هَلْ التَّدَيُّنُ مُجَرَّدُ ظَاهِرَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ؟

المدعى: التَّدَيُّنُ تَطْبِيعٌ، فَأَنْتَ لَمْ تَخْتَرْ دِينَكَ، وَأَنْتَ مُسْلِمٌ لِأَنَّكَ مِنْ أُسْرَةٍ مُسْلِمَةٍ، أَوْ مَسِيحِيٌّ لِأَنَّكَ مِنْ أُسْرَةٍ مَسِيحِيَّةٍ، وَهَكَذَا.

: السيد رعد المرسومي

الجواب:       

 

     إِذَا وَقَفْنَا عَلَى مَا جَاءَ فِي العِبَارَاتِ السَّابِقَةِ لَا يُمْكِنُ الخُلُوصُ بِنَتِيجَةٍ مُحَدَّدَةٍ، مَعَ أَنَّ الَّذِي صَاغَ هَذِهِ العِبَارَاتِ صَاغَهَا عَلَى نَحْوِ الإِشْكَالِ عَلَى الظَّاهِرَةِ الدِّينِيَّةِ، فَقَوْلُهُ (التَّدَيُّنُ تَطْبِيعٌ) لَا يَحْمِلُ أَيَّ إِشْكَالٍ وَاضِحِ المَعَالِمِ; لِأَنَّ التَّطَبُّعَ فِي ذَاتِهِ لَا يُعَدُّ فِعْلًا سَلْبِيًا، فَكَمَا أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَطَبَّعُ عَلَى الخِصَالِ الحَمِيدَةِ الجَيِّدَةِ، كَذَلِكَ يَتَطَبَّعُ عَلَى التَّدَيُّنِ بِوَصْفِهِ أَخْلَاقًا سَامِيَةً، اللَّهُمَّ إِلَّا إِنْ كَانَ يَقْصِدُ بِأَنَّ التَّدَيُّنَ ظَاهِرَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ أَوْجَدَتْهَا سُلْطَةُ المُجْتَمَعِ عَلَى الفَرْدِ وَلَا عِلَاقَةَ لَهُ بِوُجُودِ حَقِيقَةٍ غَيْبِيَّةٍ يَدِينُ لَهَا الإِنْسَانُ بِالطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ. وَبِهَذَا التَّوْجِيهِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَضَعَ مَا جَاءَ فِي السِّيَاقِ العِلْمِيِّ، وَبِخَاصَّةٍ عِنْدَمَا نَسْتَعِيرُ نَظَرِيَّةَ الفَيْلَسُوفِ وَعَالِمِ الإِجْتِمَاعِ دور كايم الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّ الظَّاهِرَةَ الدِّينِيَّةَ هِيَ مُجَرَّدُ ظَاهِرَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ.

     فِي البَدْءِ لاَبُدَّ أَنْ نُؤَكِّدَ بِأَنَّ هَذَا الحُضُورَ المُسْتَمِرَّ لِلدِّينِ فِي الحَيَاةِ الإِنْسَانِيَّةِ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُنْصُرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ جَمِيعًا حَافَظَ عَلَى وُجُودِ الدِّينِ وَبَقَائِهِ. يَقُولُ المُؤَرِّخُ وَكَاتِبُ السِّيَرِ وَالنَّاقِدُ اليُونَانِيُّ بلوتارك الخيروني (46 - 120 م) الَّذِي كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الفَلَاسِفَةِ وَالأُدَبَاءِ مِنْ بَيْنِهِمْ شكسبير: "لَقَدْ وَجَدْتُ فِي التَّارِيخِ مُدُنًا بِلَا حُصُونٍ، وَمُدُنًا بِلَا قُصُورٍ، وَمُدُنًا بِلَا مَدَارِسَ، وَلَكِنْ لَمْ تُوجَدْ أَبَدًا مُدُنٌ بِلَا مَعَابِدَ"(1).

