هل الحجاب عادة جاهلية؟

السؤال: الحجاب كان من عادات العرب في الجاهلية؛ لأنَّ العرب طُبِعوا على حماية الشّرف، ووأدوا البنات خوفًا من العار، فألزموا النساء بالحجاب تعصباً لعاداتهم القبلية التي جاء الإسلام بذمِّها وإبطالها، فالالتزام بالحجاب رجعية وتخلُّف عن ركب الحضارة والتقدم..

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أولاً: الادّعاء بأنّ الحجاب كان من عادات العرب في الجاهليّة ادّعاء لا تسنده الشواهد التأريخية؛ بل المرويّات في هذا الشأن تكاد تكون معدومةً، حيث لم يروِ لنا التاريخ بشكل واضح وصريح ما كانت تلبسه النساء في ذلك الوقت، وكلّ ما يمكن الاعتماد عليه في هذا الشأن هو ما جاء في أشعار الجاهليّة من وصفٍ للنساء ولباسهن، وما وصفته تلك الأشعار من حال المرأة ولباسها يؤكد ميلهن إلى التبرج وإظهار الزينة، وهو الأمر الذي أكّده القرآن الكريم في سياق أمره للمرأة المسلمة بالحجاب، حيث طالبها بالتخلق والتستر والعفاف حتى لا يكون حالها كحال النساء في الجاهلية، يقول تعالى: (ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليَّةِ الأولى) أي إنّ الواجب على المرأة المسلمة أن تكون متميّزة عن نساء الجاهلية بالسّتر وعدم التبرّج، وقد روى السيوطي في الدر المنثور عن ابي حاتم ومقاتل وصف لباس المرأة في الجاهليّة بقوله: "تُلقي الخمار على رأسها ولا تَشُدُّه، فيواري قلائدها وقُرُطَها وعُنقها، ويبدو ذلك كلّه منها" (الدر المنثور ج6، ص 602).

وقيل: أنّ المرأة في الجاهليّة كانت تلبَس الدِرْع من اللؤلؤ، أو القَميص من الدُّرِّ غير مَخيط الجانبين، وتلبس الرّقاق من الثياب ولا تُواري بدنَها، فتمشي وسط الطّريق، تعرض نفسَها على الرّجال، وقد يصل هذا التبرج إلى العُرْي الكامل في بعض الأحيان، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: "كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافاً؟ تجعله على فرجها، وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله * فما بدا منه فلا أحله"، (صحيح مسلم ج4، ص 2320).

وكان إعطاء المرأة ما تطوف به يُعَدُّ من البِرّ.

وفي لسان العرب: "وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ عُرْيانَةً أَيضاً إِلّا أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَس رَهْطاً مِنْ سُيور؛ وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ:

اليومَ يَبْدو بعضُه أَو كلُّهُ ... وَمَا بَدا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ

تَعْنِي فَرْجَهَا أَنه يَظْهَرُ مِنْ فُرَجِ الرَّهْطِ الَّذِي لَبِسَتْهُ" (لسان العرب ج12 ص 120)

ثانياً: وصفُ الحجاب بالعادة الجاهلية لا يخلو من المغالطة؛ وذلك لأنّ هذا الوصف يقوم على الخلط بين أمرين:

الأول: ضرورة الستر. والثاني: نوع الستر.

وبعبارة أخرى: إنّ هناك خلط بين الغاية من الحجاب، ونوع الحجاب، فمثلاً إذا كانت الغاية من السيارة هي الانتقال من مكان إلى مكان فإنّ نوع السيارة وموديلها شيء آخر تماماً غير تلك الغاية، فيمكن أن تتبدل أشكال السيارة وموديلاتها وتظلّ الغاية ثابتة.

وعليه: كلّ مَنْ أنكر الحجاب في الإسلام بداعي تبدّل العادات وقع ضحيّة هذه المغالطة، فإنّ ضرورة السّتر لها علاقة بالجانب الفطريّ والدّينيّ، بينما نوع الستر له علاقة بالجانب الحضاريّ والاجتماعيّ.

فالكلام عن نوع اللباس وشكله يأتي بعد التسالم على أنّ هناك عورة يجب سترها، وقد سعى الإنسان منذ أنْ وجد على هذه الأرض إلى ستر عورته، الأمر الذي يؤكّد على وجود دافع فطريّ لذلك، وإلا مَن الذي هدى البشريّة وأرشدها لستر عورتها على امتداد التأريخ؟

ومع ذلك نسلّم بوجود مساحة للاختلاف بين الأعراف في مقدار ما يَجب ستره من عورة المرأة والرجل؛ لأنّ الدّافع العقليّ والفطريّ بعيداً عن أيّ اعتبار آخر لا يتجاوز حدود المقدار المتيقّن من العورة، ولذلك نجد المجتمعات البدائية اكتفت فقط بستر العورة المغلّظة دون غيرها.

