شبهةُ دلالة بعض الأدعية الرجَبِيَّة على وَحدَةِ الوجودِ، وعلى التفويض..!.
السؤال: ( لا فرق بينهم وبينك إلّا أنّهم عبادُك وخلقُك..!)) هل صحيح أنّ هذا المقطع ورد في الزيارة الرجبيّة المنسوبة للإمام المهدي في بحار الانوار ج95 ص393..؟!.))
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ السائل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. قبل الخوض في الإجابة عن سؤالكم لابدّ من نقل تمام الفقرة التي استُلَّ منها المقطع المذكور، فقد قال شيخ الطائفة: ((أخبرني جماعة عن ابن عيّاش قال : ممّا خرج على يد الشيخ الكبير أبي جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد رضي الله عنه من الناحية المقدّسة ما حدّثني به جُبير [خير] بن عبد الله قال : كتبته من التوقيع الخارج إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، ادعُ في كلّ يومٍ من أيامِ رجب: اللّهمّ إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوكَ به ولاةُ أمرِكَ المأمونونَ على سِرِّك المستبشرونَ بأمرِك الواصفونَ لِقُدرتِكَ المُعلنونَ لعظمتِكَ ، أسألُكَ بما نطقَ فيهم مِن مشيَّتِكَ فَجعلْتَهُم معادنَ لِكلماتِكَ وأركاناً لِتوحيدِكَ وآياتِكَ ومقاماتِكَ التي لا تعطيلَ لها في كلِّ مكانٍ ، يعرفُكَ بها مَن عَرفَكَ لا فَرْقَ بينَكَ وبينَهَا إلَّا أنَّهم عبادُكَ وخلقُكَ فَتقُهَا ورَتقُهَا بِيَدِكَ.... إلى آخر الدعاء أو الزيارة.)) [مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي:ص803 ، ونقله عنه في البحار:95،ص393 ، لكنّه جعل (خير بن عبد الله بدلاً عن جبير بن عبد الله)] ، وهنا ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أنّ أوّل ما يتّضح لنا من ذلك هو أنّ النصّ المذكور قد روي عنهم "عليهم السلام" كواحد من أدعية رجب الحرام وليس "زيارة رجبيّة" كما افترضتم في السؤال.
الملاحظة الثانية: هي أنّ ما ذكرتموه من ضمير العاقل (بينهم) موجود في بعض النسخ، وفي بعضها الآخر (بينها)، وهذا الاختلاف له أهمّية كبيرة في فهم معاني النصّ بعمومه كما سيتّضح.
الملاحظة الثالثة: أنّ سند هذا الدعاء تمّ مناقشته من جهتين: إحداهما: من جهة ابن عيّاش، والأخرى من جهة جبير بن عبد الله.
فأمّا الجهة الأولى، فالمراد بابن عيّاش هو: أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسن بن عيّاش بن إبراهيم بن أيّوب الجوهريّ، إذْ نصّ النجاشيّ على أنّه سمع الحديث، فأكثر واضطرب في آخر عمره، ... إلى أنْ قال: رأيت هذا الشيخ، وكان صديقا لي ولوالدي، وسمعت منه شيئا كثيرا، ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أروِ منه شيئا، وتجنّبته. وقال الطوسيّ: كان سمع الحديث وأكثر، واختلّ في آخر عمره. [ينظر: فهرست النجاشيّ ( )، وفهرست الطوسيّ (99)].
وأمّا الجهة الأخرى: فإنّ جبير بن عبد الله، لا ذكر له في الكتب الرجاليّة!. والصحيح ما في بحار الأنوار من أنّه (خَير بن عبد الله)، وقد ذهب السيّد الخوئيّ إلى أنّه هو مجهول الحال كما في معجم رجال الحديث: ج8،ص87.
ولكن الحقّ يقال: إنّ تضعيف ابن عيّاش مختصٌّ بما يرويه في آخر عمره كونه تغيرّ واختلّ، وأمّا قبل أنْ يتغيّر فلم نرَ الطوسيّ ولا النجاشيّ تكلّما فيه، وهذا يقتضي أنّ ما رويه قبل أنْ يتغيّر لا إشكال فيه، خصوصاً أنّ هذا الدعاء وصل إلى الطوسيّ الذي كان على معرفةٍ باختلال ابن عيّاش في آخر عمره كما تقدّم بيانه آنفاً، فلمّا روى هذا الدعاء عن تلكم الجماعة التي فيهم أكابر النقّاد، فحينئذٍ لا بُدّ من حمل روايتهم عن ابن عيّاش في حالة عدم تغيّره، ويؤيّد ذلك أنّ الطوسيّ نفسه قد أورد هذه الدعاء في كتابه مصباح المتهجّد واعتمده.
وأمّا ما يتعلّق بـ(خير بن عبد الله) فعدم معرفة أحواله يُعزى إلى تلك الفترة الزمنيّة المظلمة التي عاشها خير بن عبد الله وغيره من أصحاب الإمام عليه السلام، وهي فترة كانت تقتضي من عموم أصحاب الإمام (ع) الحذر الشديد من عيون السلطان وأعوانه، فكيف بالخواصّ منهم ممّن يحمل عنه رسائل خاصّة إلى شيعته؟ وعليه: فينبغي أنْ تؤخذ هذه الأمور في الاعتبار حين نعرض لأصحاب الإمام (ع) في هذه الفترة الحرجة، وألّا نتعامل معهم بالموازين نفسها التي نتعامل بها مع بقيّة أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، إذْ لا بُدّ أن نعرف أنّ كلّ حالةٍ بحسب ظرفها الخاصّ بها. ومع هذا فإنّ خير بن عبد الله كان مولى السفير الثالث وقد ورد الترضيّ عنه في كتاب المزار لابن المشهديّ (ص203)، ومن المعلوم أنّ الترضي عند غير واحد من أصحابنا يفيد التوثيق، وفي أقلّ الأحوال يُفيد المدح. فلذا صرّح بعض العلماء بأنّ هذا الإسناد معتبرٌ كالشيخ خضر بن شلّال في أبواب الجنان (ص584) وغيره.
ولو سلّمنا أنّ هذا الإسناد ضعيفٌ، فإنّ مناقشة الأدعية والزيارات ونحوهما من جهة الإسناد لا يقدح بقبول الخبر ولا يضرُّ به، لشمولها بقاعدتي التسامح في أدلّة السنن، ورجاء المطلوبيّة كما هو محرّرٌ في محلّه في علم الأصول، وإنّما المعيار في الأدعية والزيارات هو صحّة المضمون وسلامته، وقد قال المرجع الأعلى السيّد السيستانيّ في بعض أجوبة استفتاءاته: (المناط في قراءة الأدعية والزيارات ليس هو اعتبار السند، بل ملاحظة المضمون) [استفتاءات ص352]، وقال في جوابٍ آخر: (قراءة الأدعية والزيارات لا تتبع صحّة السند، بل صحّة المضمون) [استفتاءات ص604]، وقد صرّح الأعلام بعلوّ مضمون هذا الدعاء الرجبيّ وصحّته، كما سيتّضح لاحقاً.
2- دراسة المتن: لقد اتّفقت كلمة العلماء على جلالة متن الدعاء المذكور في جميع فقراته، وإنّما وقع الكلام والإشكال في فقرة واحدة منه فقط، وهي قوله "عليه السلام": (لا فَرْقَ بينَكَ وبينَهَا إلَّا أنَّهم عبادُكَ وخلقُكَ)، فإنّها بظاهرها توهم عدم وجود فرقٍ بين الحقّ سبحانه وبين عباده وخلقه، وهذا ما يتعارض مع قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى:11] ؛ ولذا فقد توقّف العلماء عندها ، وجزموا بوجوب تأويلها، ويتّضح ذلك ببيان الأمور التالية:
الأمر الأوّل: قال السيّد الخوئي "قدّس سرّه": ((خير بن عبد الله : روى توقيعاً عن أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد ....،ومضمون التوقيع الذي أوله: {اللّهُمّ إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك} غريبٌ من أذهان المتشرّعة وغيرُ قابل للإذعان بصدوره عن المعصوم "عليه السلام"))[معجم رجال الحديث للسيّد الخوئيّ:ج8،ص87].
أقول: محلّ الغرابة هو العبارة المذكورة آنفاً ، وقد فُسِّر كلام سماحته بما حاصله: "أنّ مراده من مصطلح (الغريب) ما في علم الدراية وهو: "الحديث المشتمل على مضمون لم يُذكر في غيره من الأحاديث". وأمّا كونه (غير قابل للإذعان بالصدور)، فلعدم إمكان تصحيح سند الرواية وإثبات صدورها عن المعصوم "عليه السلام". [انظر الرابط التالي: https://aldiaa.net/qa102/]، هذا ويمكن أن يتمّم الإشكال فيقال: ((إنّ ظاهر العبارة المذكورة هو (الحكم بالتسوية بينهم "عليهم السلام" وبين الخالق جلّ وعلا في كلِّ شيء حتّى في الذات والمقامات كالربوبيّة والخالقية والرازقية ، وأنّه لا فرق بينه وبينهم إلّا من جهة كونهم مخلوقين له وكونه سبحانه خالقاً لهم)، لكنّ هذا الظاهر غريب عن أذهان المتشرعة؛ لقيام الأدلّة العقليّة والنقليّة على نفي التشبيه بين الخالق وخلقه ؛ وعليه فبقاء العبارة على ظاهرها ومن دون إمكان تأويلها بما لا ينافي العقل والنقل يجعلنا نقطع بعدم صدورها عن المعصوم "عليه السلام" [انظر الرابط التالي: https://2u.pw/OamRM5WW ] ؛ وذلك لأنّ لكلّ متشابهٍ مُحكَماً يُرَدُّ إليه سواء في آيات القرآن الكريم أم في أحاديثهم "عليهم السلام"، قال الإمام الرضا "عليه السلام": ((مَن ردَّ متشابَهَ القرآنِ إلى مُحكَمِهِ فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم، ثمَّ قال "عليه السلام": إنّ في أخبارنا مُحكَماً كمُحكَمِ القرآنِ ، ومتُشابَها كمتشابَه القرآنِ، فَرُدُّوا مُتشابَهِها إلى مُحكمِها، ولا تَتَّبِعُوا متشابَهَها دونَ مُحكمِها فَتَضِلُّوا))[وسائل الشيعة:ج27،ص115].
الأمر الثاني: على ضوء الإشكال المتقدّم فقد وردت عدّة تأويلات في المقام، وأهمّ ما ذكره الأعلام منها هو خمسة معانٍ:
المعنى الأوّل: أنّ الضمير في (بينها) يعود إلى (آياتك) الواردة في الدعاء ، والمراد بتلك الآيات هم الأئمّة المعصومون "عليهم السلام"، والمعنى: لا فرق بينك وبين آياتك من حيث الجهات الواردة في الدعاء فهم "عليهم السلام" موصوفون فيها بأنّهم مأمونون على سرّ الله تعالى، وأنّهم واصفون لقدرته، ومُعلِنون لعظمته، وأنّهم معادنُ لكلماته وأركانٌ لتوحيده سبحانه وغير ذلك، فلا فرق بينهم وبين الله تعالى من جهة وصفهم لقدرته والإعلان بعظمته وتبليغ أحكامه ، إلّا أنّ ذلك لا يعني كونهم آلهةً وأرباباً ، بل هم عباد لله وخلقٌ من خلقه انتجبهم تبارك تعالى واختارهم لتبليغ كلماته والدعوة إلى سبيله، ولهذا قال: «يعرفك بها من عرفك» يعني: أنّ مَن عرفك حقَّ معرفتك فإنّه قد عرفك بواسطة هذه الآيات وهم أهل البيت "عليهم السلام" ، فلا فرق بينك وبينهم من جهة التعريف بك وبيان أحكامك، إلّا من هذه الناحية وهي أنّهم عبادك وخلقك وأنت ربٌّ لهم ويبلّغون عنك ما أمرتهم. [انظر موقع الشيخ عليّ آل محسن: https://2u.pw/OamRM5WW ] ويشهد لهذا المعنى قول الصادق "عليه السلام" ((بنا عرف الله ، وبنا عُبِدَ الله ، نحن الأدلّاء على الله ، ولولانا ما عبد الله))[توحيد الصدوق:ص152].
المعنى الثاني: إنّه لا فرق بينك وبينهم "عليهم السلام" من جهة ما أوجبت علينا من طاعتهم والأخذ عنهم والردّ إليهم ، من دون أن يخرجهم ذلك عن كونهم خلقَك وعبادَك. [التقليد والعقائد للسيّد الروحانيّ شرح وإعداد الشيخ مصطفى المصريّ العامليّ: ص433] وفي هذا المعنى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...}[النساء:59] فجعل طاعتهم وطاعة الرسول بمرتبة واحدة ، ثمّ جعل طاعة رسوله عينَ طاعته في قوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء:80]. وبناءً على وحدة الطاعة المذكورة كان الردَّ عليهم هو عينُ الردّ على الله وشركاً به تعالى ، كما جاء في مقبولة عُمَرَ بْنِ حَنظَلَةَ قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه "عليه السلام" عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ .... قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعَان..؟. قَالَ: يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا ونَظَرَ فِي حَلَالِنَا وحَرَامِنَا وعَرَفَ أَحْكَامَنَا فَلْيَرْضَوْا بِه حَكَماً فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُه عَلَيْكُمْ حَاكِماً فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْه مِنْه فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللَّه وعَلَيْنَا رَدَّ والرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّه وهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّه... الخبر))[الكافي لثقة الإسلام الكلينيّ:ج1،ص67] . فلعلّه لهذا لم يَقُلْ "عليه السلام": (كالرادِّ على الله) ؛ لوضوح أنّ كاف التشبيه تنفي العينيّة بين الشيئين كما لا يخفى.
والسرّ في هذه الوحدة والعينيّة هو ما كان منهم "عليهم السلام" من الفناء في ذات الله تعالى ونكرانهم لذواتهم "عليهم السلام" حتّى لم يَعُد لهم أمر إلّا بما أمر الله به ولا نهيَ إلّا بما نهى عنه ، ولا رضا لهم إلّا بما يرضيه ولا سخطَ إلّا فيما يُسخطه ، ولا إرادةَ إلّا لما أراد سبحانه ، ولا كراهة إلّا لما كره تبارك تعالى. ويشهد لهذا المعنى قوله "صلّى الله عليه وآله" لابنته فاطمة "صلوات الله وسلامه عليها": ((إنّ الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك))[الإصابة لابن حجر:ج8،ص265]، وأوضح منه دلالةً على العينيّة قول الإمام الحسين "عليه السلام": ((رضا الله رضانا أهلِ البيت...)) [معالم المدرستين للسيّد مرتضى العسكريّ:ج3،ص61].
المعنى الثالث: أنّ الضمير في (بينها) عائد على المشيئة التي في قوله "عليه السلام" (أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك)، فكأنَّ المعنى هو: لا فرق بينك وبين عبادك الذين هم وُلاة أمرك "عليهم السلام" , إلّا أنَّ مشيئتك هي التي نطقت فيهم وليس لهم مشيئة في عرض مشيئتك وإنّما في طولها فحسب. فهذه العبارة (لا فَرْقَ بينَكَ وبينَهَا إلَّا أنَّهم عبادُكَ وخلقُكَ) أشبه ما يكون بكلمة التوحيد التي أوّلها كفر؛ لأنّها تنفي الألوهيّة ، وآخرها كمال الإيمان ؛ لأنّها تثبت الألوهيّة لله تعالى فقط ، فكذا العبارة المذكورة فهي تبدأ بنفي الفرق بينه تعالى وبينهم "عليهم السلام" ، إلّا أنّها تُختَم ببيان تمام الفرق بين الخالق والمخلوق وبين القدم والحدوث وبين الكمال المطلق الثابت لله تعالى والكمال النسبيّ الثابت لهم ، وقد مهّد لهذه الجملة الشريفة بقوله: (بما نطق فيهم من مشيئتك)، فإنّ فيها إشارة لقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:82] ودلالة واضحة على أنّهم مع ما لهم من الكمال فهم من صنعك ومن موارد إعمال قدرتك والله العالم.[التقليد والعقائد للسيّد الروحانيّ: ص433 وما بعدها بتصرّف].
المعنى الرابع: ما ذكره السيّد الخوئيّ "قدّس سرّه" في معناها إذْ قال: ((لعلّها تشير إلى أنّهم مع بلوغهم في مرتبة الكمال إلى حدِّ نفوذ التصرّف منهم في الكون بإذنك، فهم مقهورون لك، لأنّهم مربوبون لك، لا حيلة لهم دون إرادتك ومشيَّتك فيهم بما تشاء، والله العالم))[صراط النجاة بتعليقة الميرزا التبريزيّ: ج3 ص 317] ، أي أنّها تشير إلى الولاية التكونيّة لهم "عليهم السلام" وأنّ لهم التصرّف في الكون. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ }[التوبة:74] فحيث إنّهم عليهم السّلام لم يكن لهم إرادة ومشيئة مستقلّة في قبال إرادة الله ومشيئته، بل كانت قلوبهم أوعية لمشيته تعالى، فحينئذ كما يصح استناد فعلهم إليه تعالى، كذلك يصحّ استناد فعله تعالى إليهم، إذ بعدما علم أنّهم لم يفعلوا إلّا ما شاء بنحو كان هذا أصلا في أفعالهم ، فحينئذ في مقام التعبير لا يفرق الفعل في الاستناد إليهم أو إليه تعالى ، تماماّ كما يُنسَب توفّي الأنفس تارة إلى ملك الموت: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ...}[السجدة:11] ، وأخرى إلى الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[الزمر:42] فكذلك حينما يُنسب الإغناء تارة إلى الرسول وأخرى إليه سبحانه، على أنّ جميع ما ذكر من العينيّة لا يخرجهم عن حدّ كونهم مخلوقين ومربوبين. [الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة للشيخ جواد عبّاس الكربلائيّ:ج3،ص117].
المعنى الخامس والأخير: ما ذكره بعض الأكابر من أنّ المقطع المذكور لا علاقة له بأهل البيت "عليهم السلام" ، لأنّ الضمير في (بينها) يرجع إلى (معاني أسمائه الحسنى) المذكورة في أوّل الدعاء عند قوله "عليه السلام": (أسألك بمعاني جميع ما يدعوكَ به ولاةُ أمرِكَ) ، والمعنى: "أسألك بجميع معاني أسمائك الحسنى وصفاتك التي هي كلّها هي عين ذاتك فلا فرق بينها وبينك يا ربِّ" ؛ إذ لو كان هنالك فرقٌ لكان كلّ اسم له إلهاً بحدِّ ذاته , فتتعدَّدُ الآلهة بتعدّدِ المعاني والصفاتِ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. [التقليد والعقائد للسيّد الروحانيّ: ص433 (بتصرّف يسير)].
3- وأمّا من حيث الدلالة: فمن خلال جميع ما تقدّم تتجلّى هنا فائدتان:
الفائدة الأولى: هي عدم دلالة العبارة محلّ البحث على التفويض، وذلك لأنّ المقطع المذكور لا يدلّ على التفويض مطلقاً؛ لأنّ قوله "عليه السّلام": {فتقها ورتقها بيدك} ينفي توهّم ذلك؛ لدلالته على أنّ كلّ ما يكون لهم "عليهم السلام" من الشؤون والمقامات إنّما هو عطاء ربوبيٌّ لا يُخرِجُ الله عن سلطانه ولا يعزِله عن ملكه، وأنّ فتق ذلك ورتقه كلّه بيده تعالى". [ينظر: فقه الشيعة: تقرير بحث السيّد الخوئيّ بقلم السيّد محمّد مهديّ الخلخاليّ:ج٣، ص132، الهامش رقم2].
الفائدة الثانية: أن لا دلالة في العبارة المذكورة أيضاً على مسألة وحدة الوجود بأيّ معنى من المعاني المتقدّمة، إذِ اتّضح لك من جميع ما تقدّم أنّ عدم الفرق المذكور في الدعاء إمّا أنْ يكون في مقام الأفعال والولاية التكونيّة، وإمّا أنْ يكون في مجال الحقوق كحقّ الطاعة ونحوه، وليس في العبارة دلالة على عدم الفرق بين ذاته تعالى وذواتهم "عليهم السلام" حتّى يستفاد منها وحدة الوجود. هذا مضافاً إلى أنّ القائل بالوحدة المذكورة إنّما أراد بها الوحدة بين الخالق ومطلق المخلوق، لا بينه تعالى وبين خصوص الأئمّة "عليهم السلام"، وعليه فإنّ النصّ المذكور لا يناسب مراده قطعاً. هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره .. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق