السهو والغفلة عن الآخرة

: السيد مهدي الجابري الموسوي

من كلام للإمام الحسن (عليه السلام) في سهو الناس وغفلتهم عن الآخرة

قوله: (الناس في دار سهو وغفلة، يعملون ولا يعلمون، فإذا صاروا إلى دار الآخرة صاروا إلى دار يقين يعلمون ولا يعملون).

الشرح:

إن عمر الإنسان قصير، وحياته مهما طالت فهي إلى زوال، وإن متاع الحياة الدنيا قليل، ولو انتبه هذا الإنسان من غفلته إلى من كانوا حوله يأكلون ويشربون ويتمتعون ويتلذذون حتى فارقوه ورحلوا إلى دار البقاء، ولم يحملوا معهم إلا ما قدموا من حسنات وسيئات، وإن هذا هو حال من رحلوا من دار الفناء إلى دار البقاء، ثم نظر بعد ذلك إلى حاله مع الدار الآخرة لوجد نفسه في غفلة كبيرة وبعد عظيم عنها، يُصرَف كل يوم عن الدنيا وهو متعلق بها، وأما الآخرة وهي دار البقاء والخلود فتراه زاهداً فيها أشد الزهد، على الرغم من علمه بأن وعد الله حق، وأن الموت حق، وأن الساعة حق، وأن الناس مبعوثون إلى ميقات يوم معلوم، وأنهم موقوفون بين يدي علام الغيوب, وسيسألون عن كل صغيرة وكبيرة، وعن كل نقير وقطمير, ومع ذلك فهو معرض عن التزود لدار المقام.

إن الغفلة داء عضال، ومرض فتاك، عصف بالماضين فأهلكهم؛ لأنهم سهوا عن طلب النجاة لأنفسهم، وغفلوا عن التزود لدار المقام، وما أن استيقظوا من غفلتهم حتى وجدوا أنفسهم موسدين في قبورهم، مرتهنون بأعمالهم، يتمنى الواحد منهم أن يرجع إلى الدنيا كي يقدم زاداً يجده بين يدي ربه عندما تنشر الصحائف، وتفضح الخلائق بما قدموا من مساوئ أعمالهم, ويقول الحق تعالى في مثل حال أولئك: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا )(1).

ويعصف ذاك بالأحياء - كما عصف بالماضين - فيبعدهم عن التزود لدار المقام حتى يرديهم الموت فيصبحوا من الخاسرين.

هذا، ونلحظ أن الإمام الحسن (عليه السلام) في حديثه عن سهو الناس وغفلتهم في دار الدنيا عن الآخرة يشير إلى ما هو من الأهمية بمكان، ولكي يتسنى لنا فهم كلامه (عليه السلام) وتبين مرامه ومرماه فلا بد أن ندرسه بصورة مجزأة ثم نلحقه بحصيلة ما تمت دراسته لأجل بيان المعنى الذي يرمي إليه الإمام المجتبى (عليه السلام) من خلال هذا الحديث.   

قال (عليه السلام) :( الناس في دار سهو وغفلة ... ).

هنا يشير الإمام (عليه السلام) بقوله: (الناس في دار سهو وغفلة) إلى دار الدنيا، وهذا واضح لا غموض فيه، إلا أننا أحوج ما نكون إلى بيان معنى السهو والغفلة، وإليك ذلك تباعاً:

مفهوم السهو:

سها عن الشيء يسهو سهواً: غفل. وفرّقوا بين الساهي والناسي:

بأنّ الناسي إذا ذكرته تذكَّر، والساهي بخلافه. والسهوة: الغفلة (2). 

والسهو لفظ يدلّ على الغفلة والسكون. فالسهو: الغفلة (3).

والسهو: خطأ عن غفلة، وذلك ضربان: أحدهما أن لا يكون من الإنسان جوالبه ومولَّداته كمجنون سبّ إنسانا. والثاني أن يكون منه مولَّداته كمن شرب خمراً ثمّ ظهر منه منكر لا عن قصد إلى فعله. والأوّل معفوّ عنه، والثاني مأخوذ به. وعلى نحو الثاني ذمّ الله تعالى فقال: * (فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ)، (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (4).

والسهو: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه، وإنّه لساهٍ بيّن السهو والسهوّ، وسها الرجل في صلاته: إذا غفل عن شيء منها (5).

والفرق بين النسيان والسهو: أنّ النسيان إنّما يكون عمّا كان، والسهو يكون عمّا لم يكن، تقول نسيت ما عرفته.

وفرق آخر: أنّ الإنسان إنّما ينسى ما كان ذاكراً له. والسهو يكون عن ذكر وعن غير ذكر، لأنّه خفاء المعنى بما يمتنع به إدراكه(6) .

فالأصل الواحد في هذه المادّة: هو الغفلة عن عمل يقصده ويريد أن يعمل به، كلاً أو جزءاً، ظاهريّاً أو معنويّاً.

فإذا كان السهو بسبب اختيار مقدّمات توجبه: فهو مأخوذ به، وكذلك إذا كان عن قصد وعمد، وهذا لا يطلق عليه السهو.

فالسهو إنما يتعلَّق بعمل من نفسه، وإذا تعلَّق بعمل من الغير فهو غفلة، وإذا كان أخطأ في تشخيص المصداق ولم يصبه: فهو خطأ، سواء كان في حكم أو في موضوع أو عمل. وإذا كان الخطأ بتعمّد وقصد: فهو

 عصيان وإثم(7).

الفرق بين السهو في الشيء والسهو عنه: 

السهو في الشيء تركه عن غير علم، والسهو عن الشيء هو تركه مع العلم به(8).

ولتقريب الصورة نضرب مثلاً لذلك السهو في الصلاة والسهو عنها، إذ لا شك في أنّ معنى السهو أثناء الصلاة مختلف تماماً عن السهو عن أداء الصلاة، ولبيان الفرق بين السهو في الصلاة وبين السهو عنها، أقول: 

السهو في الصلاة:

 السهو في الصلاة أمر يحدث كثيراً، ولا ينجو منه إلا من عصمه الله، وهنا يقصد بالسهو في الصلاة هو ما يقابل الخشوع، وله حكمه المختلف عن السهو عن الصلاة، فالمسلم هنا يحرص على أداء الصلاة، ولكن بسبب انشغال العقل بمختلف الأمور وإلهاء الشيطان له قد يفقد الشخص الخشوع والتركيز في الصلاة، وقد أجاز الشارع للمسلم أن يسجد سجود السهو ليجبر ذلك السهو والنقص الذي حدث في الصلاة.

السهو عن الصلاة:

يقصد بالسهو عن الصلاة عدم إقامة الصلاة، وقد قال الله تعالى في كتابة المجيد عمّن يتركون الصلاة في سورة الماعون (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)، فالوعد بالويل هنا ليس للمصلين الذين هم في صلاتهم ساهون بل للذين هم عن صلاتهم ساهون، وهذا هو الفارق بين السهو في الشيء والسهو عنه، وكلام الإمام المجتبى (عليه السلام) يدور مدار السهو عن الشيء لا السهو فيه.

 وعليه، فعلى من ضيّع ما افترضه الله سبحانه عليه من حقوق وواجبات وانشغل عنها بالدنيا وزينتها ألا ينتظر التوفيق من الله في حياته ولا النجاة في آخرته. 

مفهوم الغفلة: 

الغفلة: غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكُّره له، وأغفلت الشيء إغفالاً: تركته إهمالاً من غير نسيان (9).

والغفلة تدلّ على ترك الشيء سهواً، وربّما كان عن عمد، من ذلك غفلت عن الشيء غفلة وغفولاً، وذلك إذا تركته ساهياً، وأغفلته إذا تركته على ذكر منك له(10) . 

