هَلْ الإِنْسَانُ مُسَيَّرٌ أَمْ مُخَيَّرٌ؟!!

:

     هَذَا البَحْثُ مِنْ المَبَاحِثِ الَّذِي شَرَّقَتْ وَغَرَّبَتْ فِيهِ المَذَاهِبُ الإِسْلَامِيَّةُ، فَمِنْهُمْ مِنْ قَائِلٍ بِالتَّسْيِيرِ (كالأشَاعِرَةِ)، وَمِنْهُمْ مِنْ قَائِلٍ بالتَّخْيِيرِ (كَالمُعْتَزِلَةِ)، وَلَكِنَّنَا لَوْ بَحَثْنَا جُذُورَ الجَبْرِ أَوْ التَّسْيِيرِ لَوَجَدْنَاهُ عِنْدَ المُشْرِكِينَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يَحْكِي ذَلِكَ القُرْآنُ الكَرِيمُ صَرَاحَةً عَنْهُمْ.

     يَقُولُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الأنْعَامِ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}  [الأنْعَامُ: 148].

     فَهُنَا نَجِدُ المُشْرِكِينَ يُسْنِدُونَ شِرْكَهُمْ إِلَى إِرَادَةِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّ المَشِيئَةَ الإِلَهِيَّةَ هِيَ الَّتِي جَعَلَتْهُمْ مُشْرِكِينَ.

     إِلَّا أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ يُفَنِّدُ هَذِهِ الدَّعْوَى وَيُدْحِضُهَا بِقُوَّةٍ، يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنْعَامُ: 148].

      وَيَقُولُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا، قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأَعْرَافُ: 28].

     فَهُنَا تَجِدُ المُشْرِكِينَ يَحْمِلُونَ فِعْلَهُمْ لِلفَوَاحِشِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَنِّدُ دَعْوَاهُمْ وَيَرْمِيهِمْ بِالجَهْلِ وَالتَّقَوُّلِ عَلَى اللهِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ.

     وَلِلأَسَفِ هَذِهِ الحَالَةُ مِنْ الجَبْرِ سَرَتْ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ حِينَ أَخَذُوا يُفَسِّرُونَ الأَفْعَالَ المُحَرَّمَةَ عِنْدَ الإِنْسَانِ بِأَنَّهَا قَدَرٌ وَجَبْرٌ مِنْ اللهِ. 

     يَرْوِي السُّيُوطيُّ فِي "تَارِيخِ الخُلَفَاءِ" عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ الزِّنَا بِقَدَرٍ؟

     قَالَ: نَعَمْ.

     قَالَ [الرَّجُلُ]: فَإِنَّ اللهَ قَدَّرَنِي عَلَيْهِ ثُمَّ يُعَذِّبُنِي؟!!

     قَالَ [أَبُو بَكْرٍ]: نَعَمْ يَا بْنَ اللخنا، أَمَّا لَوْ كَانَ عِنْدِي إِنْسَانٌ أَمَرْتُهُ أَنْ يَفَأَ أَنْفَكَ). تَارِيخُ الخُلَفَاءِ: 95].

     فَهُنَا نَجِدُ السَّائِلَ يَسْأَلُ الخَلِيفَةَ عَنْ الزِّنَا الَّذِي يَرْتَكِبُهُ الإِنْسَانُ: هَلْ هُوَ تَقْدِيرٌ مِنْ اللهِ وَجَبْرٌ؟ فَيَقُولُ لَهُ الخَلِيفَةُ: نَعَمْ. فَيَتَعَجَّبُ السَّائِلُ مِنْ جَوَابِهِ بِأَنَّهُ كَيْفَ يُقَدِّرُ اللهُ سُبْحَانَهُ الفِعْلَ عَلَى العَبْدِ ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ؟!

      وَلَمَّا كَانَ الخَلِيفَةُ عَاجِزًا عَنْ الجَوَابِ لَمْ يَجِدْ غَيْرَ الشَّتِيمَةِ وَالتَّقْرِيعِ مَهْرَبًا مِنْ المَوْقِفِ!!

     وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ يُنْقَلُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ تَفَاصِيلَ هَزِيمَةِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَيَقُولُ: وَانْهَزَمَ المُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ، فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟! فَقَالَ: أَمْرُ اللهِ. [صَحِيحُ البُخَارِيِّ، كِتَابُ المَغَازِي، حَدِيثُ 4322].

     وَهَكَذَا نَجِدُ مِثْلَ هَذِهِ العَقِيدَةِ فِي حَمْلِ أَفْعَالِ النَّاسِ عَلَى الجَبْرِ وَالتَّقْدِيرِ الإِلَهِيِّ عِنْدَ عَائِشَةَ عِنْدَمَا حَاجَجَهَا أَحَدُ الأَشْخَاصِ عَلَى خُرُوجِهَا عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَحُصُولِ تِلْكَ المَقْتَلَةِ العَظِيمَةِ فِي حَرْبِ الجَمَلِ، فَقَالَتْ لَهُ: (أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، وَلِلقَدَرِ أَسْبَابٌ) [تَارِيخُ بَغْدَادَ - لِلخَطِيبِ البَغْدَادِيِّ -1: 160]. 

     وَهَكَذَا تَمْتَدُّ عَقِيدَةُ الجَبْرِ إِلَى الأُمَوِيِّينَ حِينَ اتَّخَذُوهَا مُرْتَكَزًا لَهُمْ فِي تَثْبِيتِ مُلْكِهِمْ، وَتَنْصِيبِ حُكَّامِهِمْ، وَتَبْرِيرِ أَفْعَالِهِمْ.

     يَرْوِي ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي "الإمَامَةِ وَالسِّيَاسَةِ" عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَرَادَ تَنْصِيبَ ابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ خَلِيفَةً مِنْ بَعْدِهِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: (إِنِّي أُحَذِّرُكَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا المُسْلِمِينَ وَتَسْعَى فِي تَفْرِيقِ مِلْئِهِمْ، وَأَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَنَّ أَمْرَ يَزِيدَ قَدْ كَانَ قَضَاءً مِنْ القَضَاءِ، وَلَيْسَ لِلعِبَادِ خِيَرَةٌ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الإمَامَةُ وَالسِّيَاسَةُ 1: 171].

     وَهَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ يَرَى القَضَاءَ وَالقَدَرَ جَبْرًا مِنْ اللهِ فِي الأَفْعَالِ.

     يَقُولُ أَبُو هِلَالٍ العَسْكَرِيُّ فِي كِتَابِهِ "الأَوَائِلِ": (إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَوَّلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ يُرِيدُ أَفْعَالَ العِبَادِ كُلَّهَا) [الأَوَائِلُ 2: 125].

     وَفِي هَذَا الصَّدَدِ يَقُولُ أَحَدُ الكُتَّابِ المِصْرِيِّينَ المُعَاصِرِينَ: 

     (إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يَدْعَمُ مُلْكَهُ بِالقُوَّةِ فَحَسْب، وَلَكِن بِأَيْدِيُولُوجِيَّةٍ تَمُسُّ العَقِيدَةَ فِي الصَّمِيمِ، وَلَقَدْ كَانَ يُعْلِنُ فِي النَّاسِ أَنَّ الخِلَافَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ قَدْ احْتَكَمَا فِيهَا إِلَى اللهِ فَقَضَى اللهُ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ، وَكَذَلِكَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ البَيْعَةَ لِابْنِهِ يَزِيدَ مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ، أَعْلَنَ أَنَّ اخْتِيَارَ يَزِيدَ لِلخِلَافَةِ كَانَ قَضَاءً مِنْ القَضَاءِ لَلَيْسَ لِلعِبَادِ خِيَرَةٌ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَهَكَذَا كَادَ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي أَذْهَانِ المُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ الخَلِيفَةُ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ طَاعَةُ اللهِ فِي خِلَافِهِ فَهُوَ قَضَاءٌ مِنْ اللهِ قَدْ قُدِّرَ عَلَى العِبَادِ). انْتَهَى [نَظَرِيَّةُ الإمَامَةِ عِنْدَ الشِّيعَةِ الإمَامِيَّةِ - لِلدُّكْتُورِ أَحْمَدَ مَحْمُود: 334].

     وَبِنَفْسِ المَعْنَى فَسَرَّ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ قَتْلَهُ لِلحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عِنْدَمَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيعٍ العَدَوَيُّ بِقَوْلِهِ: اخْتَرْتَ هَمَدَانَ وَالرَّيَّ عَلَى قَتْلِ ابْنِ عَمِّكِ!! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: (كَانَتْ أُمُورًا قُضِيَتْ فِي السَّمَاءِ) [الطَّبَقَاتُ – لِابْنِ سَعْدٍ - 5: 148].

     وَهَكَذَا تَجِدُ هَذِهِ العَقِيدَةَ (تَفْسِيرُ القَدَرِ بِالجَبْرِ) قَدْ تَسَرَّبَتْ إِلَى المَوْرُوثِ الرِّوَائِيِّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، فَتَجِدُ مِثْلَ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ يَرْوُونَ رِوَايَاتٍ يُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنَّ الإِنْسَانَ مُسَيَّرٌ وَلَيْسَ مُخَيَّرًا، مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ:

     (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا، وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمَ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطٌّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً). [صَحِيحُ البُخَارِيِّ، ج8، بَابٌ فِي القَدَرِ، ص122].

     وَيَرْوِي مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جعشم أَنَّهُ قَالَ:

     (بَيَّنَ لَنَا دَيْنُنَا كأنّا خُلِقْنَا الآنَ، فَيَوْمُ عَمَلٍ اليَوْمَ، أفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟

     قَالَ: لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ.

     قَالَ: فَيَوْمُ العَمَلِ؟. قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلُّ مُيَسِّرٍ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَكُلُّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ) [صَحِيحُ مُسْلِمٍ ج8 ص 44].

     وَمِثْلُ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ تَجِدُ عَشَرَاتِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مَصَادِرِ الحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهِيَ تُفَسِّرُ القَدَرَ بِالجَبْرِ، وَأَنَّ الإِنْسَانَ مَحْكُومٌ مَقْهُورٌ فِي أَفْعَالِهِ، يَمْضِي لِمَا كُتِبَ لَهُ فَقَطْ.

     وَإِلَى هَذِهِ الحَقِيقَةِ يُشِيرُ أَحَدُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ المُعَاصِرِينَ - الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْغَزَالِي - فِي كِتَابِهِ "السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ بَيْنَ أَهْلِ الفِقْهِ وَأَهْلِ الحَدِيثِ": (وَالغَرِيبُ أَنَّ جُمْهُورًا كَبِيرًا مِنْ المُسْلِمِينَ يُجْنِحُ إِلَى هَذِهِ الفِرْيَةِ، بَلْ إنَّ عَامَّةً المُسْلِمِينَ يَطْوُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا يُشْبِهُ عَقِيدَةَ الجَبْرِ بِاخْتِيَارٍ خَافِتٍ مَوْهُومٍ... وَقَدْ أَسْهَمَتْ بَعْضُ المَرْوِيَّاتِ فِي تَكْوِينِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَتَمْكِينِهَا، وَكَانَتْ سَبَبًا فِي إِفْسَادِ الفِكْرِ الإِسْلَامِيِّ وَانْهِيَارِ الحَضَارَةِ وَالمُجْتَمَعِ). [السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ بَيْنَ أَهْلِ الفِقْهِ وَأَهْلِ الحَدِيثِ: 144].

     وَهَذَا المَعْنَى بِخِلَافِهِ فِي مَدْرَسَةِ أَهْلِ البَيْتِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) حَيْثُ تَرَاهُمْ يَذُمُّونَ مَنْ يُفَسِّرُ القَضَاءَ وَالقَدَرَ بِالجَبْرِ.

     جَاءَ فِي كِتَابِ "الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ" لِعَلِيِّ بْنِ يُونُسَ العَامِلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قَالَ) :سَيَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يُؤَوِّلُونَ المَعَاصِيَ بِالقَضَاءِ، أُولَئِكَ بَرِيئُونَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ بَرَاءٌ). [الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ: 32]. 

     وَفِي تَوْحِيدِ الصَّدُوقِ (عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ): جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ (ص) قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ قَضَاءِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) خِيَرَةٌ لِلمُؤْمِنِ). [التَّوْحِيدُ - لِلشَّيْخِ الصَّدُوقِ -: 371].