     وَيُقِرُّ بِذَلِكَ أَيْضًا الفَيْلَسُوفُ الفَرَنْسِيُّ هِنرِي يرجسون، وَالحَاصِلُ عَلَى جَائِزَةِ نوبل لِلآدَابِ سنة1927 فِي كِتَابِهِ (أَصْلُ الأَخْلَاقِ وَالدِّينِ): "لَقَدْ وُجِدَتْ وَتُوجَدُ جَمَاعَاتٌ إِنْسَانِيَّةٌ بِدُونِ عُلُومٍ، وَفُنُونٍ، وَفَلْسَفَاتٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ تُوجَدْ قَطُّ جَمَاعَةٌ بِغَيْرِ دِيَانَةٍ"(2).

     يَقُولُ أَرنست رينان(3)  فِي تَارِيخِ الأَدْيَانِ "إِنَّ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَضْمَحِلَّ كُلُّ شَيْءٍ نُحِبُّهُ، وَأَنْ تَبْطُلَ حُرِّيَّةُ اسْتِعْمَالِ العَقْلِ وَالعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ، وَلَكِنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْمَحِيَ التَّدَيُّنُ، بَلْ سَيَبْقَى حُجَّةً نَاطِقَةً عَلَى بُطْلَانِ المَذْهَبِ المَادِّيِّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَحْصُرَ الفِكْرَ الإِنْسَانِيَّ فِي المَضَايِقِ الدَّنِيئَةِ لِلحَيَاةِ الأَرْضِيَّةِ"(4). 

     وَبِهَذَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُحَدِّدَ الإِتِّجَاهَ السَّلِيمَ لِبِدَايَةِ الكَشْفِ عَنْ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ المُتَأَصِّلَةِ فِي التَّارِيخِ الإِنْسَانِيِّ، وَنَحْنُ هُنَا بَيْنَ اتِّجَاهَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ.

     الأَوَّلُ: البَحْثُ عَنْ الدِّينِ كَظَاهِرَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ.

     وَالثَّانِي: البَحْثُ عَنِ الدِّينِ كَحَالَةٍ مُتَجَذِّرَةٍ فِي الطَّبِيعَةِ الإِنْسَانِيَّةِ.

     وَالبَحْثُ الأَوَّلُ لَهُ عِلَاقَةٌ بِعِلْمِ الإِجْتِمَاعِ وَالأَنثروبولوجيا، أَمَّا البَحْثُ الثَّانِي فَلَهُ عِلَاقَةٌ بِالفَلْسَفَةِ لِكَوْنِهِ يَبْحَثُ عَنْ طَبِيعَةِ الإِنْسَانِ وَمِنْ ثَمَّ يَبْحَثُ عَنِ التَّبْرِيرِ المَنْطِقِيِّ لِلأَدْيَانِ.

     وَقَدْ عَمِلَ الفَيْلَسُوفُ الفَرَنْسِيُّ دور كايم عَلَى رَبْطِ الظَّاهِرَةِ الدِّينِيَّةِ بِالفِعْلِ الإِجْتِمَاعِيِّ، فِي كِتَابِهِ "الأَشْكَالُ الأَوَّلِيَّةُ لِلحَيَاةِ الدِّينِيَّةِ". وَمَا قَامَ بِهِ هُوَ رَصْدُ الدِّينِ كَمُمَارَسَةٍ سُلُوكِيَّةٍ ثُمَّ الإِنْتِقَالُ لِلمُجْتَمَعِ بِوَصْفِهِ الصَّانِعَ لِهَذِهِ المُمَارَسَاتِ، فِي حِينِ أَنَّ التَّفْكِيرَ المَنْطِقِيَّ يَسْتَوْجِبُ البَحْثَ عَنْ المُبَرِّرِ وَالوُجُودِيِّ لِلأَدْيَانِ بِوَصْفِهِ حَالَةً مُتَجَذِّرَةً فِي الإِنْسَانِ لَا بِوَصْفِهِ حَالَةً عَابِرَةً ابْتَدَعَهَا الإِجْتِمَاعُ الإِنْسَانِيُّ.

