تأثيرِ الزّمانِ والمكانِ على عمليّةِ الإستنباط

: السيد علي الحسيني

بحثُ

تأثيرِ الزّمانِ والمكانِ على عمليّةِ الإستنباط

-لسماحةِ الشّيخِ باقِر الإيروانيّ (دامَ ظلّه)-

 

 

مقدّمة:

       معَ بدايةِ كلِّ دورةٍ أصوليّةٍ جديدةٍ يُتحفُنا سماحةُ آيةِ اللهِ الأستاذُ الشّيخُ باقِر الإيروانيّ (دامَ ظلّه) بمجموعةٍ مِن مطالبَ يصطلِحُ عليها هَو: بالفوائدِ والقواعدِ، مُستبدِلاً بها المباحثَ التي درجَ الأصوليّونَ على تدشينِ كُتبِهم ودروسِهم بها، كمباحثِ: الوضعِ، وتبعيّةِ الدّلالةِ للإرادةِ، والمُركبّاتِ وعلاماتِ الحقيقةِ والمجازِ إلخ؛ إذ يرى سماحتُه أنَّ جُملةً مِنها لا يحتاجُها الفقيهُ في مقامِ الإستنباطِ أو أنَّ حاجتَهُ إليها ضعيفةٌ مُلحقَةٌ بالعدمِ، ومِن ثمَّ يستبدلُها بأُخرى لم يتمَّ تسليطُ الأضواءِ عليها بشكلٍ مُستقلٍّ، وإنّما تجيءُ في ثنايا الأبحاثِ، وبهذا إفتتحَ دورتَهُ الأصوليّةَ الرّابعةَ للعامِ الدّراسيّ: (1435هـ)- وكانَ لي شرفُ حضورِ شطرٍ منها في المدرسةِ الغرويّةِ الواقعةِ في العتبةِ العلويّةِ المُقدّسةِ- وأفادَنا ببعضِ القواعدِ الماتعة، والفوائد النافعة، وكانَ منها: الفائدةُ الرّابعةُ بعنوانِ: (تأثيرُ الزّمانِ والمكانِ على عمليّةِ الإستنباطِ).

      وإنّما خصصتُها بالعنايةِ، وأفردتُها بالتّدوينِ؛ لأهميّةِ موضوعِها، وحسّاسيّتِه، وقلّةِ الكتاباتِ الجادّةِ فيه، وشحّةِ تناولِه في الدّروسِ مِن فقيهٍ مُتضلّعٍ بحجمِ الشّيخِ الأستاذِ (دامَ ظلّهُ) المعروفُ ببراعتِه في الدّرسِ، وأسلوبِه السّهلِ المُمتنعِ، حتّى أنّهُ إستطاعَ لملمةَ الموضوعِ معَ أمثلةٍ مُتنوّعةٍ بواقعِ ستّةٍ دروسٍ فقط، وفيما عدا الدّرسِ الأوّلِ الذي يُمثّلُ مدخلاً للموضوعِ؛ لِما ينطوي عليهِ مِن إثباتِ مشروعيّةِ أصلِ البحثِ وتأصيلِه؛ فإنَّ مجموعَ دروسِ البحثِ تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ/فصول:

1-    ما يقعُ تحتَ تأثيرِ الزّمانِ جزماً.

2-    ما لا تأثيرَ للزّمانِ عليه جزماً.

3-    ما يقعُ محلاًّ للنّظرِ، ويقبلُ الإحتمالين.

       وقد حرصتُ على أن يكونَ النّصُّ المكتوبُ مُطابِقاً تمامَ المُطابقةِ للنّصِّ المسموعِ، إلّا في حالاتِ الضّرورةِ، وهيَ نادرةٌ جدّاً، آمِلاً أن يستفيدَ منها طُلّابُ العلمِ والمعرفة.

29 ربيع الثّاني/1442هـ /عليّ الحُسينيّ

المدخلُ: [مشروعيّةُ البحثِ وتأصيلُه].

      لا إشكالَ في أنَّ أحكامَ الشّريعةِ الإسلاميّةِ مُستمرّةٌ على ما هيَ عليه إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، وقَد دلّ على ذلَك:

أوّلاً- بعضُ الرّواياتِ، مِن قبيلِ ما جاءَ في الكافي في ذيلِ صحيحةِ زُرارة: سألتُ أبا عبدِ الله عليه السّلام عنِ الحلالِ والحرام، فقالَ: حلالُ مُحمّدٍ حلالٌ أبداً إلى يومِ القيامة وحرامُه حرامٌ أبداً إلى يومِ القيامةِ " (الكافي، الكُلينيّ، ج1، ص58، وأيضاً في ج2، ص17، ذيل ح2).

ثانياً- بقطعِ النّظرِ عنِ الرّواياتِ يكفينا التّمسّكُ بالقاعدةِ فإنّها تقتضي الإستمرارَ فإنَّ دليلَ كُلِّ حُكمٍ كما لهُ إطلاقٌ إفراديٌّ مثلاً وغيرُ ذلكَ، لهُ أيضاً إطلاقٌ أزمانيّ، فحينَما يُقالُ: ﴿يا أيُّها الذينَ آمنوا إذا نُوديَ للصّلاةِ مِن يومِ الجُمعة فاسعوا إلى ذكرِ اللهِ ﴾ [الجُمعة : 9]، فهذا فيهِ إطلاقٌ إذ هوَ لَم يقُل إسعُوا في هذا العامِ أو إلى زمانِ الغيبةِ الصُّغرى أو إلى زمانِ كذا بَل هوَ ليسَ مُقيّداً بقيدٍ ومُقتضى إطلاقِه الأزمانيّ يعني شمولَ جميعِ الأزمان.

إذَن، الحلالُ والحرامُ مُستمرّانِ إلى يومِ القيامة؛ لوجهينِ هُما: بعضُ الرّواياتِ، والإطلاقُ الأزمانيّ لكُلِّ حكمٍ. وإذا سلّمنا بهذا فعنصرُ الزّمانِ والمكانِ كيفَ يُؤثّرُ في الأحكامِ ؟! إنَّ الزّمانَ يُؤثّرُ لو فُرضَ أنَّ الأحكامَ كانَ يمكنُ أن تكونَ مُختصّةً بزمنٍ دونَ زمن أمّا بعدَ أن قُلنا باستمرارِها إلى يومِ القيامةِ فلا معنى لهذا الإحتمالِ منَ الأساس، فبابُ هذا البحثِ لابُدَّ مِن غلقِه منَ البدايةِ ؟!

والجوابُ: إنَّ كلَّ حُكمٍ منَ الأحكامِ كوجوبِ الحجِّ والصّومِ والصّلاةِ... لهُ شروطٌ عامّةٌ، وهيَ العقلُ والقدرةُ والبلوغُ...وقَد يُضافُ إلى تلكَ الشّروطِ: الظّرفُ الخاصُّ، وحينئذٍ نقولُ: إنَّ معنى إستمرارِ كلِّ حُكمٍ إلى يومِ القيامةِ هوَ إستمرارُه بشرائطِه العامّةِ، فهوَ يستمّرُ باستمرارِ هذه الشّرائطِ، وإذا كانَ لهُ ظرفٌ خاصٌّ، فحينئذٍ يستمرُّ ما دامَ ذلكَ الظّرفُ الخاصُّ مُستمرّاً - كما سوفَ نُمثّلُ له -، فنحنُ حينَما نريدُ أن نقولَ إنَّ هذا الحُكمَ ثابتٌ في مرحلةٍ زمنيّةٍ وناظرٌ إلى مرحلةٍ زمنيّةٍ مُعيّنةٍ لا يتنافى معَ إستمرارِه لأنَّ المقصودَ منَ الإستمرارِ هوَ إستمرارُه بما لهُ مِن ظرفٍ خاصٍّ، فإذا إستمرَّ الظّرفُ الخاصُّ يبقى هوَ مُستمرّاً وإذا لم يستمرَّ الظّرفُ الخاصُّ فيتعطّلُ هذا الحُكمُ إلى أن يحصُلَ ذلكَ الظّرفُ الخاصُّ وهذا لا يتنافى معَ استمرارِه.

[تأصيلُ الموضوعِ بالرّوايةِ، وكلماتِ الفُقهاء]

ورُبّما وردَت الإشارةُ إلى فكرةِ تأثيرِ الزّمانِ في بعضِ كلماتِ أهلِ البيت (عليهم السّلام) وفي بعضِ كلماتِ الفُقهاءِ على اختلافٍ بينَ كلماتِهم في القبولِ والرّفض:

أ‌-       أمّا الرّوايةُ التي يُفهَمُ مِنها تأثيرُ الزّمانِ بوضوحٍ فهيَ ما وردَ في الحكمةِ (17) مِن حكمِ أميرِ المُؤمنينَ (عليه السّلام) في آخرِ نهجِ البلاغةِ وهي:

سُئلَ (عليهِ السّلام) عَن قولِ الرّسولِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) "غيّروا الشّيبَ ولا تشبّهوا باليهودِ" فقالَ عليهِ السّلام: إنّما قالَ (صلّى اللهُ عليه وآلِه) ذلكَ والدّينُ قُلٌّ فأمّا الآنَ وقَد إتّسعَ نطاقُه وضربَ بجرانِه فامرئٌ وما اختار"، إذَن الإمامُ عليهِ السّلام أكّدَ في هذهِ القضيّةِ على مسألةِ الزّمانِ، ولعلَّ مِن هذا البابِ قولُه (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه" :( تناكحُوا تناسلوا فإنّي أباهي بكُم الأممَ"، فهَل نعملُ في هذا الزّمانِ بهذا الحديثِ أو أنّهُ يأتي ما ذكرنا مِن أنّ هذا يكونُ في الزّمنِ الذي كانَ فيهِ المُسلمونَ قليلون، أمّا الآنَ فلا - وواضحٌ أن هذا مُخالفٌ للظّهورِ إذ يُوجَدُ إطلاقٌ أزمانيّ، ولكنّنا ذكرناهُ كاحتمالٍ .

إذن، نتمكّنُ أن نقولَ: إنّهُ بمُقتضى هذا الحديثِ أنَّ الخضابَ مطلوبٌ في هذا الظّرفِ - أي قلّةِ المُسلمينَ - فإذا كثُرَ المُسلمونَ فهذا الحثُّ والإستحبابُ للخضابِ يرتفعُ وإذا عادَ الظّرفُ يعودُ الحُكمُ، وهذا معناهُ: إستمرارَ الحُكمِ بظرفِه، فهذا الحكمُ - وهو رجحانُ الخضابِ ما دامَ المسلمون قليلين - يبقى مُستمِرّاً إلى يومِ القيامةِ، ولكِن بظرفه ولا يتنافى بأّنه ينقطعُ في ظرفٍ ويأتي في ظرفٍ ثانٍ لأنّه مُقيّدٌ بالظّرفِ الخاصّ منَ البداية.

ب‌-  وأمّا في كلماتِ الفُقهاء:-  فمِن جُملةِ الذينَ رُبّما أشاروا إلى ذلكَ الشّيخُ الصّدوقُ (قده) حيثُ قالَ ما نصُّه:- ( وقالَ النّبي صلّى اللهُ عليه وآله "الفرقُ بينَ المُسلمينَ والمُشركينَ التّحلّي بالعمائمِ" وذلكَ في أوّلِ الإسلامِ وابتدائِه وقَد نقلَ عنهُ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه أهلُ الخلافِ أيضاً أنّه أمرَ بالتّحلّي ونهى عنِ الاقتعاط (مَن لا يحضرُه الفقيه، الصّدوق، ج1، ص17،والاقتعاطُ وضعُ كاملِ العمامةِ على الرّأسِ مِن دونِ إنزالِ الحنكِ، والتحلّي هو إدارةُ حنكِ العمامةِ على العُنقِ)، ولعلّهُ توجدُ إشارةٌ إلى ذلكَ أيضاً مِن قِبلِ الأردبيلي (قدّه) في مجمعِ الفائدةِ والبُرهان حيثُ قالَ بمُناسبةٍ ما نصّهُ: " ولا يمكنُ القولُ بكلّيّةِ شيءٍ (حُكمٍ)، بَل تختلفُ الأحكامُ باختلافِ الخصوصيّاتِ والأحوالِ والأزمانِ والأمكنةِ والأشخاصِ وهوَ ظاهرٌ وباستخراجِ هذهِ الإختلافاتِ والإنطباقِ على الجُزئيّاتِ المأخوذةِ منَ الشّرعِ الشّريفِ إمتيازُ أهلِ العلمِ والفقهاءِ شكرَ اللهُ سعيَهُم ورفعَ درجاتِهم"( مجمعُ الفائدةِ والبُرهان، الأردبيلي، ج3، ص436(، يعني يريدُ أن يقولَ إنَّ الفقيهَ البارعَ هوَ الذي يلتفتُ إلى هذهِ النّكاتِ ويلاحظُ أنَّ هذا الحُكمَ في هذهِ الفترةِ الزّمنيّةِ وذاكَ في فترةٍ زمنيّةٍ أُخرى ...وهكذا.

 ويظهرُ مِن هؤلاءِ الأعلامِ أنّهُم يتفاعلونَ معَ تأثيرِ الزّمانِ في الجُملةِ، وفي المُقابلِ، يظهرُ مِن بعضٍ آخر ردُّ هذهِ الفكرةِ ردّاً تامّاً، وأعني بذلكَ: الشّيخَ مُحمّد حُسين كاشف الغطاء (قدّه) في تحريرِ المجلّةِ في ذيلِ المادّةِ 39 حيثُ إنَّ المادّةَ تقولُ: لا يُنكَرُ تغييرُ الأحكامِ بتغيّرِ الأزمانِ، وهوَ قَد ردَّ عليها فقالَ: "قَد عرفتَ أنَّ مِن أصولِ مذهبِ الإماميّةِ عدمُ تغيّرِ الأحكامِ بتغيّرِ الموضوعاتِ، أمّا بالمكانِ والزّمانِ والأشخاصِ فلا يتغيّرُ الحكمُ ودينُ اللهِ واحدٌ في حقِّ الجميعِ لا تجدُ لسُنّةِ اللهِ تبديلاً وحلالُ محمّدٍ حلالٌ إلى يومِ القيامةِ وحرامُه كذلكَ، نعَم يختلفُ الحُكمُ في حقِّ الشّخصِ والواحدِ باختلافِ حالاتِه مِن بلوغٍ ورُشدٍ وحظرٍ وسفرٍ وفقرٍ وغنىً وما إلى ذلكَ منَ الحالاتِ المُختلفةِ وكلُّها ترجعُ إلى تغيّرِ الموضوعِ فيتغيّرُ الحُكم "(تحريرُ المجلّةِ، كاشفُ الغطاء، ج1، ص34 ذيل المادّة39).

إذَن عرفنا هذا مِن حيثُ الرّوايات، وأمّا مِن حيثُ كلماتِ الأصحابِ يمكنُ القولُ بأنّهُ لا توجدُ إشارةٌ إلى هذا المعنى.

 

تحقيقُ موضوعِ تأثيرِ الزّمانِ في الإستنباط:

وفي مقامِ تحقيقِ الحالِ نقولُ للموضوعِ ثلاثةُ أقسامٍ رئيسةٍ، ولكُلِّ حالةٍ مواردُها وأمثلتُها:

القسمُ الأوّل- ما يُفترضُ الإتّفاقُ فيه على وجاهةِ تأثيرِ الزّمانِ والمكان.

القسمُ الثّاني- ما إتُّفِقَ على عدمِ تغيّرِه بتغيّرِ الزّمان.

