هَلِ الإِلْحَادُ مَوْقِفٌ عِلْمِيٌّ؟

لِمَاذَا لَا تَعْتَبِرُونَ أَنَّ الشَّخْصَ المُلْحِدَ هُوَ فِي وَاقِعِ الأَمْرِ إِنْسَانٌ يُحَاوِلُ الوُصُولَ إِلَى حَقِيقَةِ الإِلَٰهِ المُدَّعَى؟

: اللجنة العلمية

     يَحْتَوِي هَذَا الكَلَامُ عَلَى مُغَالَطَةٍ وَاضِحَةٍ وَهِيَ إِنْزَالُ الإِلْحَادِ مَنْزِلَةَ الشَّكِّ العِلْمِيِّ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَبِيرٌ حَيْثُ إِنَّ الشَّكَّ العِلْمِيَّ يَقُومُ بِجَمْعِ كُلِّ الإِحْتِمَالَاتِ المُمْكِنَةِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ أَيِّ مَوْقِفٍ مُسْبَقٍ، ثُمَّ يَعْمَلُ عَلَى اخْتِبَارِهَا إِلَى أَنْ يَخْلُصَ إِلَى احْتِمَالٍ لَا يُمْكِنُ دَحْضُهُ، أَمَّا الإِلْحَادُ فَهُوَ مَوْقِفٌ عَمَلِيٌّ وَعَقِيدَةٌ سَابِقَةٌ لِلبَحْثِ العِلْمِيِّ، وَلِذَا لَا يُسَمُّونَ البَاحِثَ الَّذِي يَنْطَلِقُ مِنْ قِنَاعَاتٍ مُسْبَقَةٍ بَاحِثًا.

     وَالمُتَابِعُ لِمَا يَكْتُبُهُ المُلْحِدُونَ وَمَا يَسْرُدُونَهُ مِنْ أَدِلَّةٍ يَقِفُ عَلَى ضَحَالَةِ الطَّرْحِ وَهَشَاشَةِ المَنْطِقِ، فَالإِلْحَادُ لَيْسَ مَوْقِفًا عِلْمِياً وَإِنَّمَا حَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ مُنْحَرِفَةٌ وَمُتَمَرِّدَةٌ عَلَى الفِطْرَةِ، وَبِالتَّالِي لَا يَحْتَاجُ الإِلْحَادُ إِلَى مُعَالَجَاتٍ عِلْمِيَّةٍ وَإِنَّمَا إِلَى مُعَالَجَاتٍ نَفْسِيَّةٍ، وَيَبْدُو أَنَّ حُضُورَ النَّفْسِ وَغَلَبَةَ الهَوَى إشْكَالِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ تُلَاحِقُ الجَمِيعَ بِمَا فِيهِمُ العُلَمَاءُ المُحْتَرِفُونَ، وَمِنْ هُنَا كَانَ مِنْ أَهَمِّ تَوْصِيَاتِ الأَدْيَانِ بِشَكْلٍ عَامٍّ وَالإِسْلَامِ بِشَكْلٍ خَاصٍّ هُوَ العَمَلُ عَلَى تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا، فَإِشْكَالِيَّةُ العِلْمِ الحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتِ فِي قُصُورِهِ أَحْيَانًا عَنْ بُلُوغِ الوَاقِعِ وَإِدْرَاكِهِ كَمَا هُوَ، أَوْ فِي مَحْدُودِيَّةِ الأَدَوَاتِ المُسْتَخْدَمَةِ فِي البَحْثِ وَالدِّرَاسَةِ، وَإِنَّمَا فِي تَدَخُّلِ النَّفْسِ وَحَرْفِ مَسَارِ العِلْمِ عَنْ إِصَابَةِ الوَاقِعِ الَّذِي لَا يَنْسَجِمُ مَعَ مُيُولِهَا وَتَوَجُّهَاتِهَا، فَكَثِيرًا مَا تَكُونُ الآيدِيُولُوجِيَّةُ هِيَ المُتَحَكِّمَةُ فِي النَّتَائِجِ، يَقُولُ عُمَرُ شَرِيفٌ المُهْتَمُّ بِرَصْدِ الإِلْحَادِ: "العِلْمُ كَثِيرًا مَا يَتْبَعُ الأَيْدِيُولُوجِيَّةَ وَلَيْسَ العَكْسَ، ذَلِكَ أَنَّ العَقْلَ المُحَايِدَ تَمَامًا فِي حُكْمِ المُسْتَحِيلَاتِ، فَهَذَا عَالِمُ المَنَاعَةِ جُورج كلين، يُصَارِحُنَا بِأَنَّ إِلْحَادَهُ لَيْسَ مُنْطَلِقًا مِنَ العِلْمِ، بَلْ كَانَ إِيمَانًا مُسْبَقًا اكْتَسَبَهُ فِي صِبَاهُ. وَيُؤَكِّدُ نَفْسَ المَعْنَى عَالِمُ الوِرَاثَةِ ريتشارد ليونتن فِي حَدِيثِهِ عَنْ صَدِيقِهِ كار ساجان فَيَقُولُ: مِنَ الوَاضِحِ تَمَامًا أَنَّ القَنَاعَاتِ المَادِّيَّةَ لساجان كَانَتْ عَقِيدَةً مُسْبَقَةً شَكَّلَتْ نَظْرَتَهُ لِلعِلْمِ، وَيَتَبَنَّى ريتشارد ليونيت نَفْسَ القَنَاعَةِ الَّتِي نَسَبَهَا لساجان، وَيَقُولُ: إِنَّ المَادِّيَّةَ هِيَ المُطْلَقُ، وَلَنْ نَسْمَحَ لِلأُلُوهِيَّةِ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنَ البَابِ".(1)