     وَيَبْدُو أَنَّ الرُّجُوعَ لِلإِنْسَانِ وَفَهْمِهِ فِي نَفْسِهِ أَوَّلًا، وَمِنْ ثَمَّ فِي ظَرْفِهِ الإِجْتِمَاعِيِّ ثَانِيًا، يُمَثِّلُ مَدْخَلًا طَبِيعٍيًّا لِفَهْمِ الظَّاهِرَةِ الدِّينِيَّةِ، أَمَّا الإِصْرَارُ عَلَى البُعْدِ الإِجْتِمَاعِيِّ فَقَطْ وَإِنْ كَانَ بَحْثًا مُفِيدًا; إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي فِي نِهَايَةِ المَطَافِ لِلقَضَاءِ عَلَى فَرْدِيَّةِ الإِنْسَانِ، وَمِنْ ثَمَّ رُؤْيَةُ الحَقِيقَةِ بِشَكْلٍ نَاقِصٍ وَمُشَوَّهٍ، وَهَذَا مَا وَقَعَ فِيهِ دور كايم عِنْدَمَا هَمَّشَ الإِنْسَانَ كَفَرْدٍ وَجَعَلَ مِنْ المُجْتَمَعِ )إِلَهًا) يَتَحَكَّمُ فِي الأَفْرَادِ، "فَمَا بَقِيَ بِالنِّسْبَةِ لِدور كايم أَمْرٌ جَلِيٌّ، الإِلَهُ الحَقِيقِيُّ وَالوَحِيدُ هُوَ المُجْتَمَعُ، وَالوَعْيُ الجَمْعِيُّ هُوَ التَّصْوِيرُ الأَمْثَلُ وَالصَّحِيحُ لَهُ"(5).

     فَمَا نَحْتَاجُ مَعْرِفَتَهُ هُوَ الإِنْسَانُ فِي ذَاتِهِ، وَالإِنْسَانُ كَفَرْدٍ اجْتِمَاعِيٍّ، بِدُونِ إِهْمَالِ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ تَضْخِيمِهِ عَلَى الآخَرِ، فَعِنْدَمَا نَتَعَرَّفُ عَلَى الإِنْسَانِ بِوَصْفِهِ كَائِنًا عَاقِلًا، سَوْفَ نَتَسَاءَلُ عَنْ تَأْثِيرِهِ الفِكْرِيِّ فِي المُجْتَمَعِ وَتَأْثِيرِ المُجْتَمَعِ فِيهِ، أَمَّا إِذَا أَهْمَلْنَا حَقَّهُ وَقُدْرَتَهُ فِي التَّعَقُّلِ وَالتَّفْكِيرِ وَنَظَرْنَا لَهُ بِوَصْفِهِ حَالَةً اجْتِمَاعِيَّةً مَحْضَةً، حِينَهَا لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ الفَرْدُ مُجَرَّدَ مُتَلَقٍّ سَلْبِيٍّ لِمَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ المُجْتَمَعُ، وَحِينَهَا لَا يُصْبِحُ الدِّينُ هُوَ المُشْكِلَةَ وَإِنَّمَا الإِنْسَانُ فِي ذَاتِهِ هُوَ المُشْكِلَةُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَدَيِّنًا أَمْ غَيْرَ مُتَدَيِّنٍ، طَالَمَا سَلَبْنَا قُدْرَةَ الإِنْسَانِ عَلَى التَّقْيِيمِ خَارِجَ سُلْطَةِ المُجْتَمَعِ.