أمّا الدّين وبوصفه مشروعاً يستهدف جوانبَ متعددة من حياة الإنسان مثل نزاهة المجتمع وطهارته فلا بدّ أن يكون له نظرة خاصّة تراعي مقوّمات ومعوّقات ذلك المشروع، ومن هنا نجد أنّ الإسلام ميّز ما بين عورة الرجل وعورة المرأة، في حين اكتفى بستر العورة المغلّظة بالنسبة للرجال، لم يكتفِ بذلك بالنسبة للنساء، والسّبب في ذلك أنّ جسم المرأة له خصوصيّة أخرى وهي كونه زينة، ومن هنا أمرها الشارع بستر جسدها، حفاظاً عليها من نظرات الطّامعين، وحفاظاً على طهارة المجتمع وعفّته.

والنّاظر لآيات الحجاب يجد أنّها لم تتحدّث عن العورة وإنّما تحدّثت عن الزينة، فستر العورة أمرٌ مفروغ منه عقلاً وفطرةً، ولذا من الطبيعيّ التركيز على حيثية أخرى يراها الدّين ضرورية، ولا تلتفت لها الثقافة المجتمعيّة، قال تعالى: (وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ)، وبذلك يكون الإسلام حرّم على المرأة إظهار زينتها، وتدخُّل الإسلام في تحديد ما يجب على المرأة تغطيته أمرٌ متوقَّع وضروريّ في نفس الوقت؛ لأنّ إيكال ذلك للعرف والثقافة المجتمعية فيه ضياعٌ لكثير من القِيَم الأخلاقية التي يراعيها الإسلام ويُهملها العرف، فالإسلام بوصفه مشروع للإنسان لا يكتفي بالحياة التقليدية القائمة على العادات والتقاليد، وإنما يعمل على بناء الفرد والمجتمع بالشكل الذي تتحقق معه فلسفة خلق الإنسان ووجوده في هذه الحياة.

ومن خلال ما تقدّم يتبيّن أنّ وظيفة الإسلام منحصرة في بيان المقدار الذي يتمّ ستره، أمّا كيفَ؟ وبأيّ وسيلة؟ وما هو شكل الحجاب؟ فإنّ الإسلام لم يتدخل في كلّ ذلك وأوكله إلى العرف.

وبهذا تنكشف المغالطة التي تُسوّق للثقافة المجتمعية بوصفها المسؤولة عن تحديد لباس المرأة وليس الدّين، وطبيعة المغالطة هي الاعتماد على فكرة صحيحة ولكن تطبيقها في غير موردها الصحيح، فالدّين لم ينازع العرف في ما يجب على المرأة أنْ تلبسه وإنّما حدّد المساحة التي يجب أنْ تغطّيها.

وعليه: فإنّ المرأة في الإسلام حرّةٌ فيما تلبس، ولكن بشرط أنْ يغطي زينتَها، وأنْ لا يكون لباسها زينة في حدّ نفسه.

وهذا المقدار من التّدخل حقّ تكفله طبيعة القوانين لأيّ مشرّع، فإذا كان من حقّ المشرّع الفرنسيّ تشريع قانون يمنع المرأة من الحجاب لأنّه يتعارض مع مشروعها العلمانيّ، فكذلك من حقّ الإسلام أنْ يشرّع الحجاب لأنه يتكامل مع مشروعه الإسلامي، وكما أنّ المشرّع الفرنسيّ لم يكتفِ بما تفرضه الثقافة المجتمعيّة من مقدار ما يجب تغطيته، كذلك لم يكتفِ المشرّع الإسلاميّ بالثقافة المجتمعيّة في تحديد المقدار الذي يجب تغطيته.

وفي المحصلة: يمكننا أنْ نقول أنّ الحجاب بمعنى ستر المرأة لزينتها فريضة دينيّة ولا علاقة له بالأعراف، بينما شكل الحجاب وكيفيته هو الذي يرتبط بالعادات والموروث الاجتماعي، ولم يتدخّل الإسلام في ذلك إلا بشرط واحد وهو أنْ لا يكون زينةً في نفسه أو مُظهِرَاً لزينة المرأة.