القسمُ الثّالث- ما يخضعُ للنّظرِ والإجتهاد، ويقبلُ الأخذَ والرّدّ .

فالبحثُ إذن، يقعُ في ثلاثةِ فصولٍ:

الفصلُ الأوّلُ: (المُتّفقُ على مدخليّةِ الزّمانِ فيه).

ولهُ أربعةُ موارد:

الموردُ الأوّلُ -إذا فُرِضَ أنَّ الشّارعَ صبَّ الحُكمَ على مفهومٍ كُلّيٍّ وكانَ ذلكَ المفهومُ الكُلّيّ يتغيّرُ أفرادُه بتغيُّرِ الزّمانِ والمكانِ - فمِن خصوصيّاتِه أن تتغيّرَ مصاديقُه بتغيُّرِ الزّمانِ أو المكان - ففي مثلِ هذهِ الحالة لابُدَّ مِن مُراعاةِ الزّمانِ أو المكان.

ونذكرُ لهذا الموردِ خمسةَ أمثلة:

1-    قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ)[الأنفال : 60] فالآيةُ الكريمةُ أمرَت أن نُعدَّ للأعداءِ ما نستعينُ ونتقوّى به عليهم ومصاديقُ ذلكَ تختلفُ باختلافِ الزّمانِ والمكانِ، ففي الزّمنِ السّالفِ يكونُ إعدادُ القوّةِ بإعدادِ السّيوفِ والسّهامِ والخيلِ وما شاكلَ ذلكَ منَ الوسائلِ البدائيّةِ المُتداولةِ عندَهُم، ثمَّ بعدَ فترةٍ منَ الزّمنِ صارَت القوّةُ بالمُسدّسِ والبُندقيّةِ، وفي زمانِنا صارَ إعدادُ القوّةِ يكونُ بالطّائراتِ وما شاكلَ ذلكَ، بَل هُناكَ سلاحٌ آخرُ غير هذا كسلاحِ الإعلامِ فإنّهُ نحوٌ منَ السّلاح، إذَن، هُنا نقولُ يتغيّرُ المصداقُ بتغيّرِ الزّمانِ أو بتغيّرِ المكانِ فلابُدَّ مِن مُلاحظةِ ذلكَ وأخذِه بعينِ الإعتبار.

أمّا ما هيَ النّكتةُ الفنّيّةُ للرّجوعِ في كلِّ زمانٍ أو مكانٍ إلى المِصداقِ في ذلكَ الزّمان أو المكانِ؟ لا ينبغي أن تكونَ النُّكتةُ الفنيّةُ هي الوجدانُ والقطعُ بأنَّ الشّارعَ لا يمكنُ أن يجعلَ المدارَ على السّيوفِ والخيلِ بلِحاظِ كلِّ زمانٍ فهذا كلامٌ لا بأسَ به ولكنّهُ ليسَ كلاماً صناعيّاً وفنيّاً، بَل نحنُ نريدُ صياغاتٍ صناعيّةً وليكُنِ الوجدانُ سبباً في أن نُفكّرَ في الصّيغةِ الصّناعيّة الفنيّة فنقولُ:-

 إنَّ الشّرعَ أمرَنا بإعدادِ ما بهِ القوّةُ ولم يُحدِّد مصداقَ ذلكَ ونفسُ سكوتِه يدلُّ على أنّهُ أحالَ الأمرَ إلى الزّمانِ والمكانِ وهذا ما قَد يُعبّرُ عنهُ بالإطلاقِ المقاميّ، يعني هوَ كانَ في مقامِ البيانِ وسكتَ عَن تحديدِ المصاديقِ، وهذا يعني أنّهُ أرجعَ تحديدَ المِصداقِ في كُلِّ زمانٍ إلى العُرف، ففي كُلِّ زمانٍ ماذا يحكمُ العُرف ؟ فإن حكمَ بأنَّ القوّةَ التي يلزمُ أن نستعينَ بها هيَ كذا فتكونُ هيَ المدار.

2-    قولُه تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعرُوفِ) [النّساء : 19]، فالمُعاشرةُ بالمعروفِ في ذلكَ الزّمانِ تكونُ بأن تشتري للزّوجةِ ثوباً في السّنةِ مثلاً وحُجرةً واحدةً في البيتِ، أمّا مصداقُ هذا الزّمانِ فهوَ يختلفُ إذ لا تكفي الغُرفةُ الواحدةُ ولعلّها تحتاجُ إلى شقّةٍ كما أنّ الأكلَ والثّيابَ مُختلفان، فالسّكنُ قَد اختلفَ والطّعامُ والملبسُ قد اختلف، فالمُعاشرةُ بالمعروفِ تختلفُ بلحاظِ الأزمنةِ والأمكنةِ والشّارعُ حينَما سكتَ عَن تحديدِ المصاديقِ يعني أنّهُ أوكلَ قضيّةَ التّطبيقِ إلى العُرفِ فلابُدَّ مِن مُلاحظةِ الزّمانِ والمكانِ، وهذا ما يُصطلحُ عليه بالإطلاقِ المقاميّ.

3-    قولُه تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التّوبة : 60]، والشّاهدُ هوَ قولُه: (للفُقراءِ) والفقيرُ هوَ مَن كانَ واردُه أقلُّ مِن حاجتِه، فهوَ يحتاجُ إلى أمورٍ منَ الفراشِ والتّلفزيون والثّلّاجة، وما شاكلَ ذلكَ، فإذا لَم يكُن عندَهُ بعضُها فهذا يُعتبَرُ فقيراً في زمانِنا، وليسَ فقيراً في ذلكَ الزّمان، إذَن، فقيرُ ذلكَ الزّمانِ يختلفُ مِصداقاً عَن فقيرِ هذا الزّمانِ بلا إشكالٍ، فلعلَّ الشّخصَ في زمانِنا عندَهُ أمورٌ كثيرةٌ ولكِن معَ ذلكَ يُعدُّ فقيراً، بَل لعلّهُ حتّى لَو كانَ عندَهُ جميعُ أمورِ بيتِه ولكِن يحتاجُ إلى بعضِ المالِ يكونُ تحتَ يدِه للحالةِ الطّارئةِ، فإنَّ هذا قَد أصبحَ منَ الأمورِ الضّروريّةِ فهذا قد يكونُ لهُ مدخليّةٌ في الفقرِ، وهذا يختلفُ باختلافِ نفسيّةِ الفقيهِ، كما أنَّ الأمكنةَ تختلفُ ففي الحَضَرِ يكونُ مصداقُ الفقيرِ بشكلٍ وفي القُرى والأريافِ يكونُ مصداقُه بشكلٍ آخر وهكذا عنوانُ: (وفي سبيلِ الله)، فسابقاً كانوا يمثّلونَ لذلكَ بفتحِ نهرٍ أو إنشاءِ جسرٍ، أمّا الآنَ فهوَ يكونُ بفتحِ موقعٍ على الإنترنت للدّفاعِ عنِ الحقّ أو بفتحِ قناةٍ فضائيّةٍ للدّفاعِ عنِ الحقّ، فهذا مِصداقٌ مِن مصاديقِ "في سبيلِ الله" ولا بأسَ به.

4-    ومنَ الأمثلةِ قولُه تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُوا) [الحجرات:12]، فالتّجسّسُ في ذلكَ الزّمنِ كانَ مصداقُه أن يضعَ الإنسانُ إبنَهُ قريباً منهُم ليسمعَ ما يتكلّمونَ به، والآنَ وجِدَ مصداقٌ آخرُ للتّجسّسِ وهوَ أن يضعَ آلةَ تصوير - الكاميرا - مثلاً ويلاحِظَ ماذا يصنعون، أو مِن خلالِ بعضِ الوسائلِ التي تُمكّنُه مِن أن يسترقَّ كلامَهم وهوَ في بيتِه، هذا نحوٌ منَ التّجسّسِ، وهذا المِصداقُ لَم يكُن موجوداً في ذلكَ الزّمنِ . والأمثلةُ على هذا المنوالِ كثيرةٌ.

5-    ومِن جُملةِ الأمثلةِ على ذلكَ: غسلُ الملابسِ، ففي ذلكَ الزّمنِ كان الغسلُ بالطّستِ لكِن في هذا الزّمنِ صارَ المصداقُ هوَ الغسّالةُ فهيَ تديرُ الملابسَ فيصدقُ الغسلُ عُرفاً، فحصلَ مِصداقٌ جديدٌ للغسلِ في زمانِنا، فيكفي هذا في تحقّقِ الغسلِ والتّطهير، إذَن، أثّرَت عمليّةُ الزّمانِ هُنا.

وكذلكَ قضيّةُ الرّبا في المكيالِ أو الموزونِ، فقَد تكونُ بعضُ الأشياءِ مكيلةً أو موزونةً في بلادٍ ومعدودةً في بلادٍ أخرى كالسّمكِ والبيضِ في بعضِ البُلدان، فالبلادُ التي يُباعُ فيها بالوزنِ سوفَ يتحقّقُ الرِّبا أمّا في البلادِ التي يُباعُ فيها بالعددِ فلا يتحقّقُ بذلكَ الرّبا، فالرّبا يتحقّقُ بلِحاظِ بلدٍ دونَ الآخرِ.

 

 

 

الموردُ الثّاني للمُتّفقِ على تأثيرِ الزّمانِ عليه: ما إذا فُرضَ أنَّ الحُكمَ صُبَّ على بعضِ الأفرادِ وكانَت القرائنُ وبعضُ النكاتِ تساعدُ على أنَّ هذهِ الأفرادَ لا خصوصيّةَ لها فنتعدّى مِن تلكَ الأفرادِ إلى أفرادٍ أُخر، معَ أنَّ الشّارع المقدّسَ قد صبَّ الحُكمَ على هذهِ الأفراد، لكنّنا نتجاوزُ هذا التّحديدَ الشّرعيّ ونُعمّمُ الحُكمَ إلى أفرادٍ أخرى، وفيما يلي مثالانِ عليه:

1-    ففي قضيّةِ مُحرّماتِ الإحرام، وردَ في صحيحةِ معاويةَ بنِ عمّار :"إنّما يحرمُ عليكَ منَ الطّيبِ أربعةُ أشياء: المِسكُ، والعنبرُ، والورسُ، والزّعفران"(وسائلُ الشّيعةُ، العامليّ، ج12، ص444، أبوابُ تروكِ الإحرام، ب18، ح8، آل البيت).

 إنَّ الشّارعَ صبَّ الحُكمَ على هذهِ الأفرادِ الأربعةِ، وهَل هيَ مِن أنحاءِ الطّيبِ في زمانِنا؟! إنّ وُجدَت عطورٌ أُخرى فهَل نبقى على هذهِ الأفرادِ التي نصَّ عليها الشّرعُ أو نتعدّى إلى غيرِها؟ نقولُ:

إنَّ هذهِ الأفرادَ ذُكرَت من بابِ أنّها هيَ الأفرادُ المُتداولةُ البارزةُ في تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ، فهوَ ناظرٌ إلى تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ، وأمّا في زمانِنا فقَد أصبحَت هذهِ العطورُ مهجورةً، فهَل تحتملُ أنَّ الفقيهَ يبقى جامِداً على النّصِّ، ثمَّ يحكمُ بحليّةِ هذهِ الرّوائحِ الجديدةِ على المُحرِمِ بدعوى أنَّ الشّرعَ قالَ: إنّما يحرمُ منَ الطّيبِ أربعة؟!!، كلّا إنَّ هذا شيءٌ مرفوضٌ، إذَن ينبغي الإتّفاقُ على أنّ الشّارعَ وإن كانَ قَد نصَّ على هذهِ الأفرادِ الأربعةِ، وصبَّ الحُكمَ عليها، ولكِن نحنُ نتجاوزُها.

2-    ومِن هذا القبيلِ قولُه (عليه السلام): لا سَبَقَ (لا جائزة) إلّا في خُفٍّ أو حافرٍ أو نصل (المصدرُ السّابق، ج19، ص253، أحكامُ السّبق، ب3، ح4)، إنَّ هذا الحديثَ الشّريفَ حلّلَ الرّهانَ في بابِ السّباقِ في هذهِ المواردِ الثّلاثةِ، فهل نقتصرُ على هذه الثّلاثةِ ونقولُ تُحرّمُ المُسابقةُ بالوسائلِ الحربيّةِ الحديثةِ، كالدّبّاباِت والطّائراتِ وغيِر ذلكَ؟!! وهذا أيضاً غيرُ مُحتمَلٍ؛ إذ لا يرتضي الشّارعُ تعطيلَ الحربِ وتركَ العدوّ يدخلُ البلادَ، كما أنّهُ لا يقبلُ دخولَ الحربِ مِن دونِ تدريبٍ ولا مُسابقةٍ، وإذَن، يتعيّنُ تجاوزُ النّصِّ إلى الوسائلِ الحديثةِ البارزةِ فإنَّ الثّلاثةَ التي ذكرَها النّصُّ كانَت هيَ الوسائلَ البارزةَ في ذلكَ الزّمانِ فنتعدّى إلى الوسائلِ البارزةِ في زمانِنا، ولَو كانَت هُناكَ مُناقشةٌ فهيَ مُناقشةٌ في المثالِ، ولكِن يمكنُ أن نجدَ أمثلةً أُخرى مِن هذا القبيلِ نصَّ الشّارعُ فيها على أفرادٍ ولكِن نحنُ نتجاوزُ تلكَ الأفرادَ مِن بابِ بعضِ القرائنِ.

الموردُ الثّالثُ للقسمِ الأوّلِ: ما إذا فرضَ أنَّ الشّرعَ صبَّ الحُكمَ على مفهومٍ مُعيّنٍ ونحنُ فهمنا مِن خلالِ بعضِ القرائنِ والنّكاتِ أنَّ هذا الحُكمَ يختلفُ باختلافِ الزّمانِ.

1-    مِن قبيلِ الآيةِ الكريمةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَستَأذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيمَانُكُم وَالَّذِينَ لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ منكُم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبلِ صَلَاةِ الفَجرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعدِ صَلَاةِ العِشَاءِ ثَلَاثُ عَورَاتٍ لَكُم ليسَ عَلَيكُم وَلَا عَلَيهِم جُنَاحٌ بَعدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيكُم بَعضُكُم عَلَى بَعضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النّور : 58]، فإنَّ الآيةَ الكريمةَ أمرَت باستئذانِ الأطفالِ والعبيدِ في هذهِ الأوقاتِ الثّلاثةِ التي قَد يختلي فيها الزّوجُ بزوجتِه، وهَل يبقى هذا الحُكمُ سارياً في حدودِ هذهِ الأوقات ؟!

فالآنَ نحنُ لا ننامُ في الظّهيرةِ - أي الفترةِ التي تكونُ قبلَ الظّهرِ -، فعلى هذا الأساسِ هَل يلزمُ حينئذٍ الاستئذانُ في هذا الوقتِ أو لا ؟ ولو افترضنا أنّهُ تغيّرَ وقتُ المنامِ فالمدارُ حينئذٍ يكونُ على ماذا ؟ إنَّ المدارَ هوَ على الوقتِ الجديدِ ولا نبقى مُتمسّكينَ بذلكَ الوقتِ القديمِ، فرُغمَ أنَّ الآيةَ الكريمةَ نصَّت على الوقتِ ولكِن نفهمُ منَ القرائنِ أنَّ التّعدّي هوَ شيءٌ جائزٌ فإنّها قالَت: ثلاثُ عوراتٍ، لكنّها بيّنَت النُّكتةَ فحينئذٍ لو تغيّرَ وقتُ الإختلاءِ بالزّوجةِ فحينئذٍ يتغيّرُ هذا الحُكمُ أيضاً.