     وَمَا تَوَصَّلَ لَهُ دور كايم هُوَ نِتَاجٌ طَبِيعِيٌّ لِهَذَا الإِهْمَالِ الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِوُجُودٍ لِلإِنْسَانِ خَارِجَ حُدُودِ المُجْتَمَعِ، وَمِنْ هُنَا أَصْبَحَ الدِّينُ فِي نَظَرِهِ حَالَةً يَفْرِضُهَا الإِجْتِمَاعُ الإِنْسَانِيُّ، دُونَ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْقِ شُعُورِ الفَرْدِ دَافِعٌ دَاخِلِيٌّ يَكُونُ مُنْتِجًا لِهَذَا الإِرْتِبَاطِ الدِّينِيِّ، وَالجَمِيعُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ لَهُ حَالَةٌ مِنَ النُّزُوعِ نَحْوَ الكَمَالِ وَالمُطْلَقِ وَالمُقَدَّسِ، وَالدِّينُ كَمَظْهَرٍ لِهَذَا النُّزُوعِ المُتَأَصِّلِ فِي النَّفْسِ يُعَدُّ أَسَاسًا لِفَهْمِ المُجْتَمَعِ وَلَيْسَ العَكْسَ.

     فَالدِّينُ حَقِيقَةٌ أَصِيلَةٌ مِنْ خِلَالِ هَذَا الجَذْبِ الدَّاخِلِيِّ، وَالتَّدَيُّنُ هُوَ سَعْيٌ إِنْسَانِيٌّ نَحْوَ ذَلِكَ المُقَدَّسِ، فَكُلُّ أَشْكَالِ التَّدَيُّنِ هِيَ تَعْبِيرٌ عَنْ هَذَا الإِحْسَاسِ البَاطِنِيِّ المُشْتَرَكِ بَيْنَ الجَمِيعِ، وَقَدْ أَشَارَ دور كايم إِلَى هَذِهِ الحَقِيقَةِ فِي تَعْرِيفِهِ لِلدِّينِ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ جَمِيعَ أَشْكَالِ الإِيمَانِ الدِّينِيِّ المَعْرُوفَةِ، بَسِيطَةً كَانَتْ أَوْ مُعَقَّدَةً، تَحْمِلُ خَاصِّيَّةً مُشْتَرَكَةً: إِنَّهَا تَقْتَضِي تَنْظِيمَ الأُمُورِ الوَاقِعِيَّةِ أَوْ المِثَالِيَّةِ الَّتِي يَتَصَوَّرُهَا الإِنْسَانُ فِي نِظَامَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ يُطْلِقُ عَلَيْهِمَا عَادَةً اسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ هُمَا المُقَدَّسُ وَالدُّنْيَوِيُّ"(6).

      وَبِالتَّالِي الدِّينُ بِنَظَرِ دور كايم يَتَحَقَّقُ لَهُ وُجُودٌ مَتَى مَا كَانَ هُنَاكَ تَمْيِيزٌ بَيْنَ المُقَدَّسِ وَالدُّنْيَوِيِّ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا أَشَرْنَا لَهُ مِنْ وُجُودِ إِحْسَاسٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الجَمِيعِ بِالمُقَدَّسِ وَالتَّوْقِ إِلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ التَّعْبِيرَاتُ عَنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَتَّفِقُ مَعَ دور كايم فِي إِرْجَاعِ هَذَا المُقَدَّسِ إِلَى فِعْلِ المُجْتَمَعِ مِنْ دُونِ البَحْثِ عَنْ مُحَرِّكٍ دَاخِلِيٍّ مَغْرُوسٍ فِي فِطْرَةِ الإِنْسَانِ. وَقَدْ رَكَّزَ دور كايم عَلَى المُجْتَمَعَاتِ البِدَائِيَّةِ ذَاتِ الطَّابِعِ الطَّوطَمِيِّ(7)  مِثْلِ قَبَائِلِ الهُنُودِ الحُمْرِ، وَقَدْ قَدَّمَ لِذَلِكَ بِبَحْثٍ نَظَرِيٍّ عَنِ المُقَدَّسِ لِيَصِلَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مُفَارِقًا لِلسِّيَاقِ الإِجْتِمَاعِيِّ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ عَادِيٌّ بِطَبْعِهِ إِلَّا أَنَّ المُجْتَمَعَ هُوَ الَّذِي جَعَلُهُ مُقَدَّسًا، إِلَّا أَنَّهُ يَبْدُو أَنْ دور كايم قَامَ بِرَصْدِ الرُّمُوزِ الدِّينِيَّةِ مِنْ زَاوِيَةٍ تَحْتِيَّةٍ، أَيْ مِنْ خِلَالِ تَعَلُّقِ النَّاسِ بِالرُّمُوزِ وَإِطْفَاءِ المُقَدَّسِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ الطَّوْطَمِ فَبَدَأَتْ لَهُ صِنَاعَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، وَلَمْ يُلَاحِظْهَا مِنَ الزَّاوِيَةِ الفَوْقِيَّةِ الَّتِي تَنْظُرُ لِلمُقَدَّسِ بِوَصْفِهِ حَقِيقَةً مُطْلَقَةً يَعْمَلُ النَّاسُ عَلَى إِنْزَالِهِ فِي صُوَرٍ وَرُمُوزٍ حِسِّيَّةٍ، أَوْ كَمَا عَبَّرَ سَان كلود فِي مُقَدِّمَتِهِ لِكِتَابِ مرسيا إلياد(8)  (المُقَدَّسُ وَالمُدَنَّسُ) بِقَوْلِهِ: "يُمْكِنُ لِلمُقَدَّسِ أَنْ يُظْهِرَ نَفْسَهُ فِي حِجَارَةٍ أَوْ أَشْجَارٍ.. أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَمْجِيدِ حَجَرٍ أَوْ شَجَرَةٍ بِذَاتِهَا. فَالحَجَرُ المُقَدَّسُ وَالشَّجَرَةُ المُقَدَّسَةُ لَمْ يُعْبَدَا بِصِفَتِهِمَا تِلْكَ: وَإِنَّهُمَا لَيْسَا مَوْضِعَ عِبَادَةٍ فِعْلًا لِأَنَّهُمَا تَجَلِّيَانِ، وَلَا أَنَّهُمَا يُظْهِرَانِ شَيْئًا مَا لَيْسَ هُوَ لَا حَجَرٌ وَلَا شَجَرَةٌ، وَإِنَّمَا الكَائِنُ المُطْلَقُ"(9).

     وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الدِّينَ فِي حَقِيقَتِهِ لَيْسَ فِعْلًا اجْتِمَاعِيًّا قَائِمًا عَلَى عِلَاقَةِ الفَرْدِ بِالجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا فِعْلًا وُجُودِيًّا حَتْمِيًّا قَائِمًا عَلَى فَلْسَفَةِ الخَلْقِ وَالإِيجَادِ، وَالعِلَاقَةُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَرْبُطَ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، أَحَدُهُمَا خَالِقٌ، وَالآخَرُ مَخْلُوقٌ، هِيَ الَّتِي تُفَسِّرُ لَنَا وُجُودَ الدِّينِ كَحَالَةِ حَتْمِيَّةٍ. يَقُولُ عَزْمِي بِشَارَةُ: "إِنَّ الإِنْفِعَالَ بِتَجْرِبَةِ المُقَدَّسِ وَالتَّأَثُّرَ بِهَا أَسَاسُ العَاطِفَةِ الدِّينِيَّةِ. لَكِنَّ هَذِهِ العَاطِفَةَ لَا تَتَحَوَّلُ إِلَى دِينٍ بِمُجَرَّدِ الإِنْفِعَالِ بِتِلْكَ التَّجْرِبَةِ، بَلْ حِينَ تُؤْمِنُ النَّفْسُ بِالمُقَدَّسِ وَبِوُجُودِهِ الحَيِّ وَالعَاقِلِ فِي الغَيْبِ، وَبِأَنَّ مِنَ الوَاجِبِ عِبَادَتَهُ(10). وَبِالتَّالِي الإِنْسَانُ عَبْرَ سُلُوكِهِ الفَرْدِيِّ أَوْ الإِجْتِمَاعِيِّ يُحَاوِلُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ هَذِهِ الصِّلَةِ الَّتِي تَشُدُّهُ لِلقُوَّةِ الَّتِي أَوْجَدَتْهُ.

