ما المرادُ مِن لا جبرَ ولا تفويض؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : لا جبرَ ولا تفويضَ أو (الأمرُ بينَ الأمرين) هيَ ما يعتقدُه الشيعةُ في قبالِ الحنابلةِ القائلينَ بالجبرِ وفي قبالِ المُعتزلةِ القائلينَ بالتفويض، أي أنَّ الإنسانَ له القدرةُ على الفعلِ والتركِ وليسَ مجبوراً في أفعالِه الاختياريّة، وفي نفسِ الوقتِ لا يملكُ تلكَ القدرةَ والاستطاعةَ بذاتِه ومِن ذاتِه وإنّما هيَ عطاءٌ منَ اللهِ يفيضُه على الإنسانِ لحظةً بلحظةٍ وثانيةً بثانية، قالَ تعالى: ﴿وَاللهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكُم لا تَعلَمُونَ شَيئاً﴾، وقالَ: ﴿وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَي لا يَعلَمَ بَعدَ عِلمٍ شَيئاً﴾، وقالَ: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعدِ ضَعفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعدِ قُوَّةٍ ضَعفاً وَشَيبَةً﴾. فالإعطاءُ بعدَ الفقدانِ والحرمانُ بعدَ العطاء، لأعظمُ دليلٍ على أنَّ الإنسانَ ليسَ مالكاً بذاتِه لهذهِ الكمالات، وإنّما مالكٌ بتمليكِ الله، واللهُ لِما ملَّكَه أملَك، فالإنسانُ فقيرٌ إلى اللهِ وفي حاجةٍ لهُ دائماً، ولولا دوامُ هذا الفضلِ لكانَ نسياً منسيّاً، قالَ تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾. ولو تنبّهَ الإنسانُ لحقيقةِ أمرِه، لوجدَ- أيضاً- أنّهُ لولا عونِ اللهِ وهدايتِه وترغيبِه في الحسناتِ وتحذيرِه منَ السيّئاتِ، وإرسالِ الرسلِ وتمهيدِ الطريقِ للإنسان، لما حصلَ له الإيمانُ والعملُ الصالحُ، ومِن هُنا لو فعلَ العبدُ الحسناتِ فنسبتُها للهِ أولى لكونِه هوَ الذي أقدرَه على فعلِها ورغّبهُ فيها وهداهُ إليها، وفي المقابلِ يكونُ العبدُ أولى بالسيّئاتِ بعدَ أن نهاهُ اللهُ عنها وحذّرَه منَ العذابِ إن هوَ فعلها، قالَ تعالى: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم وَكَرَّهَ إِلَيكُمُ الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ)، وفي الروايةِ عن أبي الحسنِ (عليهِ السلام) قالَ: قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: (ابنَ آدم، بمشيئتِي كُنتَ أنتَ الذي تشاءُ وتقول، وبقوَّتي أدّيتَ إليَّ فرائضي، وبنعمتي قَوِيتَ على معصيتي، ما أصابكَ مِن حسنةٍ فمنَ الله، وما أصابَك مِن سيّئةٍ فمِن نفسِك، وذاكَ أنّي أولى بحسناتِك منكَ، وأنتَ أولى بسيّئاتِك منّي)،وفوقَ كلِّ ذلكَ فإنَّ العبدَ في أمسِّ الحاجةِ لتوفيقِ اللهِ وتسديدِه، فعندَما يطلبُ العبدُ التوفيقَ منَ اللهِ في دعائِه فهوَ بذلكَ يقرُّ بأنّه غيرُ مُفوّضٍ في فعلِه، فلو أنَّ اللهَ خذلَ العبدَ وأوكلهُ لنفسِه لما اهتدى للخيرِ أبداً، ففي الروايةِ أنَّ رجلاً سألَ العالمَ (عليهِ السلام) فقالَ: يا بنَ رسولِ الله، أليسَ أنا مُستطيعٌ لِما كُلِّفت؟ فقالَ عليهِ السلام: ما الاستطاعةُ عندَك؟ قالَ: القوّةُ على العمل، قالَ عليهِ السلام: قد أًعطيتَ القوّةَ إن أُعطيتَ المعونةَ، قالَ لهُ الرّجل: فما المعونة؟ قالَ: التوفيقُ، قالَ: فلمَ إعطاءُ التوفيق؟ قالَ: لو كنتَ موفَّقاً كنتَ عاملاً، وقد يكونُ الكافرُ أقوى منكَ ولا يُعطى التوفيقَ فلا يكونُ عامِلاً، ثمَّ قالَ عليهِ السلام: أخبِرني عنكَ، مَن خلقَ فيكَ القوّة؟ قالَ الرجلُ: اللهُ تباركَ وتعالى، قالَ العالمُ: هل تستطيعُ بتلكَ القوّةِ دفعَ الضرِّ عن نفسِك وأخذَ النفعِ إليها بغيرِ العونِ منَ اللهِ تباركَ وتعالى؟ قال: لا، قالَ: فلمَ تنتحلُ ما لا تقدرُ عليه؟ ثمَّ قال: أينَ أنتَ عن قولِ العبدِ الصالح: (وما توفيقي إلّا بالله). وعليهِ لا يمكنُ أن يكونَ الإنسانُ مجبوراً؛ لأنَّ اللهَ ملَّكَه الاختيارَ وأقدرَه على المعصيةِ والطاعةِ وبذلكَ يكونُ مسؤولاً عن فعلِه، وفي ذاتِ الوقتِ فإنَّ اللهَ هوَ المالكُ الحقيقيُّ لِما ملكَه الإنسانُ فلا يكونُ بذلكَ مفوّضاً، فعن الفضلِ بنِ سهلٍ سألَ الرّضا (عليهِ السلام) بينَ يدي المأمونِ فقالَ: يا أبا الحسنِ الخلقُ مجبورون؟ فقالَ: اللهُ أعدلُ مِن أن يجبرَ خلقَه ثمَّ يعذّبَهم، قالَ: فمُطلَقون؟ قالَ: اللهُ أحكمُ مِن أن يهملَ عبدَه ويكلَه إلى نفسِه).فكلُّ إنسانٍ يدركُ في عُمقِ شعورِه ووجدانِه أنّه ليسَ مالِكاً للقُدرةِ والاستطاعةِ والعلم، مُلكاً حقيقيّاً، أي مِن طبيعةِ ذاتِه ولوازمِ وجودِه؛ لأنّها تُسلَبُ منه أحياناً دونَ اختيارٍ منه، وكذا في حالةِ كونِنا مالكينَ لها، فإنّها ليسَت طوعَ أيدينا، فهيَ موجودةٌ في حالةِ اليقظةِ دونَ النوم، والصحّةِ دونَ المرض، وفي حالِ الشبابِ دونَ الشيخوخةِ، كما أنَّ الإنسانَ ليسَ عالماً بكلِّ شيءٍ، وليسَ قادراً على كلِّ ما يريد، وليسَ مُريداً لكلِّ ما يقدرُ عليه، وقد يكونُ عالماً قادِراً ولكنّه غيرُ مُريد، أو مريداً وغيرَ عالمٍ قادر، ممّا يعني أنَّ الإنسانَ ليسَ بذاتِه عالماً قادراً مُريداً، فإن كانَ مِن ذاتِه وبذاتِه كلُّ ذلك، فلا يُعقلُ أنّه يجهلُ أو يعجزُ عن شيء، وهذا خلافُ واقعِ الإنسانِ الذي ينتابُه الجهلُ والعجز، فكيفَ والحالُ هذا يكونُ العلمُ والقدرةُ والإرادةُ حقائقَ يمتلكُها الإنسانُ بمُقتضى الذاتِ، فالإنسانُ معَ كونِه واجداً لهذهِ الكمالاتِ ومالكاً لها بتمليكِ اللهِ إلّا أنَّ ذاتَه العجزُ والفقر، وقد سُئلَ أميرُ المؤمنين (عليهِ السلام) عن معنى قولِهم: (لا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله) فقالَ: (إنّا لا نملكُ معَ اللهِ شيئاً، ولا نملكُ إلّا ما ملَّكنا، فمتى ملّكَنا ما هوَ أملكُ به منّا كلّفنا، ومتى أخذَه منّا وضعَ تكليفَه عنّا).
اترك تعليق