     وَهُنَا نَجِدُ النَّبِيَّ (ص) يُصَرِّحُ بِأَنَّ القَضَاءَ لَا يُنَافِي الإخْتِيَارَ، خِلَافَ الفَهْمِ المُتَقَدِّمِ الَّذِي يَسْلُبُ الإخْتِيَارَ مِنْ الإِنْسَانِ وَيَجْعَلُهُ مَجْبُورًا عَلَى أَفْعَالِهِ بِحُجَّةِ القَدَرِ المَقْدُورِ عَلَيْهِ.

     وَيَرْوِي الأصْبَغُ بْنُ نَبَاتَةَ أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَدَلَ مِنْ حَائِطٍ مَائِلٍ إِلَى حَائِطٍ آخَرَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَتَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ؟!

     قَالَ: أَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ). [التَّوْحِيدُ: 369]. 

     فَهُنَا نَجِدُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يُوَضِّحُ لَنَا بِأَنَّ القَدَرَ لَا يُنَافِي الإخْتِيَارَ، بَلْ تَفْسِيرُ القَدَرِ بِالجَبْرِ وَالتَّسْلِيمِ هُوَ المَنَافِي لِلدِّينِ، كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ (ص): (خَمْسَةٌ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: أَحَدُهُمْ مَرَّ بِحَائِطٍ مَائِلٍ وَهُوَ يُقْبِلُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُسْرِعْ المَشْيَ حَتَّى سَقَطَ عَلَيْهِ) [ بِحَارُ الأَنْوَارِ، بَابُ القَضَاءِ وَالقَدَرِ ج5 ص 105 ].

     وَقَوْلُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (أَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) مَعْنَاهُ: أَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ الَّذِي قُضِيَ بِسُقُوطِ هَذَا الجِدَارِ لِحُضُورِ أَسْبَابِهِ إِلَى مَا قَدَّرَهُ اللهُ لِي مِنْ الإخْتِيَارِ فِي عَمَلِي بِالتَّنَحِّي وَالنُّجَاةِ مِنْ هَذَا الجِدَارِ المَائِلِ.

     وَهُنَا قَدْ تَقُولُ: بلِحَاظِ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الكَلِمَاتِ عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يُفْهَمُ مِنْهُ بِأَنَّ الإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ وَلَيْسَ مُسَيَّرًا فِي أَفْعَالِهِ، وَهَذَا يُطَابِقُ دَعْوَى المُعْتَزِلَةِ فِي القَوْلِ بالتَّخْيِيرِ، فَلِمَاذَا رَفَضَ أَئِمَّةُ أَهْلِ البَيْتِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) هَذِهِ الدَّعْوَى المَذْكُورَةَ أَيْضًا، كَمَا رَفَضُوا قَوْلَ المُجَبِّرَةِ؟!!

     نَقُولُ: كِلَا القَوْلَيْنِ: الجَبْرِ والتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا - المُسَمَّى بِالتَّفْوِيضِ - فِيهِمَا إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ، فَالقَائِلُ بِالجَبْرِ أَبْطَلَ الثَّوَابَ وَالعِقَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَلْ أَسْقَطَ التَّكْلِيفَ فِي الشَّرِيعَةِ بِرُمَّتِهِ، وَالقَائِلُ بالتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا أَخْرَجَ اللهَ مِنْ سُلْطَانِهِ، فَكِلَا القَوْلَيْنِ بَاطِلَانِ.

     تَوْضِيحُ ذَلِكَ: القَائِلُ بِالجَبْرِ لَمْ يَبْقَ لِلإِنْسَانِ دَوْرٌ فِي الأَفْعَالِ، فَعَلَامَ يَسْتَحِقُّ الإِنْسَانُ الثَّوَابَ وَالعِقَابَ عَلَى أَفْعَالِهِ إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا بِقَدَرِ اللهِ وَجَبْرِهِ؟!!

     فَلَا تَكْلِيفَ إِذْنْ، وَلَا تُوجَدُ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِوُجُودِ جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ.. وَهَذَا قَوْلٌ وَاضِحُ البُطْلَانِ لِأَيِّ إِنْسَانٍ يَمْلِكُ مَسْكَةَ عَقْلٍ، وَالخَوْضُ فِي المُدَّعِيَاتِ الفَلْسَفِيَّةِ أَوْ النَّقْلِيَّةِ لِهَذَا القَوْلِ تَطْوِيلٌ بَلَا طَائِلٍ أَعْرَضْنَا عَنْهَا رَغْبَةً فِي الإخْتِصَارِ.

     وَكَذَلِكَ القَوْلُ بالتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا أَوْ التَّفْوِيضِ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ) خَلَقَ الْإِنْسَانَ ثُمَّ تَرَكَهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِاخْتِيَارِهِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ لَهُ عِلَاقَةٌ بِأَفْعَالِهِ البَتَّةَ، فَلَوْ أُرَادَ شَخْصٌ مَا أَنْ يُهْلِكَ الدُّنْيَا بِرُمَّتِهَا بِقَنَابِلِهِ النَّوَوِيَّةِ وَالذُّرِّيَّةِ فَلَا يَتَدَخَّلُ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) فِي مَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ أَبَدًا.. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلنَّقْلِ وَالعَقْلِ.

     أمَّا النَّقْلُ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: (وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ) الأنْفَالِ: 24.. وَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي تَدَخُّلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الحَيْلُولَةِ بَيْنَ إِرَادَةِ الإِنْسَانِ وَفِعْلِهِ.

     وَيَقُولُ تَعَالَى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) البَقَرَةُ: 102.. وَهِيَ أَيْضًا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْ الإِنْسَانِ لَا يُؤَثِّرُ مَا لَمْ يَأْذَنْ اللهُ بِحُصُولِ أَثَرِهِ.

     وَيَقُولُ تَعَالَى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) البَقَرَةُ: 249.. وَهِيَ أَيْضًا صَرِيحَةٌ بِأَنَّ الأَفْعَالَ خَاضِعَةٌ لِلمَشِيئَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهَا تَجْرِي بِإِذْنِهِ. فَلَا تَسْتَقِيمُ دَعْوَى المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ القَائِلِينَ بِالتَّفْوِيضِ وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الخَلْقَ وَتَرَكَ لَهُمْ حُرِّيَّةَ الأَفْعَالِ يَفْعَلُونَ مَا يَشَاؤُونَ وَلَا يَتَدَخَّلُ فِي أَفْعَالِهِمْ أَبَدًا.

     وَأَمَّا العَقْلُ فِي رَدِّ دَعْوَى التَّخْيِيرِ مُطْلَقًا أَوْ التَّفْوِيضِ، فَبِمَا قَرَّرَهُ أَهْلُ المَعْقُولِ حِينَ قَالُوا: إِنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ يَحْتَاجُ فِي وُجُودِهِ لِلعِلَّةِ حُدُوثًا وَبَقَاءً، وَبِمَا أَنَّ الإِنْسَانَ مُمْكِنٌ فَهُوَ بِحَاجَةٍ دَائِمَةٍ لِعِلَّتِهِ وَخَالِقِهِ فِي حَالِ البَقَاءِ وَالإسْتِمْرَارِ، كَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ لَهُ فِي حَالِ الحُدُوثِ وَالإِيجَادِ.

      قَالَ العَلَّامَةُ الطَّبَاطَبَائِيُّ فِي "نِهَايَةِ الحِكْمَةِ": (الفَصْلُ السَّابِعُ، المُمْكِنُ مُحْتَاجٌ إِلَى العِلَّةِ بَقَاءً، كَمَا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا حُدُوثًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلَّةَ حَاجَتِهِ إِلَى العِلَّةِ هِيَ إِمْكَانُهُ اللَّازِمُ لِمَاهِيَّتِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ -، وَالمَاهِيَّةُ مَحْفُوظَةٌ مَعَهُ بَقَاءً كَمَا أَنْهَا مَحْفُوظَةٌ مَعَهُ حُدُوثًا، فَلَهُ حَاجَةٌ إِلَى العِلَّةِ الفَيَّاضَةِ لِوُجُودِهِ حُدُوثًا وَبَقَاءً، وَهُوَ المَطْلُوبُ). [نِهَايَةُ الحِكْمَةِ: 78].

     تَقُولُ: فَمَا هُوَ الوَضْعُ المُنَاسِبُ لِأَفْعَالِ الإِنْسَانِ إِذَنْ بَعْدَ رَدِّ دَعْوَى التَّخْيِيرِ وَالتَّسْيِيرِ فِي أَفْعَالِ الإِنْسَانِ؟!!

     الجَوَابُ:

     الوَضْعُ المُنَاسِبُ لِأَفْعَالِ الإِنْسَانِ أَنَّهُ لَا مُخَيَّرٌ وَلَا مَسَيَّرٌ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، كَمَا يُقَرِّرُهُ الإِمَامُ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِمَقُولَتِهِ المَعْرُوفَةِ: (لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ، بَلْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ) [الهِدَايَةُ - للصَّدُوقِ -: 19].

      وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ) خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَمَنَحَهُ مِنْ القُدْرَاتِ عَلَى الأَفْعَالِ بِاخْتِيَارِهِ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلشَّكِّ فِيهِ، فَالإِنْسَانُ كَائِنٌ مُخْتَارٌ فِي فِعْلِهِ، وَلَكِنَّ وُقُوعَ هَذَا الفِعْلِ مِنْهُ لَا يَكُونُ خَارِجَ سُلْطَةِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ)، فَلَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَأْذَنَ بِوُقُوعِ الفِعْلِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ.

     تَقُولُ: وَهَذَا الإِذْنُ مِنْ اللهِ بِوُقُوعِ الفِعْلِ أَلَا يَعْنِي أَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِ، وَبِالتَّالِي سَنَرْجِعُ إِلَى مَقَالَةِ المُجَبِّرَةِ بِأَنَّ اللهَ قَدَّرَ لِلنَّاسِ أَفْعَالَهَا؟!!

     الجَوَابُ: 

     لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَتَصَوَّرُ المُجَبِّرَةُ بِأَنَّ إِذْنَ اللهِ فِي حُصُولِ الأَفْعَالِ هُوَ إِرَادَتُهُ لَهَا وَجَبْرُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ اللهُ مُرِيدًا لِلسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَالكَذِبِ وَالكُفْرِ وَالفَوَاحِشِ فِي أَفْعَالِ الإِنْسَانِ.. فَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ مُطْلَقًا.. بَلْ المُرَادُ مِنْ إِذْنِ اللهِ فِي حُصُولِ الأَفْعَالِ أَنَّ أَفْعَالَ العِبَادِ تَجْرِي تَحْتَ سُلْطَتِهِ وَبِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يُطَاعُ جَبْرًا وَلَا يُعْصَى مَغْلُوبًا، تَمَامًا كَمَا لَوْ أَنَّكَ أَعْطَيْتَ العَامِلَ الَّذِي يَعْمَلُ عِنْدَكَ آلَةً حَادَّةً وَأَمَرْتَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي مَوَارِدِ العَمَلِ عِنْدَكَ فَأَسَاءَ هُوَ اسْتِخْدَامَهَا، وَأَضَرَّ بِهَا بَعْضَ النَّاسِ، فَهَلْ تَكُونُ أَنْتَ مَسْؤُولًا عَنْ إِضْرَارِهِ؟!!

     لَا يُوجَدُ عَاقِلٌ يَقُولُ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ حَالُنَا نَحْنُ مَعَ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ)، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَنَا بِالخَيْرِ، وَنَهَانَا عَنْ الشَّرِّ، وَخَلَقَنَا مُخْتَارِينَ، فَإِذَا أَرَادَ الوَاحِدُ مِنَّا أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا شِرِّيرًا بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ عِلْمِهِ المُسَبَقِ بِأَفْعَالِنَا وَسُلْطَتِهِ المُطْلَقَةِ عَلَيْنَا لَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الفِعْلِ الشِّرِّيرِ فَلَا مَدْخَلِيَّةَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي حُصُولِ هَذَا الفِعْلِ خَارِجًا، بَلْ الفِعْلُ يُنْسَبُ إِلَيْنَا كَامِلًا وَنَحْنُ مَنْ يَتَحَمَّلُ عَلَيْهِ الجَزَاءَ كَامِلًا.

