هل رجال الدين من كل الطوائف يعملون على تعطيل العقل؟

سؤال: «إنّي أسمعُ مِن كلِّ مكانٍ صوتاً يُنادي: لا تُفكّر. رجلُ الدّينِ يقولُ لا تُفكّر بل آمِن واتّبع، ورجلُ الاقتصادِ يقول لا تُفكّر، بل ادفَع. ورجلُ السياسةِ يقول لا تُفكّر، بل نفِّذ. ولكنّي أقولُ لكَ فكِّر بنفسِك وقِف على قدميك، إنّي لا أعلّمُكَ فلسفةَ الفلاسفةِ ولكنّي أعلّمُكَ كيفَ تتفلسَف.» إيمانويل كانط.. ما سببُ جعلِ كلِّ رجالِ الدينِ منَ الطوائفِ والمِللِ في بوتقةٍ واحدة رغمَ أنّهم يختلفونَ باختلافِ نِحلِهم.. ودائماً يتمُّ تصويرُ رجلِ الدينِ على أنّهُ رجلٌ يطلبُ الإيمانَ مِن دونِ دليلٍ ويريدُ تعطيلَ العقل؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أوّلاً: ما نُسبَ لإيمانويل كانط لا يمكنُ مُناقشتُه في إطارِ الحقِّ والباطل، فبمقدارِ ما يحتملُ منَ الصحّةِ يحتملُ منَ الخطأ أيضاً، فهوَ لا يعدو أن يكونَ شهادةَ كانط على الواقعِ الثقافيّ الذي كانَ يعيشُ فيه.

فليسَ منَ المُستبعدِ أن ينطبقَ ما قالهُ على جميعِ أو بعضِ مَن عاشرَهم كانط مِن رجالِ الدينِ والاقتصادِ والسياسة، وبالتالي ليسَ بالضرورةِ أن يكونَ ذلكَ صادقاً بالمُطلَق في كلِّ زمانٍ ومكان وفي مُطلقِ الظروف.

أمّا قولهُ: (فكِّر بنفسِك وقِف على قدميك) فلا شكَّ في صحّتِه إذا كانَ يستهدفُ تحفيزَ الإنسانِ وتحريكَ قُدراتِه في اتّجاهِ الإبداعِ وتركِ الاتّباعِ الأعمى، وهوَ الأمرُ الذي أكّدَه حديثُ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا).

إلّا أنَّ تفكيرَ الإنسانِ بنفسِه ووقوفَه على قدميهِ يجبُ أن لا يكونَ سبباً لمُعارضةِ الجُهّالِ لأهلِ العلمِ والاختصاص، فالواجبُ على الجهلاءِ بحُكمِ العقلاءِ الرّجوعُ إلى أهلِ العلم والاسترشادُ بقولِهم، فليسَ هناكَ تنافٍ بينَ ضرورةِ تطويرِ الإنسانِ لقُدراتِه العلميّةِ والعقليّةِ وبينَ اتّباعِ أهلِ الخبرةِ والاختصاص.

ثانياً: أمّا السؤالُ عن سببِ وسمِ جميعِ رجالِ الدّينِ ومِن كلِّ الطوائفِ بوسمٍ واحد وهوَ أنّهم ضدَّ العلم ويعملونَ على تعطيلِ العقل، فإنَّ الإجابةَ على هذا السؤالِ كما يبدو لنا تعودُ إلى هيمنةِ الثقافةِ الغربيّةِ على مُجملِ المشهدِ الثقافيّ العالمي.

ومنَ المعلومِ أنَّ الثقافةَ الغربيّةَ قد تبلورَت في عصرِ النهضةِ وما بعدَه، وفي تلكَ الفترةِ كانَ هناكَ تنافرٌ كبيرٌ بينَ رجالِ العلمِ ورجالِ الدين، الأمرُ الذي شكّلَ تيّاراً ثقافيّاً مُناهِضاً للأديانِ بوصفِها خارجةً عن حدودِ العلمِ والعقل.

