بيانُ معنَى (النَّسيءِ).

علي أكبر: السَّلامُ عليكمُ، مَا هُوَ النَّسيءُ المَذكورُ فِي سُورةِ التَّوبةِ آيَة 37؟ حَبَّذَا تَفسِيرٌ للآيَةِ الكَريمَةِ جَزَاكُمُ اللهُ خَيرَاً.

: اللجنة العلمية

الأخُ عَليٌّ المُحتَرَمُ، عليكُمُ السَّلامُ ورَحمَةُ اللهِ وبَركاتُه 

جَاءَ فِي "المِيزَانِ" للسَّيِّدِ الطَّباطبائيِّ: (قولُهُ تَعالَى: (إنَّمَا النَّسيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفرِ) إلى آخِرِ الآيَةِ يُقالَ: نَسَا الشَّيءَ يَنسؤُهُ نَسْأً ومَنْسَأةً ونَسيئَاً إذَا أخَّرَهُ تأخيرَاً، وقَدْ يُطلَقُ النَّسيءُ على الشَّهرِ الَّذِي أُخِّرَ تَحريمُهُ عَلى مَا كانتِ العَربُ تَفعلُهُ فِي الجَاهليَّةِ فإنَّهُمْ رُبَّمَا كانُوا يُؤخِّرُونَ حُرمَةَ بَعضِ الأشهرِ الحُرُمِ إلى غَيرِهِ وأمَّا أنَّهُ كَيفَ كَانَ ذلكَ فَقدْ اِختلفَ فِيهِ كَلامُ المُفسِّرينَ كأهلِ التَّاريخِ.

والَّذِي يَظهَرُ مِنْ خِلالِ الكَلامِ المَسرودِ فِي الآيَةِ أنَّهُ كانَتْ لَهُمْ فِيمَا بَينَهُمْ سُنَّةٌ جاهليَّةٌ فِي أمرِ الأشهرِ الحُرُمِ وهِيَ المُسمَّاةُ بالنَّسيءِ، وهُوَ يَدلُّ بِلَفظِهِ عَلى تَأخيرِ الحُرمَةِ مِنْ شَهرٍ حَرامٍ إلى بَعضِ الشُّهورِ غَيرِ المُحرَّمَةِ الَّتِي بَعدَهُ، وأنَّهُمْ إنَّمَا كانُوا يُؤخِّرُونَ الحُرمَةَ ولا يُبطِلُونَهَا بِرَفعِهَا مِنْ أصْلِهَا لإرادتِهِمْ بِذلكَ أنْ يَتحفَّظُوا على سُنَّةٍ قَوميَّةٍ وَرِثُوهَا عَنْ أسلافِهِمْ عَنْ إبراهيمَ عليهِ السَّلام.

فكانُوا لا يَتركونَ أصلَ التَّحريمِ وإنَّمَا يُؤخِّرونَهُ إلى غَيرِ الشَّهرِ سَنةً أو أزيَدَ ليُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ، وهيَ الأربعةُ ثُمَّ يَعودُونَ ويُعيدُونَ الحُرمَةَ إلى مَكانِهَا الأوَّلِ.

وهذا نَوعٌ مِنَ التَّصرُّفِ فِي الحُكمِ الإلهيِّ بَعدَ كُفرِهِمْ باللهِ باِتّخاذِ الأوثانِ شُركاءَ لَهُ تَعالى وتَقدَّسَ، ولِذَا عَدَّهُ اللهُ سُبحانَهُ فِي كلامِهِ زِيادَةً فِي الكُفرِ.

وقَدْ ذَكرَ اللهُ سُبحانَهُ مِنَ الحُكمِ الخَاصِّ بِحُرمَةِ الأشهُرِ الحُرُمِ النَّهيَ عَنْ ظُلمِ الأنفسِ حَيثُ قَالَ: (فَلا تَظلمُوا فيهنَّ أنفُسَكُمْ) وأظهرُ مَصادِيقِهِ القِتالُ كَما أنَّهُ المِصداقُ الوَحيدُ الَّذِي إستفتَوا فِيهِ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ فَحكاهُ اللهُ سُبحانَهُ بِقَولِهِ: (يَسألونَكَ عَنِ الشَّهرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) الآيةُ البَقرةُ : 217 وكَذا مَا فِي مَعناهُ مِنْ قَولِهِ: (لا تُحلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهرَ الحرامَ) المَائدةَ : 2 وقولِهِ: (جَعلَ اللهُ الكَعبةَ البَيتَ الحَرامَ قِيامَاً للنَّاسِ والشَّهرَ الحَرامَ والهَديَ والقلائِدَ). المائِدَةَ: 97.

وكذلكَ الأثرُ الظَّاهرُ مِنْ حُرمةِ البَيتِ أو الحَرمِ هُوَ جَعلُ الأمنِ فيهِ كمَا قالَ: (ومَنْ دَخلَهُ كَانَ آمِنَاً) آلُ عِمرانَ : 97 وقالَ: (أولَمْ نُمكِّنْ لهُمْ حَرمَاً آمِنَاً). القصص : 57 .

فالظَّاهِرُ أنَّ النَّسيءَ الَّذِي تَذكرُهُ الآيَةُ عَنهُمْ إنَّمَا هُوَ تَأخيرُ حُرمَةِ الشَّهرِ الحَرامِ.

للتَّوسُّلِ بذلِكَ إلى قِتالٍ فِيهِ لا لِتأخيرِ الحَجِّ الَّذِي هُوَ عِبادَةٌ دِينيَّةٌ مُختصَّةٌ ببَعضهَا.

وهَذا كُلُّهُ يُؤيِّدُ مَا ذَكرُوهُ: أنَّ العَربَ كانَتْ تُحرِّمُ هذهِ الأشهُرَ الحُرمَ، وكَانَ ذلكَ مِمَّا تمسَّكَتْ بِهِ مِنْ مِلَّةِ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهمَا السَّلامُ، وهُمْ كانُوا أصحابَ غاراتٍ وحُرُوبٍ فرُبَّمَا كانَ يَشقُّ عليهِمْ أنْ يَمكثُوا ثلاثَةَ أشهرٍ مُتواليَةٍ لَا يَغزونَ فِيهَا فكَانُوا يؤخِّرُونَ تَحريمَ المُحرَّمِ، إلى صَفرَ فيُحرِّمُونَهُ ويَستحِلُّونَ المُحرَّمَ فيَمكثُونَ بذلِكَ زَمانَاً ثُمَّ يَعودُ التَّحريمُ إلى المُحرَّمِ، ولا يفعلونَ ذلكَ أيْ إنساءَ حرمةِ المُحرَّمِ إلى صَفرَ إلَّا فِي ذِي الحِجَّةِ.

وأمَّا مَا ذَكرَهُ بَعضُهُمْ أنَّ النَّسيءَ هُوَ مَا كانُوا يُؤخِّرُونَ الحَجَّ مِنْ شَهرٍ إلى شَهرٍ فهوَ ممَّا لا يَنطبقُ عَلى لفظِ الآيةِ البَتَّة.

بلْ قولُهُ تعالى: (إنَّمَا النَّسيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفرِ) هُوَ تَأخيرُ الحُرمَةِ الَّتِي شَرَّعهَا اللهُ لهذهِ الأشهرِ الحُرُمِ مِنْ شَهرٍ مِنهَا إلى شَهرٍ غيرِ حَرامٍ زيادَةً فِي الكُفرِ لأنَّهُ تَصرُّفٌ فِي حُكمِ اللهِ المَشروعِ وكُفرٌ بآياتِهِ بَعدَ الكُفرِ باللهِ مِنْ جِهةِ الشِّركِ فَهُوَ زِيادَةٌ فِي الكُفرِ). إنتهى. [الميزانُ فِي تَفسيرِ القُرآنِ، للسَّيِّدِ الطَّباطبائيُّ، ج9 ص 272].

ودُمتُمْ سالِمينَ.