هل يعذب الميت ببكاء أهله؟
روى البخاري ومسلم حديث: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، وبصـرف النظر عن الفصيلات، فقد أجمعوا على أنه محمول على البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد الدمع وحمله عامة أهل العلم على ما إذا أوصى بذلك، وأما من بكوا عليه وناحوا من غير وصية فلا لقوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ([1]) وعلى الحديث جملة من المناقشات والنقود نجملها في نقاط كالآتي:
اولاً: الاختلاف في نقل الحديث ورد عائشة له:
ثمة أمران يدخلان تحت هذا النقد:
اولاً: رفض عائشة للحديث برواية عمر وابنه عبد الله، وثانياً: لعائشة رواية أخرى، وهذا يؤسس عنوانا جديداً "اختلاف لفظ الحديث".
وقد عبرتْ عائشة عن ذلك بأكثر من عبارة ولها أكثر من لفظ في هذا السياق، ففي أحدها تقول: ان عبد الله بن عمر راوي الحديث وهلَ ـ كما في البخاري ـ او نسـي او اخطأ وان اللفظ الصحيح "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ".
وفي تعبير آخر تقول: إنّ الصحيح هو: "إِنَّ الْكَافِرَ يَزِيدُهُ اللهُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَذَابًا" وان عمر وابنه قد اخطئا السمع وليسا بكاذبين او مكذّبَين.
وفي ثالث ترى أنّ ابن عمر: "سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ تَبْكُونَ، وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ".
وغير ذلك كله تفيد أيضاً: "إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» كل ذلك في مسلم"([2]).
ثانياً: مخالفة الحديث للفطرة والعقل والقران:
أما مخالفته للفطرة، فواضح بعد الالتفات إلى أنّ البكاء ظاهرة فطرية في الإنسان كما مرّ عليك، مضطر إليه ومجبول عليه عند حدوث أسبابه كفقد عزيز عليه، ولا شك أنّ أحكام الإسلام لا تتعارض بحال مع فطرة! "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"([3]).
وأما مخالفته للعقل، فلمنافته للعدل الإلهي فما هو ذنب الميت ليعذب بفعل غيره وهو بكاء اهله؟! وفي هذا السياق يقول المفيد (توفي سنة: 413 هـ ): "إن هذا جور لا يجوز في عدل الله تعالى وحكمته، وإنما الخبر فيه أن النبي 9 مر بيهودي قد مات وأهله يبكون عليه، فقال إنهم يبكون عليه وإنه ليعذب ولم يقل إنه معذب من أجل بكائهم عليه. وهذا مذهب أهل العدل كافة ويخالف فيه أهل القدر والإجبار"([4]).
ومخالفته للقرآن حتمية، فإنّه يقرر أنّ "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" ([5]) وأنّ الوزر لا يتحمله إلا وازره: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى".([6])
وقضية أنّ الانسان لا يؤاخذ إلا بذنبه مسلّمة قرآنية: )وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(([7]) ودفع هذه المعارضة بـما إذا كان البكاء بصوت أو إذا أوصى الميت بذلك لا دليل عليه ولا ترتفع به المعارضة بين الحديث وبين آيات الكتاب العزيز.
التوجيه المقبول للحديث
لم يرد حديث: "إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" إلا عن طريق عبد الله بن عمر وأبوه ، وهو مخالف لما تواتر عن أهل البيت الذين حصـر تلقي الدين ومعارفه بهم، وهذه في الحقيقة قادحٌ آخر للحديث، بيد أنّا هنا نقبله لكن لا برواية عبد الله بن عمر، بل بما مرّ عن عائشة من أنّ ثمة خطأ او نسيان وقع في سماعه عن النبي الاكرم (9) وان الصيغة الصحيحة له "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ".
او غيرها من الصيغ التي تؤدي نفس هذا المعنى، أكّد المفيد ذلك بقوله أعلاه: وإنما الخبر فيه أن النبي صلى الله عليه وآله مر بيهودي قد مات وأهله يبكون عليه، فقال إنهم يبكون عليه وإنه ليعذب ولم يقل إنه معذب من أجل بكائهم عليه ([8]).
اترك تعليق