     فَحَقِيقَةُ الدِّينِ هُوَ تَطَلُّعُ الإِنْسَانِ نَحْوَ الغَيْبِ وَالإِرْتِبَاطِ بِهِ وُجْدَانِيًّا وَسُلُوكِيًّا، وَعَلَيْهِ يُصْبِحُ الدِّينُ هُوَ نِسْبَةً تَرْبُطُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ هُمَا خَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ، أَوْ هُوَ إِدْرَاكٌ عَمِيقٌ لِلإِنْسَانِ لِذَاتِهِ وَشُعُورِهِ الدَّائِمِ بِالمَخْلُوقِيَّةِ.

     وَالإِيمَانُ بِوُجُودِ هَذَا الرَّابِطِ الفِطْرِيِّ لَا يَعْنِي أَنَّ خَيَارَاتِ الإِنْسَانِ الدِّينِيَّةَ خَيَارَاتٌ دَائِمًا صَحِيحَةٌ، مِمَّا يُوجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ السَّعْيُ الدَّائِمُ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الأَدْيَانِ لِقَبُولِ مَا يَنْسَجِمُ مَعَ الدَّلِيلِ وَالبُرْهَانِ، وَمِنْ هُنَا نَجِدُ أَنَّ الإِسْلَامَ قَدْ ذَمَّ التَّقْلِيدَ وَإِتِّبَاعَ الآبَاءِ وَأَمَرَ بِالعَقْلِ وَالتَّعَقُّلِ. قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (170 البَقَرَةُ).

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يوسف القرضاوي، وجود الله، مكتبة وهبة، القاهرة، ص 22 

(2) الدكتور محمد عبد الله دراز، الدين بحوث ممهدة لدراسة لدراسة تاريخ الأديان، دار القلم، 1952 ص 83 

(3) 1823 - 1892، مؤرخ وكاتب فرنسي اشتهر بترجمته ليسوع التي دعا فيها إلى نقد المصادر الدينية نقدًا تاريخيًا علميًا وإلى التمييز بين العناصر التاريخية والعناصر الأسطورية الموجودة في الكتاب المقدس

(4) الدكتور عبد الله دراز، مصدر سابق ص 83

(5) علم المجتمع الديني الإشكالات والسياقات، د سابينو أكوافيفا، بالاشتراك مع د إنزو باتشي، ترجمة د عز الدين عناية، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، الطبعة الأولى 2011م،  ص 39

(6) العقل والدين، حسن أحجيج، مؤمنون بلا حدود http://www.mominoun.com/articles 

(7) الطوطم: هو كيان يمثل دور الرمز للقبيلة، وأحيانا يُقّدس باعتباره المؤسس أو الحامي.

(8) (13 مارس 1907 - 22 أبريل 1986) (بالإنجليزية: Mircea Eliade) كاتب ومؤرخ أديان وفيلسوف وروائي روماني، شغل كرسي أستاذ تاريخ الأديان في جامعة شيكاغو، وله مؤلفات في أدب الخيال وأدب الرحلات والسير الذاتية، وتاريخ الأديان وفلسفة الأديان.

(9) المقدس والمدنس، مرسيا إلياد، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1988م، ص 17

(10) الدين والعلمانية في سياق تاريخي، عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة قطر، الطبعة الأولى بيروت، 2013م، الجز الأول، ص 23