وقد شهدَت أوروبا آنذاكَ موجةً عارمةً منَ الإلحادِ باسمِ العلم، وبالمقدارِ الذي كانَ رجالُ الدينِ يسيطرونَ على أوروبا ويقيمونَ محاكمَ التفتيشِ التي تُلاحقُ العُلماء، بنفسِ هذه السطوةِ أصبحَ رجالُ العلمِ يُحاصرونَ رجالَ الدين بعدَ عصرِ النهضة، فشنّوا حربَهم على الدينِ تسخيفاً وتجهيلاً به إلى أن تمَّ عزلهُ عن الحياة.

وما يؤسَفُ له أنَّ هذا الموقفَ المُتعسّفَ منَ الدين وبحُكمِ الدعايةِ وهيمنةِ الثقافةِ الغربيّة تمَّ تسويقُه بوصفِه قانوناً حاكماً على جميعِ الأديانِ وفي كلِّ الظروف!

وقد تأثّرَ بعضُ المُثقّفينَ في العالمِ الإسلاميّ بذلك وعملوا على إنزالِ الموقفِ الغربيّ منَ الكنيسةِ ورجالِها على الإسلامِ ورجالِه!

وهذا ما لا يمكنُ قبولهُ والتسليمُ به، فالمُقايسةُ بينَ موقفِ الكنيسةِ منَ العلمِ وموقفِ الإسلامِ مُقايسةٌ أقلُّ ما يقالُ عَنها مُجحفةٌ، وقد بيّنّا في كثيرٍ منَ الأجوبةِ السابقةِ رؤيةَ الإسلامِ حولَ العِلمِ والعقلِ وضرورةِ التكاملِ الرّوحيّ والمادّيّ.

فالدّينُ في التصوّرِ الإسلاميّ هوَ الذي يُعزّزُ مسيرةَ العلم، والعلمُ هو الذي يُعزّزُ مسيرةَ الإنسان، ومِن هُنا فإنَّ الدينَ الذي يجبُ أن نفهمَه لابدَّ أن يكونَ إطاراً تنتظمُ فيه كلُّ قيمِ الكمالِ والجمال، كما أنَّ العلومَ التي يجبُ أن تسودَ هيَ العلومُ التي تُراعي تلكَ القيم، وإلّا أصبحَت مضارُّها أكثرَ مِن نفعِها كما هوَ واقعُ الحال في بعضِ العلومِ اليوم.

وفي المُحصّلةِ لا يمكنُ أن يستغنيَ الإنسانُ عن الدينِ كما لا يمكنُ أن يستغنيَ عن العلم، يقولُ أينشتين: "لا أتصوّرُ العلمَ دونَ إيمانٍ عميق. ويمكنُ تشبيهُ الموقفِ بصورةٍ مُجسّدة: العلمُ دونَ الدينِ أعرج، والدينُ دونَ العلمِ أعمى".

ويقولُ البروفيسور هوستن سميث أستاذُ الفلسفةِ وعلومِ الأديانِ في العديدِ منَ الجامعاتِ الأمريكيّة: "تعودُ أسبابُ الأزمةِ التي يمرُّ بها العالمُ وهوَ يدخلُ الألفيّةَ الجديدةَ إلى أمورٍ أعمقَ مِن طُرقِ تنظيمِ الحياةِ السياسيّة والاقتصاديّة. إنَّ الشرقَ والغربَ يُعانيانِ – كلٌّ بطريقتِه – مِن أزمةٍ واحدةٍ مُشتركةٍ سببُها الحالةُ الروحيّةُ للعالمِ الحديث، فقد اتّسمَت هذه الحالةُ الرّوحيّةُ بفقدانِ اليقينِ الدينيّ وفقدانِ الإيمانِ بالسموّ والتعالي على الوجودِ المادّيّ بآفاقِه الرّحبةِ الواسعة. وطبيعةُ هذا الفقدانِ غريبةٌ، لكنّها – في النهايةِ – منطقيّةٌ ومُتوقّعةٌ. معَ تدشينِ عصرِ النظرةِ العلميّةِ البحتة، وبدأ إحساسُ البشرِ بأنّهم أصبحوا يمتلكونَ أسمى المعاني في العالمِ ويعرفونَ مقاييسَ ومقاديرَ كلِّ شيء، بدأت المعاني في الانحسار، وأخذَت مكانةُ الإنسانيّةِ تتضاءل. لقد فقدَ العالمُ بُعدَهُ الإنسانيّ وبدأنا نفقدُ السّيطرةَ عليه."