     هَذَا هُوَ مَعْنَى الأَمْرِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ.. لَا جَبْرَ فِي الأَفْعَالِ فَيَكُونُ اللهُ شَرِيكًا لَنَا فِي جَرَائِمِنَا، وَلَا تَفْوِيضَ مُطْلَقٌ لَنَا فِي أَفْعَالِنَا فَنُخْرِجُ اللهَ عَنْ سُلْطَانِهِ، بَلْ أَفْعَالُنَا بِاخْتِيَارِنَا وَهِيَ تَجْرِي تَحْتَ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَسُلْطَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَفْعَالِنَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَنَا بِإِرَادَتِنَا وَحُرِّيَّتِنَا وَنَحْنُ نَتَحَمَّلُ أَوْزَارَ أَعْمَالِنَا.

     وَهَذَا المَعْنَى الَّذِي قُلْنَاهُ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ قُرْآنًا وَسُنَّةً، وَإِلَيْكَ بَعْضُهَا:

     يَقُولُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) الأنْفَالُ: 17.

     فَهُنَا نَجِدُ فِعْلًا وَاحِدًا يُنْسَبُ إِلَى النَّبِيِّ (ص) ثُمَّ يُسْلَبُ مِنْهُ وَيُنْسَبُ لِلهِ (عَزَّ وَجَلَّ) أَيْضًا.. فَلَا هُوَ فِعْلٌ مُسْتَقِلٌّ لِلنَّبِيِّ (ص) عَنْ اللهِ (كَمَا هِيَ دَعْوَى المُفَوَّضَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِاسْتِقْلَالِ أَفْعَالِ العَبْدِ عَنْ اللهِ)، وَلَا هُوَ فِعْلٌ لِلهِ حَقِيقَةً دُونَ النَّبِيِّ (ص) (كَمَا هِيَ دَعْوَى المُجَبِّرَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِجَرَيَانِ الأَفْعَالِ بِقُدْرَةِ اللهِ دُونَ قُدْرَةِ العَبْدِ)، فَكَيْفَ نُفَسِّرُ الفِعْلَ المَذْكُورَ فِي هَذَا النَّصِّ القُرْآنِيِّ؟!!

     لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذَا النَّصِّ القُرْآنِيِّ إِلَّا وِفْقَ الأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، فَالَّذِي رَمَى حَقِيقَةً هُوَ النَّبِيُّ (ص)، فَالفِعْلُ تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حِينَ قَالَ: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) فَهُوَ أَثْبَتَ الرَّمْيَ لِلنَّبِيِّ (ص) وَلَمْ يَنْفِهِ عَنْهُ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ جَرَى بِتَوْفِيقِ اللهِ وَتَسْدِيدِهِ صَحَّتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ أَيْضًا: (وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) وَهَذَا هُوَ مَعْنَى اخْتِيَارِيَّةِ الأَفْعَالِ فِي ظِلِّ سُلْطَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ مَضْمُونُ الأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ الَّذِي صَدَعَتْ بِهِ مَدْرَسَةُ الإمَامِيَّةِ تَبَعًا لِأَئِمَّتِهِمْ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ).

     مِثَالٌ آخَرُ: يَقُولُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الفَاتِحَةِ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)).

     فَهُنَا نَجِدُ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ لَا تَنْسَجِمُ مَعَ دَعْوَى القَائِلِينَ بِالجَبْرِ، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الخَالِقُ لِلفِعْلِ دُونَ إِرَادَةِ الإِنْسَانِ، إِذْ لَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِنِسْبَةِ العِبَادَةِ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).. كَمَا لَا تَنْسَجِمُ مَعَ القَوْلِ بِالتَّفْوِيضِ; إِذْ لَا مَعْنَى لِلإسْتِعَانَةِ بِمَوْجُودٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّدَخُّلُ وَالإِعَانَةُ عَلَى الفِعْلِ، كَمَا هِيَ دَعْوَى المُفَوِّضَةِ.

     وَالإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الآيَةِ وَاضِحٌ عَلَى المُجَبِّرَةِ، حَيْثُ يُقَالُ لَهُمْ: إِذَا كَانَ اللهُ هُوَ خَالِقُ الأَفْعَالِ كَمَا تَقُولُونَ، فَهُوَ خَالِقُ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، فَكَيْفَ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي؟!!

     وَهُنَا يَنْقُلُ العَيَّاشِي فِي تَفْسِيرِهِ احْتِجَاجَ الإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى القَدَرِيِّ (أَي المُفَوِّضِ) الَّذِي أَعْيَى عُلَمَاءَ الشَّامِ بِهَذِهِ الآيَةِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ الإِمَامُ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): "اقْرَأْ سُورَةَ الحَمْدِ". فَقَرَأهَا، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) قَالَ لَهُ الإِمَامُ (عَ): "قِفْ! مَنْ تَسْتَعِينُ؟ وَمَا حَاجَتُكَ إِلَى المَؤُونَةِ أَنَّ الأَمْرَ إِلَيْكَ"، فَبُهِتَ الرَّجُلُ. [تَفْسِيرُ العَيَّاشِي 1: 23].

     وَمِنْ السُّنَّةِ المَعْصُومَةِ، يَرْوِي الشَّيْخُ الصَّدُوقُ (رَحِمَهُ اللهُ) بِسَنَدِهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ قرط، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ): مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُ بِالسُّوءِ والفَحْشَاءِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ بِغَيْرِ مِشِئيَةِ اللهِ فَقَدْ أَخْرَجَ اللهَ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ المَعَاصِيَ بِغَيْرِ قُوَّةِ اللهِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللهِ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ. يَعْنِي بِالخَيْرِ وَالشَّرِّ: الصِّحَّةُ وَالمَرَضُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (عَزَّ وَجَلَّ): ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً﴾. [التَّوْحِيدُ: 353].

     وَجَاءَ فِي "التَّوْحِيدِ" أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الجَعْفَرِيِّ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَهُ الجَبْرُ وَالتَّفْوِيضُ، فَقَالَ: أَلَا أُعْطِيكُمْ فِي هَذَا أَصْلًا لَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلَا تُخَاصِمُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا إِلَّا كَسَرْتُمُوهُ. قُلْنَا: إِنْ رَأَيْتَ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ) لَمْ يُطَعْ بِإِكْرَاهٍ، وَلَمْ يُعْصَ بِغَلَبَةٍ، وَلَمْ يُهْمَلْ العِبَادُ فِي مُلْكِهِ، هُوَ المَالِكُ لِمَا مَلَّكَهُمْ، وَالقَادِرُ عَلَى مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ ائْتَمَرَ العِبَادُ بِطَاعَتِهِ لَمْ يَكُنْ اللهُ عَنْهَا صَادًّا، وَلَا مِنْهَا مَانِعًا، وَإِنْ ائْتَمَرُوا بِمَعْصِيَتِهِ فَشَاءَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَحُلْ وَفَعَلُوهُ فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُمْ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): مَنْ يَضْبِطُ حُدُودَ هَذَا الكَلَامِ فَقَدْ خَصَمَ مَنْ خَالَفَهُ؟ انْتَهَى [التَّوْحِيدُ: 361].

     وَبِسَنَدِهِ عَنْ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ يَرْوِي الشَّيْخُ الصَّدُوقُ عَنْ الإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: "لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ، بَلْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟ قَالَ: مِثْلُ ذَلِكَ رَجُلٌ رَأَيْتَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَنَهَيْتَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَتَرَكْتَهُ فَفَعَلَ تِلْكَ المَعْصِيَةَ، فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَهُ كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَهُ بِالمَعْصِيَةِ. انْتَهى [المَصْدَرُ السَّابِقُ، الحَدِيثُ 8].

     وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَاضِحَةُ الدِّلَالَةِ عَلَى مَضَامِينِهَا فِيمَا شَرَحْنَاهُ سَابِقًا. وَلَمْ أَشَأْ التَّوَسُّعَ فِي المَوْضُوعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ طَلَبًا لِلإخْتِصَارِ. وَلَعَلَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةً، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين.