ما معنى قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم}؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اعلم أنّ قول الله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} قد ورد في ضمن الآية الثالثة من سورة المائدة، وتمام الآية الكريمة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة: 3].

ولا يخفى أنّ صدر الآية الكريمة يدلّ على تحريم عدّة أمور كالميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها، في حين أنّ ذيلها يدلُّ على حِلّيّتها عند الاضطرار، فكلٌّ من الصدر والذيل مرتبطان ببعضهما بعضاً، ويشكّلان وحدة دلاليّة واحدة متناسقة، نظير قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة البقرة: 173]، فيكون قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ - إلى قوله: - وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} كلاماً معترضاً أُقحم في الآية، ولا تتوقّف دلالة إحداهما على الأخرى، فمجموع الآية تدلّ على أمرين، أحدهما: محرّمات الطعام، وذلك في الصدر والذيل، والآخر: كمال الدين ويئس الكفّار، وذلك في وسط الآية. ويؤيّد ذلك: أنّ أغلب الروايات الواردة في نزول الآية تدلّ على أنّ قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ - إلى قوله: - الْإِسْلَامَ دِينًا} نزل بصورة مستقلّة عن نزول صدرها وذيلها، وإنّما وُضِعَ في وسط هذه الآية لحِكَمٍ معيّنة من الله تعالى أو بأمره أو بأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ كما وُضعت آية التطهير في وسط الآيات الموجّهة لنساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

ثـمّ إنّ قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وإنْ كان مركّباً من جملتين، تدلّ الأولى على ظهور هذا الدين على الشرك وأمنه من كيدهم فلا خوف عليه من الأعداء، وتدلّ الأخرى على كمال الدين وتمام النعمة، إلّا أنّ مضمون كلتا الجملتين يرتبط أحدهما بالآخر.

وقد وقع كلامٌ عند العلماء والمفسّرين في المراد من كلمة {الْيَوْمَ}، فقيل: هو زمان بعثة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وقيل: المراد به ما بعد فتح مكّة، وقيل: المراد به يوم عرفة من حجّة الوداع، وهذا القول ذكره كثيرٌ من المفسّرين. ولكنّ جميع هذه الأقوال غير صحيحة؛ لأنّ الآية تقتضي كمال الدين ويئس الكفّار من الطمع بالمكر فيه، في حين أنّ زمان البعثة لَـم يكن للمسلمين دينٌ حتّى يطمع به الكفّار، وبعد فتح مكّة لم يكن الدين قد اكتمل ولا يئس الكفّار منه، وكذلك يوم عرفة من حجّة الوداع.

والمناسب لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أن يكون الحكم الذي أنزله الله تعالى له أهميّة عظيمة بحيث يكون به كمال هذا الدين، وبه تتمّ النعمة العظيمة، وبنزوله قد رضي الله تعالى أن يكون الإسلام ديناً ومنهاجاً خالداً إلى يوم القيامة، وبه يكون قد حصل اليأس عند الكفّار من الطمع في الكيد بالدين، وبه قد رفع الله الخوف والحذر على الدين من قلوب المؤمنين.

ومن المعلوم أنّ الكفّار قد توسّلوا بجميع الوسائل لزعزعة الدين وإطفاء نور الله تعالى، وقد عاش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثلاثاً وعشرين سنة يكابد المحن ويكافح أعداء الدين ويجاهد مع المنافقين، حتّى نما الإسلام وقويت شوكته ودخل المشركون في هذا الدين، وانمحت آثار الشرك من الجزيرة، إلّا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وإنْ أَمِنَ من كيدهم في حياته، ولكنّه لَـم يأمن منهم بعد رحيله وغيابه، وكان من أهمّ ما يمنّي أعداء الدين أنفسهم هو الانقضاض على هذه الشجرة الطيّبة بعد رحيله (صلّى الله عليه وآله)، ولهذا كان يقول بعض المنافقين: إنّ هذا النبيّ أبتر لا عقب له يحفظ دينه بعد موته، وسيموت اسمه ويندثر دينه بموته، فكان يُعـدّ هذا الأمر من أهمّ ما كان يساور رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وبعبارة أخرى: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نشر الدين الإسلاميّ بين الناس، وقد عمّت جزيرة العرب شمس الإسلام، فعلى يده المباركة كانت بدء الدعوة، ومن الطبيعيّ أنّ هذا الدين يحتاج إلى قيّم يحفظه ويقيمه، إذ من دون وجود القيّم سيكون مصيره إلى الزوال والفناء، فالدين كان بدء نشره على يده الشريفة، فلا بدّ له من حافظٍ يبقيه. وكانت أمنية الكفّار المتربّصين بالإسلام هو الإجهاز على الإسلام والمسلمين بعد رحيل خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله)؛ لعدم وجود حافظٍ يخلفه بحفظ الدين وصيانته ورعايته، وقد كان هذا من أعظم المخاوف التي تساور النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

فلا بدّ من وجود تشريع إلهيّ يسدّ هذه الفجوة، ويزيل هذا النقص، ليثبت دعائم هذا الدين إلى الأبد، ولأنّ هذا الدين أبديّ إذْ لا دين بعده، فيكون لهذا التشريع من المميّزات ما يفوق به على أيّ تشريع آخر؛ إذْ هذا التشريع هو الضمان الذي يحفظ به الدين عن الاندثار، ويكون علّة لبقاء الدين مدى الدهر، فمن دون هذا التشريع الخطير سيكون مصير الدين هو الزوال والاضمحلال، وقد صدر التهديد الإلهيّ أنّه لو لَـم تبلِّغ هذا التشريع كأنّك لَـم تبلّغ رسالته أصلاً - باعتباره الحافظ للرسالة -، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.

ويُعلَم من ذلك: أنّ المراد بـ {الْيَوْمَ} هو ذلك المقطع الخاصّ من الزمان الذي شرّع فيه هذا الحكم الإلهيّ العظيم، وهو يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، فإنّ في هذا اليوم نصّب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أميرَ المؤمنين (عليه السلام) خليفةً من بعده، وأعلنه إماماً قائماً من ورائه، ومن بعده أولاده الطاهرين، وقد ورد في الروايات الشريفة: أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خمّ في أمر ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّ الكفّار قد كانوا يطمعون بالإسلام بعد رحيل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فلـمّا رأوا أنّه نصّب الحافظ لدينه والقيّم عليه من بعده، حصل عندهم اليأس منه.

[ينظر تفسير الميزان ج5 ص174، تفسير مواهب الرحمن ج10 ص340، تفسير الأمثل ج3 ص594، وغيرها].

قال عليّ بن إبراهيم القميّ: (وقوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، قال: ذلك لـمّا نزلت ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). وأمّا قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فإنّه حدّثني أبي، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: « آخر فريضة أنزلها الله الولاية، ثمّ لم ينزل بعدها فريضة، ثمّ أنزل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بكراع الغنم، فأقامها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالجحفة، فلم ينزل بعدها فريضة) [تفسير القمّيّ ج1 ص162].

وذكر ابن شهر آشوب: (السدّيّ: لم ينزل الله بعد هذه الآية ـ يعني آية إكمال الدين ـ حلالاً ولا حراماً، وحجّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ذي الحجّة ومحرّم وقبض، وروى: أنّه لـمّا نزل {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ} أمره الله تعالى أن ينادي بولاية عليّ، فضاق النبيّ بذلك ذرعاً لمعرفته بفساد قلوبهم، فأنزل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}، ثمّ نزل: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}، ثمّ نزل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وفي هذه الآية خمس بشارات: إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرّحمان، وإهانة الشيطان، وبأس الجاحدين، قوله تعالى : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}، في الخبر: الغدير عيد الله الأكبر) [مناقب آل أبي طالب ج2 ص226].

وقال السيّد ابن طاووس: (وقال مصنّف كتاب النشر والطيّ: قال أبو سعيد الخدريّ: فلم ننصرف حتّى نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الحمد لله على كمال الدين وتمام النقمة ورضا الربّ برسالتي وولاية عليّ بن أبي طالب، ونزلت: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}. قال صاحب الكتاب: فقال الصّادق (عليه السلام): يئس الكفرة وطمع الظلمة » [إقبال الأعمال ج2 ص248].

وأمّـا الأخبار الواردة في نزول فقرة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} في يوم الغدير، فهي كثيرة في مصادر الفريقين، وتقدّمت الإشارة لبعضها، ونزيد هاهنا روايتين من مصادر المخالفين:

روى الخطيب وابن عساكر والحسكانيّ وغيرهم عن أبي هريرة قال: « مَن صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجّة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خمّ، لـمّا أخذ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بيد عليّ بن أبي طالب فقال: ألست وليّ المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه، فقال عمر بن الخطّاب: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب، أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مسلم، فأنزل الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} » [تاريخ بغداد ج8 ص284، تاريخ دمشق ج42 ص233، شواهد التنزيل ج1 ص200].

وروى الخوارزميّ والحسكانيّ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: « أنّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) دعا الناس في غدير خم، وأمر بما تحت الشجرة من شوك فقمّ، كان ذلك يوم الخميس، فدعا عليّاً فأخذ بضبعيه، فرفعها حتّى نظر الناس لبياض إبطي رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، فقال: مَن كنت مولاه فعليّ مولاه، ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، فقال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي، وبالولاية لعليّ بن أبي طالب » [المناقب ص135، شواهد التنزيل ج1 ص202، مناقب عليّ ص231].