ادّعاء القرآنيّين بعدم وجود تهديدٍ أو وعيد أو كفّارةٍ لمن يفطر عمداً في رمضان وهو قادر على الصيام؟
السؤال: يقول بعض القرآنيّين ليس في كتاب الله أيّ نوع من التهديد أو الوعيد ولا حتّى كفّارة لمن يفطر عمداً في رمضان وهو قادر على الصيام، فشهر الصيام بالأساس موسم ربّانيّ لكسب مزيد من الامتيازات في الدنيا والآخرة، وليس تكليفاً يستوجب العقاب والعذاب في حالة عدم الاستجابة، وقوله تعالي: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) يشير إلى أنّ الهدف الأوّل للقادرين على الصيام هو الفدية (إطعام مسكين)، والذين لا يقدرون على الفدية عليهم الصيام حتّى لا يخرجوا من هذا الموسم بلا حصاد.
الإجابة:
أوّلاً: الادّعاء بأنّ القرآن لم ينصّ على أيّ عقوبة لتارك الصيام عمداً..، مبنيٌّ على فرضيّة باطلة وهي: أنّ كلّ مخالفة للتشريع لا بدّ أن يُنصّ على عقوبتها بشكّل مباشر وصريح، وهذه القاعدة التي تمّ البناء عليها ليست صحيحة لا بمنطق القرآن ولا بمنطق القوانين الوضعيّة، ففي القوانين الوضعيّة هناك كلّيّات عامّة تشكّل مرجعيّات للقاضي، فلو افترضنا أنّ هناك جرماً لم ينصَّ القانون على عقوبة خاصّة به فإنّ القاضي يقوم بإرجاع هذا الجرم إلى ما يناسبه من الكلّيّات، ولذا يقال: إنّ هذا الجرم يوضع تحت المادة كذا...
أمّا بالنسبة للتشريعات الإلهيّة، فهناك أحكام لها علاقة بالمعاملات، وأحكام لها علاقة بالعبادات، وأحكام العبادات لا يترتّب على تركها عقوبة دنيويّة إذا لم تصل إلى حدّ الردّة عن الدين، فالشارع لم ينصّ على عقوبات دنيويّة لتارك الصلاة أو الصوم أو الحجّ، وأَخّـرَ المحاسبة والعقاب عليها إلى يوم القيامة، وقد حدّدت الآيات نوع العقوبة أو الثواب على أساس عنوان (الطاعة وعنوان المعصية)، فوعدت الآيات بالثواب للمطيع والعقاب للعاصي، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69]، وقوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر: 13]..
وعلى ذلك تكون طاعة الله أو معصيته هي القاعدة الكلّيّة التي يكون عليها الجزاء والعقاب يوم القيامة، فليس هناك حاجة لتحديد نوع العقوبة لكلّ مخالفة للتكليف، وعليه لا يقال إذا لم يرد نصٌّ في القرآن على تحديد نوع العقوبة يكون الإنسان مخيّراً في الالتزام بالتكليف أو عدم الالتزام.
ثانياً: أمّا قوله "إنّ شهر الصيام موسم ربّاني لكسب مزيد من الامتيازات وليس تكليفاً يستوجب العقاب" فهو أيضاً يبني شيء على شيء ليس بينهما علاقة، فكون التشريع له امتيازات في الدنيا والآخرة لا يعني أبداً أنّ تركه لا يستلزم العقوبة، فجميع التشريعات والقوانين توضع لأهداف وغايات هي في الواقع الامتياز الذي يسعى التشريع أو القانون لتحقيقه، وصاحب السلطة التشريعيّة لا بدّ أن يضع عقوبة للمخالف حتّى يضمن تحقيق هذا الامتياز، وهو ما عليه عمل العقلاء دائماً ...
فإذا ثبت وصف الصيام في شهر رمضان بالتكليف ثبت بالضرورة العقاب على من ترك صومه عمداً، فكلّ تكليف له أثر إيجابيّ لمن يؤدّيه وأثر سلبيّ لمن يتركه، أي أنّ كلّ تكليف له جانبان إذا صحّت العبارة، الأوّل: الفائدة التي يجنيها من يقوم بالتكليف. والثاني: العقوبة التي يتوّعد بها المشرّع لمن يخالف التكليف، وكلا الأمرين من اللوازم الضروريّة لأيّ تكليف، وعليه متى ما ثبت التكليف من (المشرّع العاقل) ثبتت العقوبة على المخالف، وبذلك يتّضح لنا التناقض عندما قال (ليس تكليفاً يستوجب العقوبة)، فالتكليف الذي لا يستوجب العقوبة للمخالف لا يُسمّى تكليفاً وإنّما يُسمّى (إرشاداً).
ثالثاً: قوله: "(وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) يشير إلى أنّ الهدف الأوّل للقادرين على الصيام هو الفدية (إطعام مسكين)، والذين لا يقدرون على الفدية عليهم الصيام حتّى لا يخرجوا من هذا الموسم بلا حصاد"؟
ولكي يصحّ هذا الكلام ويستقيم لا بدّ أن يكون الصيام تكليفاً ثانويّاً وليس تكليفاً أوّليّاً، وتكون الفدية تكليفاً أوّليّاً وليست تكليفاً ثانويّاً، أي أنّ الشارع أوجب على المكلّف في شهر رمضان فدية إطعام مسكين، وفي حال عدم تمكّنه من ذلك يجب عليه الصيام، وعلى هذا لا يكون الصيام في شهر رمضان مقصود بالذات وإنّما مقصود بالعرض والتبع.
ومن المعلوم بالضرورة إذا أراد المشرّع (أي مشرع كان) أن يشرّع حكماً ما، فلا بدّ أن يبني الحكم على الطبيعة الأوّليّة للموضوع، ومن ثمّ يرتّب حكماً آخر بديلاً في حال استحالت تلك الطبيعة الأوّليّة، فمثلاً في الحالة الطبيعيّة للإنسان فإنّ الشارع حرّم عليه أكل لحم الميتة، ولكن إذا تبدّلت تلك الحالة الطبيعيّة وأصبح الإنسان مشرفاً على الهلاك أجاز له الشارع الأكل بمقدار ما ينقذ حياته، وعليه تأتي الأحكام الثانويّة كاستثناءات، فالمشرّع يبدأ بالحكم الأوّليّ ومن ثمّ يراعي مختلف الظروف التي تطرأ على الموضوع، هذا هو التدرّج الطبيعيّ والمنطقيّ لأيّ مشرّع عاقل ....
وهذا ما نراه في تشريع الصيام؛ إذْ بدأت الآيات ببيان حكم الصيام بوصفه الحكم الأوّليّ، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ولو صحّ كلام القرآنيّين كان من المفترض أن يقول: (يا أيها الذين آمنوا كتبت عليكم الفدية..)؛ لأنّ الصيام بحسب زعمهم حكماً ثانويّاً والحكم الأوّلي هو الفدية.
وعليه فإنّ الشارع كتب علينا الصيام أوّلاً، ومن ثمّ راعى بعض الظروف التي تمنع من ذلك، فإن كانت الظروف عارضة مثل السفر أو المرض العارض فإنّ الشارع وضع لنا حكماً ثانويّاً هو القضاء، وإذا كان المانع دائماً ومستمرّاً فإنّ الشارع وضع لنا حكماً ثانويّاً آخر وهو فدية إطعام مسكين.
وقد وضع الشارع الموانع الدائمة التي تمنع من الصيام تحدت قاعدة واحدة وهي (الذين يطيقونه).. والإطاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقّة، فأوجب الله على هذه الصنف (الفدية)، وعليه يكون الهدف الأوّل هو (الصيام)، ولأنّه هدف فلا بدّ منه، ولذا لم يسمح للمريض أو المسافر بالإفطار إلّا بعد أن أوجب عليهم قضاء الصيام في وقت لاحق عندما يرتفع المرض والسفر.. أمّا مَنْ عنده مانع دائم من الصيام فلم يسمح له أيضاً بالإفطار إلّا بعد أن يدفع فدية عن الصيام الذي فاته ...والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق