هل زُرارةُ بنُ أعين كانَ يقولُ بالتفويض ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : في بادئِ الأمرِ لابُدَّ أن نعرفَ ما هوَ التفويضُ، وما هوَ اعتقادُ الإماميّةِ فيه. وجوابُنا عن هذا الأمرِ الخطيرِ يكونُ بالاستنادِ إلى ما أوردَه الشيخُ الصّدوقُ - رحمَه اللَّه - في كتابِه : الاعتقاداتُ، الذي درجَ عليهِ علماؤنا مِن بعدِه، إذ يقولُ (ره): (109-110): اعتقادُنا في الغُلاةِ والمفوّضةِ أنّهم كفّارٌ باللَّه - جلَّ جلالهُ - وأنّهم أشرُّ منَ اليهودِ والنّصارى والمجوس ، والقدريّةِ والحروريّة ، ومِن جميعِ أهلِ البدعِ والأهواءِ المُضلّةِ ، وأنّهُ ما صغَّرَ اللَّهَ جلَّ جلالهُ تصغيرَهم شيءٌ ، وقالَ اللّهُ تعالى : « مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالحُكمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِمَا كُنتُم تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُم تَدرُسُونَ * وَلَا يَأمُرَكُم أَن تَتَّخِذُوا المَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَربَاباً أَيَأمُرُكُم بِالكُفرِ بَعدَ إِذ أَنتُم مُسلِمُونَ »، وقالَ عزَّ وجل : « يَا أَهلَ الكِتَابِ لَا تَغلُوا فِي دِينِكُم وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ ». ثمَّ أضافَ الشيخُ الصدوقُ قائِلاً : « وكانَ الرّضا ( عليُّ بنُ موسى ) عليهِ السلام يقولُ في دعائِه : « اللهمَّ إنّي أبرأ إليكَ منَ الحولِ والقوّةِ ، فلا حولَ ولا قوّةَ إلّا بك . اللّهمَّ إنّي أبرأُ إليكَ منَ الذينَ ادّعوا لنا ما ليسَ لنا بحق . اللّهمَّ إنّي أبرأُ إليكَ منَ الذينَ قالوا فينا ما لم نقُله في أنفسِنا . اللّهمَّ لكَ الخلقُ ومِنكَ الأمرُ وإيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين اللّهمّ أنتَ خالقُنا وخالقُ آبائِنا الأوّلينَ وآبائِنا الآخرينَ اللّهمَّ لا تليقُ الربوبيّةُ إلّا بك ، ولا تصلحُ الإلوهيّةُ إلّا لك ، فَالعَن النصارى الذينَ صغّروا عظمتَك ، والعَن المُضاهئينَ لقولِهم مِن بريّتِك ، اللّهمّ إنّا عبيدُك وأبناءُ عبيدِك لا نملكُ لأنفسِنا نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، اللّهمَّ مَن زعمَ أنّا أربابٌ فنحنُ منه براء ، ومَن زعمَ أنَّ إلينا الخلقَ وعلينا [ أو إلينا ] الرّزقَ فنحنُ براءٌ منهُ كبراءةِ عيسى بنِ مريم عليهِ السلام منَ النّصارى ، اللّهمَّ إنّا لم ندعُهم إلى ما يزعمونَ فلا تؤاخذنا بما يقولون ، واغفِر لنا ما يدّعونَ ولا تدَع منهُم على الأرضِ ديّاراً ، إنّك إن تذرهُم يضلُّوا عبادَك ولا يلدونَ إلّا فاجِراً كفّاراً ». ورويَ عن زُرارة أنّه قالَ : قلتُ للصّادقِ [ جعفرٍ بنِ محمّد ] عليهِ السلام : إنّ رجلًا يقولُ بالتفويضِ ، قالَ : « وما التفويضُ ؟ » قلتُ : يقولُ : إنّ اللَّهَ تباركَ وتعالى خلقَ محمّداً وعليّاً صلواتُ اللَّهِ عليهما ففوّضَ [ ثمَّ فوّضَ ] الأمرَ إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا ! ! فقالَ عليهِ السلام : « كذبَ عدوّ اللَّه ، إذا انصرفتَ إليهِ فاتلُ عليهِ هذهِ الآيةَ التي في سورةِ الرّعد : « أَم جَعَلُوا للَّهِ شركاء خلقوا كَخَلقِهِ فَتَشابَهَ الخَلقُ عَلَيهِم قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القهار. يقول زُرارة : فانصرفتُ إلى الرجلِ فأخبرتُه بكلِّ شيءٍ فكأنَّه أُلقمَ حجراً . وقالَ الشيخُ المُفيد - رحمَه اللَّه - في كتابِه « تصحيحُ الاعتقادِ » (63-66) في شرحِ كلامِ الصّدوقِ المُتقدّم : الغلوّ في اللغةِ هوَ تجاوزُ الحدِّ والخروجُ عن القصدِ، قالَ اللَّهُ تعالى : « يَا أَهلَ الكِتَابِ لَا تَغلُوا فِي دِينِكُم وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ »، فمنعَ عن تجاوزِ الحدِّ في المسيحِ وحذّرَ منَ الخروجِ منَ القصدِ في القول ، وجعلَ ما ادّعَته النّصارى غلوّاً لتعدّيهِ الحقَّ على ما بيّنّاهُ ، والغُلاةُ منَ المُتظاهرينَ بالإسلام ، هُم الذينَ نسبوا أميرَ المؤمنين [ عليّاً ] والأئمّةَ مِن ذُرّيّتِه إلى الإلهيّةِ والنبوّةِ ووصفوهم بالفضلِ في الدينِ والدّنيا إلى ما تجاوزوا فيهِ الحدَّ وخرجوا منَ القصد ، وهُم ضُلّالٌ كُفّار، حكمَ فيهم أميرُ المؤمنينَ بالقتلِ والتحريقِ بالنّار ، وقضَت الأئمّةُ عليهم بالإكفارِ والخروجِ عن الإسلام . والمفوّضةُ صنفٌ منَ الغُلاة ، وقولُهم الذي فارقوا بهِ مَن سِواهم منَ الغُلاة : اعترافُهم بحدوثِ الأئمّةِ ، وخلقِهم ، ونفي القِدمِ عنهم ، وإضافةِ الخلقِ والرّزقِ معَ ذلكَ إليهم ودعواهم أنّ اللَّه تعالى تفرّدَ بخلقِهم خاصّةً ، وأنّه فوّضَ إليهم خلقَ العالمِ بما فيهِ وجميعَ الأفعال » . ثمَّ قالَ الشيخُ المُفيد رحمَه اللَّه : ويكفي في علامةِ الغلوّ نفيُ القائلِ به عن الأئمّةِ : سماتَ الحدوثِ ، وحكمُه لهم بالإلهيّةِ والقِدمِ ، إذ قالوا بما يقتضي ذلكَ مِن خلقِ أعيانِ الأجسامِ واختراعِ الجواهر .ثمَّ إنَّ المجلسيَّ - رحمَه اللَّه - نفسُه قالَ في بحارِ الأنوار (ج25/ص320-350) في شرحِ معاني التفويضِ ما نصُّه : وأمّا التفويضُ فيُطلَقُ على معانٍ بعضُها منفيٌّ وبعضُها مُثبَتٌ : فالأوّلُ : التفويضُ في الخلقِ والرّزقِ والتربيةِ ، والإماتةِ والإحياءِ ، فإنّ قوماً قالوا : إنَّ اللَّهَ تعالى خلقَهم [ أي الأئمّة ] وفوّضَ إليهم أمرَ الخلقِ فهُم يخلقونَ ويرزقونَ ويميتونَ ويُحيون . وهذا الكلامُ يحتملُ وجهين:أحدُهما : أن يُقالَ : أنّهم يفعلونَ جميعَ ذلكَ بقُدرتِهم وإرادتِهم ، وهُم الفاعلونَ حقيقةً ، وهذا كُفرٌ صريحٌ دلّت على استحالتِه الأدلّةُ العقليّةُ والنقليّة ، ولا يستريبُ عاقلٌ في كُفرِ مَن قالَ به. وثانيهما : أنّ اللَّهَ يفعلُ ذلك [ الخلقُ والرزقُ إلى آخرِه ] مُقارناً لإرادتِهم كشقِّ القمرِ وإحياءِ الموتى وقلبِ العصا حيّةً وغيرِ ذلكَ منَ المُعجزات ، فإنَّ جميعَ ذلكَ إنّما يحصلُ بقُدرتِه تعالى مُقارناً لإرادتِهم لظهورِ [ أي لأجلِ إثباتِ وإظهارِ ] صدقِهم ، فلا يأبى العقلُ عن أن يكونَ اللَّهُ خلقَهم وأكملَهم وألهمَهم ما يصلحُ في نظامِ العالمِ ثمّ خلقَ كلَّ شيءٍ مُقارِناً لإرادتِهم ومشيئتِهم . ثمَّ قالَ : وهذا الوجهُ وإن كانَ العقلُ لا يعارضُه كِفاحاً ، لكنَّ الأخبارَ السالفةَ تمنعُ منَ القولِ به في ما عدا المُعجزاتِ ظاهراً ، بل صراحةً ، معَ أنّ القولَ به قولٌ بما لا يعلم ، إذ لم يُروَ ذلكَ في الأخبارِ المُعتبرةِ في ما نعلم . ثمَّ قالَ في معرضِ تفسيرِه لقولِ اللَّه « قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَيءٍ »: يدلُّ هذا على عدمِ جوازِ نسبةِ الخلقِ إلى الأنبياءِ والأئمّةِ ، وكذا قوله : « هَل مِن شُرَكَائِكُم مَن يَفعَلُ مِن ذَلِكُم مِن شَيءٍ »، فإنّه يدلُّ على عدمِ جوازِ نسبةِ الخلقِ ، والرزقِ والإماتةِ والإحياءِ إلى غيرِه سُبحانهَ وإنّه شركٌ . ثمَّ قالَ ودلالةُ تلكَ الآياتِ على نفي الغلوِّ والتفويضِ بالمعاني المذكورةِ ظاهرةٌ، والآياتُ الدالّةُ على ذلكَ أكثرُ مِن أن تُحصى ، إذ جميعُ آياتِ الخلقِ ودلائلِ التوحيدِ والآياتِ الواردةِ في كُفرِ النّصارى وبطلانِ مذهبِهم دالّةٌ عليهم ( أي على المفوّضةِ ).[ينظر: مفاهيمُ القرآن، ج ١، الشيخُ السّبحاني، ص ٤٧٤]. ومِن هذهِ النصوصِ نلاحظُ ما يلي: 1- أنَّ زُرارةَ كانَ يعرفُ معنى التفويضِ والأحكامِ المُترتّبةِ عليه، مِن خلالِ المحاورةِ التي جرَت بينَه وبينَ الإمامِ الصّادقِ (ع)، وذلكَ حينَ قالَ : قلتُ للصّادقِ [ جعفرٍ بنِ محمّد ] عليهِ السلام : إنَّ رجُلاً يقولُ بالتفويضِ ، قالَ : « وما التفويضُ ؟ » قلتُ : يقولُ : إنَّ اللَّهَ تباركَ وتعالى خلقَ مُحمّداً وعليّاً...إلخ. وعليهِ: فمِنَ المُستعبدِ جدّاً أن يذهبَ إلى التفويضِ معَ جلالةِ قدرِه وعلمِه ومعرفةِ أمورِ دينِه خصوصاً معَ قولِ الإمامِ الصّادقِ (ع) في حقِّ ذلكَ الرجلِ الذي كانَ يذهبُ إلى التفويض: « كذبَ عدوّ اللَّه ، إذا انصرفتَ إليهِ فاتلُ عليهِ هذهِ الآيةَ التي في سورةِ الرّعد : « أَم جَعَلُوا للَّهِ شركاء خلقوا كَخَلقِهِ فَتَشابَهَ الخَلقُ عَلَيهِم قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القهار. يقولُ زُرارة : فانصرفتُ إلى الرجلِ فأخبرتُه بكلِّ شيءٍ فكأنّهُ أُلقمَ حجراً . 2- لقد ثبتَ في ترجمةِ زُرارة مِن خلالِ طائفةٍ منَ الرواياتِ الصّحيحةِ المُستفيضةِ في مدحِه التي بيّنَت أنّه كانَ أوثقَ أصحابِ الباقرِ وأصحابِ الصّادقِ (عليهما السّلام) وأفقهَهم. وثبتَ في الوقتِ نفسِه أنّ الإمامَ الصّادقَ (ع) كانَ يُعيبُ زرارة؛ لا لبيانِ أمرٍ واقعٍ ، بل شفقةً عليهِ واهتماماً بشأنِه كما في صحيحةِ عبدِ اللهِ بنِ زُرارة. [ينظر: معجمُ رجالِ الحديث، ج ٨، السيّدُ الخوئي، ص ٢٥٣]. ومِن هُنا: لو فرضَ أنّ بعضَ الرواةِ نقلَ عن زرارةَ أنّه يقولُ بالتفويض، فتوجيهُ ذلكَ بأن نقولَ أنّ تكليفَ الإمامِ المعصومِ (ع) يكونُ بردِّ مقالةِ التفويضِ المُنكَرةِ التي يجيءُ بها الراوي عن زُرارة، ويتبرّأ منِها، وهذا لا يعني أنَّ تلكَ المقالةُ قد صدرَت حقّاً مِن زُرارة ، وإنّما قولُ الإمامِ (ع) مبنيٌّ على افتراضِ وجودِ مثلِ هذهِ المقالة، خصوصاً أنّ زرارةَ قد نقلَ عنهُ بعضُ الرواةِ أموراً لم يقبَلها الإمامُ (ع) مِن قبيلِ القولِ بالاستطاعةِ وغيرِها، فكانَ المعصومُ (ع) يردُّ تلكَ المقالات، ويؤيّدُ هذا التوجيهَ ما وردَ آنفاً عن حمزةَ بنِ حمران بنِ أعين ، قالَ : قلتُ لأبي عبدِ اللهِ عليهِ السلام : بلغني أنّكَ برئتَ مِن عمّي يعني زُرارة قالَ : فقالَ : أنا لم أتبرّأ مِن زُرارة ، لكنّهم يجيئونَ ويذكرونَ ويروونَ عنه ، فلو سكتُّ عنهُ ألزمونيه فأقولُ : مَن قالَ هذا فأنا إلى اللهِ منهُ بريءٌ. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق