحَمَّداً (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ العَالَمِ فَهُوَ الخَلَّاقُ لِلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَبُطْلَانُ كِلَا القَوْلَيْنِ وَاضِحٌ لأَنَّ أَزِمَّةَ الأُمُورِ كُلَّهَا بِيَدِ اللهِ وَلَا غِنَاءَ عَنْهُ لِأَحَدٍ أَبَداً وَلَا يَمْلِكُ العَبْدُ فِي الحَقِيقَةِ شَيْئاً، وَالله تَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ وَهُوَ مُدَبِّرُ عَالَمِ الوُجُودِ وَمُدِيرُهُ حُدُوثاً وَبَقَاءً، وَلَوْلَا عِنَايَةُ اللهِ تَعَالَى وَإِفَاضَةُ الفُيُوضِ الرَّبَّانِيةِ لَمَا بَقِيَ شَيءٌ، وَلَمَا اسْتَقَامَ أَمْرٌ. وَعَلَى الجُمْلَةِ فَحَيَاةُ الإِنْسَانِ وَتَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا مَنُوطَةٌ بِاللهِ، وَالخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُهُ وَفِي قَبْضَتِهِ وَمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ آناً فَآناً، وَلَهُ القُدْرَةُ التَّامَّةُ وَالسَّلْطَنَةُ الكَامِلَةُ فِي كُلِّ آنٍ مِنْ الآنَاتِ. وَلازِمُ القَوْلِ بِالتَّفْوِيضِ عَلَى كِلَا القِسْمَيْنِ هُوَ سَلْبُ القُدْرَةِ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَ إِخْرَاجُهَا عَنْ سُلْطَانِهِ كَمَا وَرَدَ عَنْ الإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَلَامُ :(أنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ لَا يَنْسِبُوا إِلَى اللهِ القبَائِحَ فَسَلَبُوا عَنْهُ القُدْرَةَ). فَمَا هُوَ رَأْيُكُمْ؟ وَشُكْراً.
الأَخُ أَبُو حُسَيْن المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
تَعْنِي الوِلَايَةُ التّكوينِيَّةُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَمْنَحُ النَّبِيَّ أَوْ الوَلِيَّ القُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الظَّاهِرَةِ الكَوْنِيَّةِ خِلَافَ نِظَامِ العلِّيَّةِ المُتَعَارَفِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي إِعْطَاءِ القُدرَةِ لنَبيِّ اللهِ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَلَامُ) فِي تَلْيِينِ الحَدِيدِ بِيَدِهِ المُجَرَّدَتَيْنِ وَعَمَلِ دُرُوعٍ سَابِغَاتٍ يَعتَاشُ مِنْهَا.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتِينَا دَاوُدُ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أُوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَألَنَّا لَهُ الحَدِيدَ أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} [سُورَةُ سَبَأ: 10-11].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي "البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ": ((وَأَمَّا إلانَةُ الحَدِيدِ بِغَيْرِ نَارٍ كَمَا يَلِينُ العَجِينُ فِي يَدِهِ، فَكَانَ يَصْنَعُ هَذِهِ الدُّرُوعَ الدَّاوُوديَّةَ، وَهِيَ الزَّرَدِيَّاتُ السَّابِغَاتُ وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ بِعَمَلِهَا، "وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ" أَي أَلَّا يَدُقَّ المِسْمَارَ فَيُعَلَّقَ وَلَا يَعظِلَه فَيُقْصَمَ، كَمَا جَاءَ فِي البُخَارِيِّ)) [البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ 6: 318]. انْتَهَى.
وَأَيْضاً كَمَا فِي إِحْيَاءِ المَوْتَى وَخَلْقِ الطَّيْرِ مِنْ الطِّينِ وإبرَاءِ الأَكَمَهِ وَالأَبْرَصِ لِنَبِيِّ اللهِ عِيسَى (عَلَيْهِ السَلَامُ)، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى (عَلَيْهِ السَلَامُ): (أنَّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنَّي أَخْلُقُ لِكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وأُبْرِىءُ الأَكَمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ) [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 49 ].
فَالوِلَايَةُ التّكوينِيَّةُ هِيَ قُدْرَةٌ إِعْجَازِيَّةٌ يَمْنَحُهَا المَوْلَى سُبْحَانَهُ لأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَتَكُونُ بِإِذْنِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَهِيَ لَيْسَتْ تَصَرُّفاً مُسْتَقِلًّاً مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ، بَلْ قُدْرَةٌ إِعْجَازِيَّةٌ تُمْنَحُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ أنبِيَائِهِ وَبَيَانِ فَضْلِهِمْ، وَالجَمْعُ بَيْنَ الآيَاتِ فِي مَفْرُوضِ السُّؤَالِ وَاضِحٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) الأَعْرَافُ: 54 ، وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ (آلُ عِمْرَانَ: 49. بِأَنَّ خَلْقَ عِيسَى (عَلَيْهِ السَلَامُ) للطَّيْرِ مِنْ الطِّينِ هُوَ بِإِذْنِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ، فَهُوَ بِالنَّتِيجَةِ خَلْقٌ لِلهِ وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ عِيسَى (عَلَيْهِ السَلَامُ).
وَهَذِهِ الوِلَايَةُ التّكوينِيَّةُ قَدْ تُمْنَحُ لِلمُتَّقِينَ أَيْضاً مِنْ النَّاسِ تَفَضُّلاً مِنْهُ سُبْحَانَهُ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الوَارِدِ فِي البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَى بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعاذَنِي لأعِيذَنَّه) [صَحِيحُ البُخَارِيِّ 7: 190، وَرَوَاهُ بِلَفْظِهِ ثِقَةُ الإِسْلَامِ الكُلَينِيُّ فِي أُصُولِ الكَافِي2: 352، الحَدِيثُ السَّابِعُ، بِسَنَدِهِ عَنْ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَدِّهِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهَ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عَنْ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ )].
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي "مَجْمُوعِ الفَتَاوَى": ((وَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: يَا عَبْدِي، أَنَا أَقُولُ للشَّيءِ كُنْ فَيَكُونُ، أطِعْنِي أَجْعَلْكَ تَقُولُ للشّيءِ كُنْ فَيَكُونُ، يَا عَبِّدِي، أَنَا الحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، أطْعَنِي أَجْعَلْكِ حَيّاً لَا تَمُوتُ. وَفِي الأَثِّرِ أَنَّ المُؤْمِنَ تَأتِيهِ التُّحَفُ مِنْ اللهِ مِنْ الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ إِلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، فَهَذِهِ غَايَةٌ لَيْسَ وَرَاءَهَا مَرْمىً، كَيْفَ لَا وَهُوَ بِاللهِ يَسْمَعُ، وَبِهِ يُبْصِرُ، وَبِهِ يَبْطُشُ، وَبِهِ يَمْشِي، فَلَا يَقُومُ لِقُوَّتِهِ قُوَّةٌ)) [مَجْمُوعُ الفَتَاوَى 4: 377]. اِنْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ "النًّبوَّاتِ":
((فَإِذَا كَانَ آيَةَ نَبِيٍّ إِحْيَاءُ اللهِ المَوْتَى لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُحْيِيَ اللهُ المَوْتَى لِنَبِيٍّ آخَرَ أَوْ لِمَنْ يَتَّبِعُ الأَنْبِيَاءَ، كَمَا قَدْ أُحْيِىَ المَيِّتُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَنُبُوَّةِ مَنْ قَبْلَهُ إِذَا كَانَ إِحْيَاءُ المَوْتَى مُخْتَصّاً بِالأَنْبِيَاءِ وَأتْبَاعِهِمْ).
وَقَالَ فِي الكِتَابِ نَفْسِهِ: ((فَإِنَّهُ لَا رِيبَ أَنَّ اللهَ خَصَّ الأَنْبِيَاءَ بِخَصَائِصَ لَا تُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِنْ آيَاتِهِمْ مَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ غَيْرُ الأَنْبِيَاءِ، بَلْ النَّبِيُّ الوَاحِدُ لَهُ آيَاتٌ لَمْ يَأْتِ بِهَا غَيْرُهُ مِنْ الأَنْبِيَاءِ كَالعَصَا وَاليَدِ لِمُوسَى وَفَرْقِ البَحْرِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ مُوسَى، وَكَاِنْشِقَاقِ القَمَرِ وَالقُرْآنِ وَتَفْجِيرِ المَاءِ مِنْ بَيْنِ الأَصَابِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الآيَاتِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِ مُحَمَّدٍ مِنْ الأَنْبِيَاءِ، وَكَالنَّاقَةِ الَّتِي لِصَالِحٍ فَإِنَّ تِلْكَ الآيَةَ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ خُرُوجُ نَاقَةٍ مِنْ الأَرْضِ بِخِلَافِ إِحْيَاءِ المَوْتَى فَإِنَّهُ اشْتَرَكَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الأَنْبِيَاءِ، بَلْ وَمِنْ الصَّالِحَيْنِ)) [النُّبوَّاتُ: 218]. اِنْتَهَى.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَكَذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ العَسقَلانِيِّ عَنْ شَيبَانَ النَّخَعيِّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ حِمَارٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: هَلُمَّ نَتَوَزَّعُ مَتَاعَكَ عَلَى رِحَالِنَا. فَقَالَ لَهُمْ: أَمْهِلُونِي هُنَيْهَةً. ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللهَ تَعَالَى فَأَحْيَا لَهُ حِمَارَهُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ [انْظُرُ: مَجْمُوعَ الفَتَاوَى 11: 281، الإِصَابَةَ فِي تَمْيِيزِ الصَّحَابةِ 5: 192].
وَأَيْضاً يَنْقُلُ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ إِطَاعَةِ العَنَاصِرِ الأَرْبَعَةِ (المَاءُ وَالهَوَاءُ وَالتُّرَابُ وَالنَّارُ) لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، قَالَ السَّخاوِيُّ فِي "التُّحْفَةِ اللَّطِيفَةِ " فِي تَرْجُمَةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: ((وَتَرْجُمَتُهُ تَحْتَمِلُ مُجَلَّداً ضَخْماً، وَمِمَّنْ أُفْرَدَهَا الذَّهَبِيُّ فِي "نعم السمر فِي سِيرَةِ عُمَرَ" وَقَدْ أَطَاعَتْهُ العَنَاصِرُ الأَرْبَعُ فَإِنَّهُ كَتَبَ لِنِيْلِ مِصْرَ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ عَادَتَهُ أَنْ لَا يُوفِيَ إِلَّا بِبِنْتٍ تُلْقَى فِيه، فَقَطَعَ اللهُ مِنْ كِتَابِهِ هَذِهِ العَادَةَ المَذْمُومَةَ، وَالهَوَاءُ حَيْثُ بَلَغَ صَوْتُهُ إِلَى سَارِيةَ، والتُّرَابُ حِينَ زُلْزِلَتْ الأَرْضُ فَضَرَبَهَا بِالدُّرَّةِ فَسَكَنَتْ، وَالنَّارُ حَيْثُ قَالَ لِشَخْصٍ: ادْرِكْ بَيْتَكَ فقَد احْترَقَ)) [التُّحْفَةُ اللَّطِيفَةُ 2: 337 ]. اِنْتَهَى.
فَإِذَا ثَبَتَتْ مِثْلُ هَذِهِ المَنَاقبِ والكَرَامَاتِ فِي حَقِّ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحابَةِ بِحَسَبِ مَرْوِيَّاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَصَادِرِهِمْ، فَهَذَا يَعْنِي جَوَازَ ثُبُوتِهَا فِي حَقِّ أَئِمَّةِ العِترَةِ الطَّاهِرَةِ (عَلَيْهُمْ السَّلَامُ); فَإِنَّ حُكْمَ الأَمْثَالِ فِيمَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ.
وَأَيُّ مَعْنىً مِنْ مَعَانِي التَّفْوِيضِ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا هُنَا وَهُنَاكَ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى نَحْوِ تَفْوِيضِ المُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ اللهَ فَوَّضَ الأَفْعَالَ لِلعِبَادِ يَفْعَلُونَ مَا يَشَاؤُونَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا دَخْلَ لَهُ فِي أَفْعَالِهِمْ، أَوْ عَلَى نَحْوِ تَفْوِيضِ الغُلَاةِ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ فَوَّضَ الخَلْقَ وَالرِّزْقَ لِلأَنْبِيَاءِ وَالأَئِمَّةِ (عَلَيْهُمْ السَّلَامُ) بِنَحْوِ الاِسْتِقْلَالِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، فَهَذَا كُلُّهُ مَرْفُوضٌ عِنْدَنَا وَبَاطِلٌ، فَالخَلْقُ إِذَا نُسِبَ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللهِ - كَمَا فِي خَلْقِ عِيسَى (عَلَيْهِ السَلَامُ (للطَّيرِ- إِنَّمَا هُوَ بِإِذْنِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَيْسَ بِنَحْوٍ مُسْتَقِلٍّ، فَإِنْ شَاءَ اللهُ أَجْرَى المُعْجِزَةَ وَالكَرَامَةَ عَلَى أَيْدِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالأَئِمَّةِ (عَلَيْهُمْ السَّلَامُ) وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهَا، فَالأَمْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللهِ سُبْحَانَهُ.
وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.
اترك تعليق