وأغفلت الشيء: تركته غفلاً وأنت له ذاكر. وغفل عن الشيء يغفل غفلة وغفولاً، والتغافل: التعمّد (11). 

فالأصل الواحد في المادّة: هو ما يقابل التذكُّر. وقلنا في السهو: إنّ السهو غفلة عن عمل يقصده ولم يكن، سواء كان عن ذكر أم لا. والغفلة تكون عمّا يكون. كما أنّ النسيان يكون عمّا كان ذاكراً له.

فالغفلة: عبارة عن انتفاء التذكُّر، والتغافل: استمرار الغفلة (12).

وفي بيان الفرق بين السهو والغفلة يقول العسكري: إنّ الغفلة تكون عمّا يكون، والسهو يكون عمّا لا يكون، تقول: غفلت عن هذا الشيء حتّى كان، ولا تقول: سهوت عنه حتى كان؛ لأنك إذا سهوت عنه لم يكن، ويجوز أن تغفل عنه ويكون، وفرقٌ آخر أن الغفلة تكون عن فعل الغير، تقول: كنت غافلاً عما كان من فلان، ولا يجوز أن يسهى عن فعل الغير (13).

والفرق بين الغفلة والنسيان: أن الغفلة ترك باختيار الغافل بدليل قول الحق سبحانه: (وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)(14)، وأما النسيان فهو ترك بغير اختيار الناسي ، ولهذا لم يقل رب العزة جلّ وعلا: ولا تكن من الناسين ، لأن الناسي ممن رفع عنه قلم التكليف لقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)(15), فتنبه للفرق.

الغفلة في القرآن:

وردتْ مادَّة (غَفَلَ) بمُشتقَّاتها في القرآن الكريم في أكثر من خمسة وثلاثين موضعاً، وهنا نستعرض أهمَّ صورها وأشكالها في:

1- اتباع الهوى والبُعد عن الله (سبحانه وتعالى):

وتُعتبَر هذه الصورة هي أكثر الصور التي يُعلِّق عليها القرآن الكريم، ويُصوِّرها للإنسان البعيد عن مولاه المُتَّبِع لهَواه؛ قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )(16).

وقال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)(17).

 2 - قسوة القلب وعدم الخشية:

ويظهر ذلك في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )(18).

3 - عدم تذكر اليوم الآخِر:

قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(19). 

وقال تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ )(20) .

وقال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ )(21) .

وقال تعالى: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ )(22).

وقال تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ )(23) .

4 - تعطيل وسائل الإدراك:

قال تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )(24) .

وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )(25).

وقال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )(26).

وقال تعالى: (فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)(27).

5 - الظلم وبطر الحق:

قال تعالى: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ )(28).

وقال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ )(29) .

ثم يتحدَّث القرآن عن حالات الانحراف العقائدي، فيقول سبحانه وتعالى: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا)، أي: لا يفكّرون في الآخرة ولا يستعدّون لها، (وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا)، وكأنهم أُخبروا بأن الدنيا نهاية المطاف، (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)، غفلوا عن الآيات الّتي في أنفسهم وفي هذا الكون، فأغمضوا عيونهم وعطّلوا عقولهم وأغلقوا قلوبهم عن النظر إلى آيات الله في أنفسهم وفيما حولهم، فغفلوا عنها، ولم ينفتحوا على الآخرة وعلى لقاء الله سبحانه وتعالى، (أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)(30).

ومن جميع ما تقدم يتضح لنا معنى قول الامام المجتبى (عليه السلام) :(الناس في دار سهو وغفلة ...) أي ان الناس في الدنيا ساهون فيها عن طلب النجاة لأنفسهم، وغافلون فيها عن التزود لدار المقام، تشغلهم شهواتهم واموالهم عن التدبر في آيات الله والتزود للقائه.

هذا، وليست الغفلة قصراً على الجاهل وغير المتعلم بل هناك ممن تبحر في علوم الدنيا وحمل أكبر شهادة في علومها وهو مع ذلك من الغافلين، وفي هذا الخصوص يقول الحق تعالى:) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ((31).

فالغافل هو من تقعد به غفلته عن الترقي في مراتب الكمال ولا سبيل له إلى مقام الإحسان، كما القاعد لا سبيل له للوصول إلى بيته.

فلو كان لشخص ما شجرة يتعاهدها بالسقيا ثم غفل عنها فأنه سرعان ما ستظهر عليها آثار الغفلة كذبول أوراقها وموت أغصانها, وهكذا شجرة الإيمان والتقوى في القلب فان غذائها وسقيها ذكر الله عزّ وجلّ ، ومتى ما غُفِلتْ ذَبلتْ وماتت وحينها يكون مَنْ أهملها مِنَ الغافلين، يقول الحق سبحانه:(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ)(32), فالغافل يأتي يوم القيامة نادماً يسكب خلف آثار غفلته العبرات ويطلق عليها أشد الزفرات.   

وقد أخبر الحق تعالى عن قوم فرعون وبين في كتابه الكريم سبب هلاكهم فقال: (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)(33).

وحدد سبحانه مصير الغافلين بان موعدهم النار بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ*أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(34).

 ويلاحظ أنَّ الآية الشريفة ركّزت على سبب الغفلة وهو الرضى بالحياة الدنيا والاطمئنان بها وعدّ ما فيها نعيم مقيم لا يحول ولا يزول.

فهذا الرضى وهذا الاطمئنان بالحياة الدنيا يتسببان لا محالة في غفلة الناس عن الموت وانهم في يوم راحلين منها، وأنهم سيسألون غداً عما جنت أيديهم. 

فإقبال الناس على الشهوات يعبون منها عباً جعلهم لا يفرقون بين حلالها وحرامها؛ ينقادون لأنفسهم في كل ما تشتهيه بغير تفكير ولا ترو ولا وجل، وهذا الصنف من بني البشر وصفه الحق تعالى في كتابه المجيد وذكر مصيره فقال عزّ من قائل: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ*أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ*لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ)(35), فالطبع على القلوب والأبصار والأسماع انما كان لألفهم الكفر واستثقالهم للحق والايمان كأنهم ما سمعوه ولا رأوه, ولا يراد بذلك نفي تلك الحواس, دلّ على ذلك قوله سبحانه: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)(36), بمعنى يشبهون الناظرين إليك ، لأنهم صُّوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه(37).

فالغافل لا يستجيب لنصيحة ولا يتأثر بموعظة، لأن الطرق التي تدخل منها الموعظة إلى قلبه معطلة وقلبه ساه لاه مشغول بزينة الدنيا متبع لهواه مفرط في أمر دينه ومولاه, وحينها يكون كالمصاب بمرضٍ معدٍ ينتقل إلى كلِّ من جالسه وآخاه ولذلك حذر الله سبحانه من هذا الصنف من الناس بقوله عزّ من قائل: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) أي ولا تطع من جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا بسبب تعرّضه للغفلة وسوء اختياره المعصية على الطاعة ولهذا قال سبحانه : (وَاتَّبَعَ هَواه ُ)(38).

وعليه، فالإنسان إذا انشغل عن الحقوق الواجب من الله سبحانه أدائها عليه، وتوانى عن القيام بها، يُقال فيه: أصمَّه وأعماه، وكما قيل في المثل: حبك للشيء يعمي ويصم - يريدون به ما قلناه - وقال مسكين الدارمي:

أعمى إذا ما جارتي خرجت** * حتى يواري جارتي الخدر

ويصم عما كان بينهما * ** سمعي وما بي غيره وقر(39).

وقال (عليه السلام): (... يعملون ولا يعلمون ...).

أن العمل لمتاع الدنيا اذا كان لا يستلزم محذورا شرعيا وكان موازيا للعمل لمتاع الآخرة الدائم بعد البعث كان ذلك فوزا برضى الله عزّ وجلّ، وبالسعادة والحياة الدائمة الخالدة في الجنة. بحيث يكون كل عمل أو قول يصدر عن الإنسان مطابقا لأحكامه سبحانه وتعالى.

فعلى الانسان ان يعمل لمتاع الدنيا في إطار شرع الله وعبادته وطاعته, وان يتّزود منها بأحسن ما يكون فانّ الدّنيا مزرعة الآخرة وهو لا يكون الَّا بالتّقوى والعمل الصّالح, وعدم الطَّلب من الدّنيا أكثر ممّا بلغ اليه من الرّزق قلّ أو كثر لكونه علامة الحرص المنافي للتوكَّل, فاذا كان الانسان عاملا بهذه الأمور سيكون على يقين في دينه واثقاً بربّه آيسا عن غيره إذ لا مقام للعبد أعلى وأشرف من هذا المقام لكونه جامعاً بين مرتبته الظَّاهرة ومرتبته الباطنة,  وبخلافه ما اذا كان الاهتمام بمتاع الدنيا وزينتها وإهمال العمل لمتاع الآخرة, ومصير من كانت حاله هذه النار مأواه كما قال رب العزة جل وعلا في كتابه المجيد :(إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )(40), فلا فائدة من متاع الدنيا المؤقت إذا لم يعمل الإنسان على طاعة الله عزّ وجل وعبادته؛ لأن متاع الآخرة في الجنة هو الأهم لديمومته وأبديته.

أما ترى أنَّ الانسان إذا غفل عن نفسه أو ماله أو أهله كثر المعاتبون وبرز الناصحون له، فما بالك بمن غفل عن دينه وآخرته وعمل لدنياه وغفل عن طاعة الخالق وعمل على طاعة المخلوق، فتلك حينئذ المصيبة العظمى والطامة الكبرى.

وقال (عليه السلام): (...فإذا صاروا إلى دار الآخرة صاروا إلى دار يقين يعلمون ولا يعملون)

فالناس في حياتهم رغم ما يبدو عليهم من وعي إلا أنهم غافلون عن الآخرة وكأنهم نيام فإذا مات أحدهم انتبه وتيقظ وعاد إليه الوعي الحقيقي.

يسوق الله سبحانه وتعالى للناس الدليل بعد الدليل والحجة بعد الحجة ليعوا ويؤمنوا أن الدنيا الى فناء وان الآخرة هي دار البقاء وسيجازى كل انسان بما قدّم وأخّر, يقول الله جل جلاله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (41), الا ان كثيرا منهم قابلوا ذلك بالإعراض فأصبحوا وكأنهم نيام عن حقيقة ما حولهم, وإلى هذا أشار نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا", أي: رأوا كل شيء مما وعدهم الله به واضحاً جلياً لا لبس فيه، فتكون هذه لحظة الانتباه إلى الله ومنهجه وحقيقة هذ الكون . 

فهم نيام عما ينتظرهم في الآخرة فبعض الناس يصدِّق بيقين، وبعضهم يصدق بشك، وبعضهم يكذّب، ولكنهم جميعاً سيصلون لمرتبة اليقين بعد الموت، فعلى الرغم من يقين كل إنسان بأنه سوف يموت فهناك شك في كل نفس بشرية عن موتها.

فالنائم لا يدرك أنه كان يحلم إلا بعد أن يستيقظ.. كذلك الغافل لا يدرك ما فاته إلا بعد أن يموت ويُكشف عنه الغطاء ويصبح بصره حديداً، فيقول الحق تعالى حكاية عمن كانت حاله هذه: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(42) فحينها يُفاجأ بما قدّم في حياته.