     وَالمُلَاحِظُ لمُقَارَبَاتِ الإِلْحَادِ العَرَبِيِّ لِلإِسْلَامِ يَقِفُ عَلَى دَوَافِعَ نَفْسِيَّةٍ تُحَرِّكُهَا أَحْقَادٌ دَفِينَةٌ، الأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِلْحَادَ مَشْرُوعٌ آيدِيُولُوجيٌّ قَائِمٌ عَلَى كَرَاهِيَةٍ مُتَأَصِّلَةٍ لِلإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الإِلْحَادِ مَوْقِفًا عِلْمِيًّا تَأْسِيسِيًّا هَمُّهُ المُسَاهَمَةُ فِي بِنَاءِ وَاقِعٍ أَفْضَلَ، وَإِنَّمَا هُوَ خِطَابٌ الْتِقَاطِيٌّ يَعْتَاشُ عَلَى مُنْجَزَاتِ الغَرْبِ، بَلْ حَتَّى حَرْبِهِ عَلَى الإِسْلَامِ كَانَتْ بِمُبَرِّرَاتٍ تَنْتَمِي إِلَى بِيئَةٍ غَيْرِ البِيئَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، فَبَدَلَ أَنْ يُقَدِّمَ مُقَارَبَاتٍ مَوْضُوعِيَّةً تُعَالِجُ إِشْكَالَاتِ الوَاقِعِ الإِسْلَامِيِّ وَبِرُؤْيَةٍ تَقْتَرِبُ مِنَ الهُمُومِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلمُسْلِمِ، حَصَرَ كُلَّ المُشْكِلَةِ فِي الدِّينِ وَعَمِلَ عَلَى ضَرْبِهِ وَتَصْفِيَتِهِ، وَهُوَ مَوْقِفٌ غَيْرُ مُتَبَصِّرٍ لَا بِالإِسْلَامِ وَلَا بِوَاقِعِ أَزَمَاتِ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ.

     فِي الوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ فِيهِ الإِلْحَادُ أَيَّ مَسَاحَةٍ لِلدِّينِ، بَدَأَتْ الفَلْسَفَةُ الغَرْبِيَّةُ فِي التَّرَاجُعِ عَنْ تَقْيِيمِهَا المُجْحِفِ لِلأَدْيَانِ عَامَّةً، وَعَمِلْتَ عَلَى فَتْحِ البَابِ أَمَامَ تَقْدِيمِ مُقَارَبَاتٍ تَتَفَهَّمُ مِنْ خِلَالِهَا ضَرُورَةَ الدِّينِ فِي المُجْتَمَعَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَنَحْنُ هُنَا لَا نَسْتَجْدِي الإِعْتِرَافَ بِالدِّينِ مِنْ هَذَا الخِطَابِ المُتَطَرِّفِ، وَإِنَّمَا نُشِيرُ إِلَى أَنَّ الإِلْحَادَ - الَّذِي يُقَدِّمُ نَفْسَهُ حَلًا - لَيْسَ إِلَّا تَكْرِيسًا لِمَا تُعَانِيهِ الأُمَّةُ مِنْ أَزَمَاتٍ; فَالإِجْحَافُ وَعَدَمُ المَوْضُوعِيَّةِ الَّتِي يُمَارِسُهَا الإِلْحَادُ فِي تَقْيِيمِهِ لِلإِسْلَامِ، تُسَاهِمُ وَبِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ فِي تَعْزِيزِ التَّعَصُّبِ وَضَيَاعِ العَقْلِ وَتَغْلِيبِ الجَهْلِ، وَلَا شَيْءَ غَيْرُ ذَلِكَ سَاهَمَ فِي خَلْقِ مَا تُعَانِيهِ الأُمَّةُ مِنْ أَزَمَاتٍ.

     وَفِي الخِتَامِ نَقُولُ: إِنَّ الإِلْحَادَ لَمْ يُقَدِّمْ أَيَّ طَرْحٍ عِلْمِيٍّ حَتَّى يُطَالِبَنَا بِالإِعْتِرَافِ بِهِ كَبَاحِثٍ عَنْ الحَقِيقَةِ.

  _____________________

 

 (1) عمر شريف، خرافة الالحاد، مكتبة الشروق القاهرة، ط 2014، ص 60