لِمَاذَا يُفْتِي بَعْضُ فُقَهَائِنَا بِحُرْمَةِ الشِّطْرَنْجِ مَعَ كَوْنِهِ يُقَوِّي الذِّهْنَ؟!!
أَحْمَدُ العِرَاقِيُّ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. أَوَدُّ سُؤَالَ سَمَاحَتِكُمْ عَنْ سَبَبِ تَحْرِيمِ الشِّطْرَنْجِ مَعَ أَنَّهَا قَدْ تُفِيدُ الإِنْسَانَ ذِهْنِيًّا عَنْ طَرِيقِ التَّفْكِيرِ وَنَفْسِيًّا عَنْ طَرِيقِ التَّرْفِيهِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ الضَّرَرِ الَّذِي يُسَبِّبُهُ السَّجَائِرُ وَالضَّرَرِ الَّذِي يُسَبِّبُهُ الشِّطْرَنْجُ! وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ عُلَمَاؤُنَا السَّجَائِرَ مَعَ ثَبَاتِ الضَّرَرِ الَّذِي تُحَقِّقُهُ؟ وَمَا هِيَ الآثَارُ الإِجْتِمَاعِيَّةُ السَّيِّئَةُ الَّتِي يُخَلِّفُهَا الشِّطْرَنْجُ؟
الأَخُ أَحْمَدُ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ لاَبُدَّ أَنْ تَعْرِفَ أَخِي الكَرِيمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ فِي الفِقْهِ الإمَامِيِّ خَاضِعٌ لِلأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ بِالقِيَاسِ وَالإِسْتِحْسَانِ وَشِبْهِهِ، فَمَتَى مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عِنْدَ الفَقِيهِ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ أَهْلِ البَيْتِ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) عَلَى الحِلِّيَّةِ أَوْ الحُرْمَةِ فَهُوَ يُفْتِي بِلِحَاظِهِ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ عَنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ البَيْتِ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) النَّهْيُ عَنْ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ وَأَنَّهُ مِنْ آلَاتِ القِمَارِ.
فَفِي سُؤَالٍ وُجِّهَ لِلسَّيِّدِ الخُوئِيِّ (قُدِّسَ سِرُّهُ): هَلْ يَحْرُمُ لَعِبُ الوَرَقِ أَوْ لَعِبُ الشِّطْرَنْجِ أَوْ النَّرْدِ [الزَّهْرُ] حَتَّى وَلَوْ كَانَ عَنْ تَسْلِيَةٍ؟ وَلَوْ كَانَ اللَّعِبُ بِهَذِهِ الأُمُورِ عَنْ تَسْلِيَةٍ حَرَامًا فَمَا هُوَ وَجْهُ العِلَّةِ بِذَلِكَ؟
فَأَجَابَ (قُدِّسَ سِرُّهُ): نَعَمْ يَحْرُمُ اللَّعِبُ بِالأُمُورِ المَذْكُورَةِ وَلَوْ كَانَ بِعُنْوَانِ التَّسْلِيَةِ، وَدَلِيلُ حُرْمَةِ ذَلِكَ هُوَ مَا وَرَدَ فِي الشَّرِيعَةِ المُقَدَّسَةِ مِنْ حُرْمَةِ القِمَارِ وَالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ مُطْلَقًا. [صِرَاطُ النَّجَاةِ 1: 375].
وَجَاءَ فِي اسْتِفْتَاءَاتِ السَّيِّدِ السِّيستَانِيِّ دَامَ ظِلُّهُ:
السُّؤَالُ: هَلْ لَعِبُ الشِّطْرَنْجِ مُحَرَّمَةٌ إِذَا كَانَتْ تُلْعَبُ لِأَجْلِ تَنْمِيَةِ العَقْلِ وَالتَّسْلِيَةِ؟
الجَوَابُ: الشِّطْرَنْجُ حَرَامٌ مُطْلَقًا وَكَذَا غَيْرُهُ عَلَى الأَحْوَطِ إِنْ عُدَّ فِي عُرْفِ المَحَلِّ مِنْ آلَاتِ القِمَارِ. انْتَهَى.
وَمِنْ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا النَّهْيُ عَنْ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ وَبَيْعِهِ، هَذِهِ الرِّوَايَةُ الوَارِدَةُ عَنْ الإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) حَيْثُ قَالَ: (بَيْعُ الشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ، وَأَكْلُ ثَمَنِهِ سُحْتٌ، وَاتِّخَاذُهَا كُفْرٌ، وَاللَّعِبُ بِهِ شِرْكٌ) [وَسَائِلُ الشِّيعَةِ 17: 323].
هَذَا، وَلَكِنَّ بَعْضَ فُقَهَائِنَا كَالسَّيِّدِ الخُمَيْنِيِّ (قُدِّسَ سِرُّهُ) قَدْ أَفْتَى بِالحَلِّيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لُعْبَةَ الشِّطْرَنْجِ قَدْ خَرَجَتْ فِي زَمَانِنَا عَنْ كَوْنِهَا آلَةَ قِمَارٍ، وَمَعَ تَبَدُّلِ هَذَا العُنْوَانِ لَهَا يَتَبَدَّلُ الحُكْمُ، وَهَذَا بَحْثٌ أُصُولِيٌّ مَفَادُهُ: مَدْخَلِيَّةُ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ فِي عَمَلِيَّةِ الإِسْتِنْبَاطِ.
جَاءَ فِي كِتَابِ "قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ فِي الإِسْتِنْبَاطِ": (قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ لِلزَّمَانِ وَالمَكَانِ دَوْرٌ وَتَأْثِيرٌ عَلَى عَمَلِيَّةِ الإِسْتِنْبَاطِ وَصِيَاغَةِ الحُكْمِ، وَفِي البَعْضِ الآخَرِ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُمَا مِثْلُ الدَّوْرِ المَذْكُورِ... وَلَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَحْرِيمَ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، فَإِنَّهُ لَوْ حَصَلَ لِلفَقِيهِ جَزْمٌ بِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ مِنْ الوَسَائِلِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى تَقْوِيَةِ الذِّهْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ وَسِيلَةً لِقَضَاءِ الوَقْتِ وَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ لَا أَكْثَرَ، لَأَمْكَنَ القَوْلُ بِرَفْعِ اليَدِ عَنْ تَحْرِيمِهِ، وَأَنَّ دَلِيلَ التَّحْرِيمِ لَا يَشْمُلُ مِثْلَ زَمَانِنَا الَّذِي أَصْبَحَ فِيهِ الشِّطْرَنْجُ عِلْمًا وَفَنًّا خَاصًّا يَتَبَارَى فِيهِ الأَذْكِيَّاءُ لِلكَشْفِ عَنْ قِوَاهُمُ الذِّهْنِيَّةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي دَعَا السَّيِّدَ الخُمَيْنِيَّ (قُدِّسَ سِرُّهُ) إِلَى الحُكْمِ بِحِلِّيَّتِهِ.
وَنَلْفِتُ النَّظَرَ هُنَا إِلَى قَضِيَّةٍ جَانِبِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ (قُدِّسَ سِرُّهُ) لَمْ يَحْكُمْ بِحِلِّيَّتِهِ مُطْلَقًا كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الحُكْمَ عَلَى الفَرْضِ السَّابِقِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، أَيْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ قَدْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ وَسِيلَةَ تَرَفٍ وَلَهْوٍ وَأَصْبَحَ مِنْ وَسَائِلِ تَقْوِيَةِ الذِّهْنِ وَالذَّكَاءِ). [قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ فِي الإِسْتِنْبَاطِ، تَقْرِيرَاتُ آيَةِ اللهِ الشَّيْخِ بَاقِرٍ الإِيرَوَانِي، ص 190].
وَبلِحَاظِ مَا تَقَدَّمَ، يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ دَلِيلَ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الفَقِيهِ خَاضِعٌ لِصِدْقِ العُنْوَانِ عَلَى المُعَنْوَنِ، فَمَعَ صِدْقِ العُنْوَانِ - كَمَا فِي الشِّطْرَنْجِ بِأَنَّهُ آلَةُ قِمَارٍ - أَفْتَى الفُقَهَاءُ بِالحُرْمَةِ، وَمَعَ عَدَمِ صِدْقِ العُنْوَانِ أَفْتَى بَعْضُهُمْ بِالحِلِّيَّةِ.
وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.
اترك تعليق