فهم يعملون في الدنيا ويتزودن لها ولا يعلمون ما ينتظرهم في الآخرة، ولكن سيصلون جميعهم لمرتبة العلم اليقيني بعد الموت، ولكن لا يقدرون حينها على عملٍ يتلافون به ما غفلوا عنه في دار الدنيا حيث كانوا يعملون.

خلاصة الكلام:

يقول الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): (الناس في دار سهو وغفلة، يعملون ولا يعلمون، فإذا صاروا إلى دار الآخرة صاروا إلى دار يقين يعلمون ولا يعملون) بمعنى أن الناس في الدنيا ساهون فيها عن طلب النجاة لأنفسهم, وغافلون فيها عن التزود لدار المقام, تشغلهم شهواتهم وأموالهم عن التدبر في آيات الله والتزود للقائه, فهم في حياتهم رغم ما يبدو عليهم من وعي إلا أنهم غافلون عن الآخرة, يعملون في الدنيا ويتزودون لها ولا يعلمون ما ينتظرهم في الآخرة، ولكن سيصلون جميعهم لمرتبة العلم اليقيني بعد الموت ولكن لا يقدرون حينها على عملٍ يتلافون به ما غفلوا عنه في دار الدنيا حيث كانوا يعملون .

فالغافل لا يدرك ما فاته غلا بعد أن يموت ويُكشف عنه الغطاء ويصبح بصره حديداً, فيقول الحق تعالى حكاية عمن كانت حاله هذه: ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )(43) فحينها يُفاجئ بما قدّم في حياته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة المؤمنون: آية 99 – 100.

(2)المصباح المنير – الفيومي -  293.

(3)مقاييس اللغة – ابن فارس -  3 : 107.

(4)مفردات ألفاظ القرآن  - 431.

(5)تهذيب اللغة – الليثي - 

(6)الفروق اللغوية – العسكري - 

(7)التحقيق في كلمات القرآن – المصطفوي - 

(8)سورة الماعون: آية 5 , وانظر: لسان العرب , ج14, ص406 .

(9)ينظر: المصباح المنير – الفيومي -  449.

(10)ينظر: مقاييس اللغة – ابن فارس -  4 : 386.

(11)ينظر: تهذيب اللغة – الليثي - 

(12)ينظر: التحقيق في كلمات القرآن – العلامة المصطفوي – ج7, ص248 .

(13)الفروق اللغوية – العسكري -  388.

(14)سورة الاعراف: آية 205 .

(15)جواهر الكلام – الشيخ حسن الجواهري – 9 : 238 .

(16)سورة الكهف: آية 28 .

(17)سورة الأعراف: آية 205 .

(18)سورة النحل: آية 108 .

(19)سورة الروم: آية 7 .

(20)سورة مريم: آية 39 .

(21)سورة الأنبياء: آية 1 .

(22)سورة الأنبياء: آية 97 .

(23)سورة ق: آية 22 .

(24)سورة الأعراف: آية 179 .

(25)سورة يونس: آية 7 – 8 .

(26)سورة يونس: آية 92 .

(27)سورة الاعراف: آية 139 .

(28)سورة الانعام: آية 131 .

(29)سورة الاعراف: آية 146 .

(30)سورة يونس: آية 7 – 8 .

(31)سورة الروم: آية 7 .

(32)سورة الاعراف: آية 179 .

(33)سورة الاعراف: آية 136 .

(34)سورة يونس: آية 7 – 8 .

(35)سورة النحل: آية 107 – 108 .

(36)سورة الاعراف: آية 198 .

(37)ينظر: التفسير الاصفى – الفيض الكاشاني – 1 : 419 .

(38)ينظر: تفسير مجمع البيان – الشيخ الطبرسي – 6 : 337 .

(39)ينظر: التبيان في تفسير القرآن – الشيخ الطوسي – 1 : 90 , بتصرف.

(40)سورة يونس: آية 7 – 8 .

(41)سورة الحشر: آية 18 .

(42)سورة ق: آية 22 .

(43)سورة ق: آية 22 .