2-    ولعلَّ منهُ قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤذَنَ لَكُم إِلَى طَعَامٍ غَيرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِن إِذَا دُعِيتُم فَادخُلُوا فَإِذَا طَعِمتُم فَانْتَشِرُوا وَلَا مُستَأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُم كَانَ يُؤذِي النَّبِيَّ فَيَستَحيِي مِنكُم وَاللَّهُ لَا يَستَحيِي مِنَ الحَقِّ وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُم أَن تُؤذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزوَاجَهُ مِن بَعدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُم كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا) [الأحزابُ : 53]، فقَد دلَّت على أنّهُ إذا فُرضَ أنّنا أردنا أن ندخلَ بيتَ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) فالدّخولُ لابدَّ أن لا يكونَ قبلَ فترةٍ طويلةٍ مِن وقتِ الطّعامِ وننتظرُ حتّى يُطبَخَ بَل لابدَّ منَ المجيءِ قبلَ وقتِ الطّعامِ بقليلٍ ثمَّ نذهبُ بعدَ تناولِه بقليلٍ ولا نبقى جالسينَ لفترةٍ طويلةٍ مُستأنسينَ بالحديثِ معَ الأصحابِ - وهذا منَ الآدابِ الشّرعيّةِ - ولكِن ومعَ أنَّ هذهِ الآيةَ الكريمةَ واردةٌ في النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ولكِن نتعدّى مِنها إلى المرجعِ، فعندَ زيارةِ بيتِ المرجعِ تكونُ المسألةُ كذلكَ، بَل نتعدّى إلى بيتِ الإنسانِ الذي لديهِ أعمالٌ كالمُدرّسِ وغيرِه فإنّهُ يأتي نفسُ هذا الكلام فنتعدّى.

ولكنَّ الذي نريدُ أن نقولَه:- هوَ أنَّ هذهِ الآيةَ الكريمةَ وإن قالَت لابُدَّ منَ الخروجِ بعدَ الطّعامِ ولكِن هذا يختلفُ باختلافِ المواردِ، فلعلَّ نفسَ الشّخصِ هوَ يستأنسُ بوجودِكم فهذا لا بأسَ به، أو فرضنا أنَّ العُرفَ في بلدٍ يقتضي البقاءَ بعدَ الطّعامِ لفترةٍ مُعيّنةٍ، أو أن يأتي المدعوّ قبلَ الطّعامِ بفترةٍ إحتراماً لصاحبِ الدّار، فهذهِ القضايا يلزمُ أن تُلحظَ وتُؤخذَ بعينِ الإعتبارِ رُغمَ أنَّ الآيةَ الكريمةَ قَد وردَت بهذا الشّكلِ ولكِن نحنُ نتجاوُز ونلحظُ عُنصرَ الزّمانِ والمكانِ بالشّكلِ الذي أشرنا إليه.

3-    ومِن أمثلتِه أيضاً: الرّواياتُ التي تنهى عنِ التّصريحِ باسمِ مولانا حُجّةِ اللهِ في أرضِه، مِن قبيلِ صحيحةِ ابنِ رئابٍ عَن أبي عبدِ اللهِ (عليه السلام (قالَ: صاحبُ هذا الأمرِ لا يُسمّيهِ باسمهِ إلّا كافرٌ (المصدرُ السّابق، ج16، ص238، أبوابُ الأمرِ والنّهي، ب38، ح4وعلى منوالِها روايةُ داودَ بنِ القاسمِ الجعفريّ قالَ: سمعتُ أبا الحسنِ العسكريّ (عليه السّلام) يقولُ: الخلفُ مِن بعدي الحسنُ فكيفَ لكُم بالخلفِ مِن بعدِ الخلف؟! قلتُ: ولِمَ جعلني اللهُ فداك؟ قالَ: لأنّكُم لا ترونَ شخصَه، ولا يحلُّ لكُم ذكرُه باسمِه، قلتُ:- كيفَ نذكرُه ؟ قالَ:- قولوا: الحُجّةُ مِن آلِ محمّدٍ (المصدرُ السّابق، ج16، ص239، أبوابُ الأمر والنّهي، ب38،ح6).

والسّؤالُ هُنا: هَل هذانِ الحديثانِ، وما كانَ على منوالِهما: يعمّانِ جميعَ الأزمنةِ أو نُقيّدُهما بتلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ التي كانَ يُحذَرُ فيها منَ السّلطةِ إذا صُرّحَ بالإسمِ ؟

نحنُ لا نحتملُ في زمانِنا أنَّ ذكرَ اسمِ المولى لا يجوزُ وهذا القطعُ الوجدانيّ حاصلٌ منَ الخارجِ، وإذا لَم تقبَل بهذا القطعِ الوجدانيّ فتوجدُ روايةٌ يمكنُ أن يُستشفَّ منها ذلكَ وهيَ صحيحةُ عبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ الحميريّ عَن مُحمّدٍ بنِ عُثمانَ العمريّ، قالَ قلتُ له:- أنتَ رأيتَ الخلفَ ؟ قالَ: أي واللهِ ...قلتُ: فالإسمُ؟! قالَ: مُحرّمٌ عليكُم أن تسألوا عَن ذلكَ، ولا أقولُ هذا مِن عندي، فليسَ لي أن أحلّلَ ولا أحرّمَ، ولكِن عنهُ (عليه السّلام) فإنَّ الأمرَ عندَ السّلطانِ أنَّ أبا مُحمّدٍ مضى ولم يُخلِّف ولداً وإذا وقعَ الإسمُ وقعَ الطّلبُ فاتّقوا اللهَ وأمسكُوا عَن ذلك (المصدرُ السّابق ج16، ص240، أبوابُ الأمرِ والنّهي، ب38،ح8).

إذَن، هذا الحديثُ يُوضّحُ أنَّ القضيّةَ قضيّةُ تخوّفٍ على المولى (عليه السلام) فهذا النّهيُ يُحمَلُ على تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ.

ونذكرُ قضيّةً جانبيّةً ترتبطُ بمقامِنا، وهيَ أنّهُ توجدُ روايةٌ أُخرى وهيَ روايةُ عنبسةَ عَن أبي عبدِ اللهِ (عليهِ السلام) قالَ: إيّاكُم وذكرَ عليٍّ وفاطمةَ، فإنَّ النّاسَ ليسَ شيءٌ أبغضُ إليهم مِن ذكرِ عليٍّ وفاطمة عليهما السلام (المصدرُ السّابق ج16، ص238، أبوابُ الأمرِ والنّهي، ب38،ح2وهذهِ الرّوايةُ لابُدَّ مِن حملِها على الوقتِ الذي يُتخوّفَ فيهِ أمّا في الأزمنةِ التي لا يُتخوّفَ فيها فلا محذورَ في ذلك.

4-    ما وردَ في المحصورِ، فقَد دلَّت الرّوايةُ على أنّهُ يُبعَثُ هدياً مع أصحابِه ويواعدُهم في وقتٍ مُعيّنٍ، حتّى إذا حلَّ ذلكَ الوقتُ وذبحوا تحلّلَ حينئذٍ وقَد دلَّت على ذلكَ صحيحةُ مُعاويةَ بنِ عمّار، قالَ أبو عبدِ اللهِ (عليه السلام) عَن رجلٍ أحصرَ فبعثَ بالهديّ فقالَ: يواعدُ أصحابَه ميعاداً فإن كانَ في حجٍّ فمحلُّ الهدي يومَ النّحر ...وإذا كانَ في عُمرةٍ فلينتظِر مِقدارَ دخولِ أصحابِه مكّةَ والسّاعةَ التي يعدُهم فيها فإذا كانَت تلكَ السّاعةُ قصّرَ وأحلَّ (المصدرُ نفسُه ج13، ص181، أبوابُ الإحصارِ والصّدِّ، ب2، ح1، آل البيت)، والشّاهدُ فيهِ هوَ أنَّ الإمامَ (عليه السلام) أمرَ بأن يواعدَ المحصورُ أصحابَه، فهَل هذا الحُكمُ يجري في زمانِنا حتّى معَ وجوِد (الموبايل) الذي يحدّدُ لنا الوقتَ بشكلٍ دقيقٍ فنأخذُ بالرّوايةِ ونقولُ إنّهُ لا يعتمدُ على الموبايل بَل يواعدُ أصحابَه أو نقولُ إنّهُ في زمانِنا ينبغي أن يكونَ المدارُ على مثلِ الموبايل مثلاً ؟

أرى منَ المُناسبِ في زمانِنا أن يكونَ المدارُ على مثلِ الموبايل ولا تكفي المواعدةُ فإنَّ المواعدةَ قَد ذكرَها الإمامُ (عليه السلام) مِن بابِ أنّها الطّريقةُ المُثلى والمُمكنةُ في تلكَ الفترةِ، ولا يحتملُ أنّهُ لو كانَت هناكَ طريقةٌ أسهلُ وأيسرُ وموجبةٌ لحصولِ الإطمئنانِ والعلمِ تُترَكُ ويؤخذُ بهذهِ المواعدةِ، فإنَّ هذا مِنَ الجمودِ على النّصِّ، وهوَ مرفوضٌ، والفقهُ كما نعرفُ يحتاجُ إلى ذوقٍ، فنحملُ هذا الحُكمَ على تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ لا على زمانِنا.

الموردُ الرّابعُ- العناوينُ الثّانويّةُ، فإنَّ الحُكمَ الشّرعيَّ قَد يتغيّرُ بتغيّرِ العناوينِ الثّانويّةِ، ويمكنُ القولُ: إنَّ هذهِ المساحةَ قَد تركَتها الشّريعةُ للحاكمِ الإسلاميّ يملأُها حسبَ اختلافِ الظّروفِ. ولهذا عدّةُ أمثلةٍ أيضاً:

1-    فمنهُ: فرضُ الضّرائبِ، فهَل يجوزُ أخذُ الضّريبةِ أو لا فيما إذا فرضَ أنَّ إقتصادَ البلدِ الإسلامي بَل ونفسَ البلدِ الإسلاميّ توقّفَ على أخذِ الضّرائبِ؟!

إذا تخوّفَ بهذا الحدِّ فحينئذٍ يكونُ فرضُ الضّريبةِ لا بأسَ بهِ، فيفرضُها الحاكمُ بنحوٍ أو بآخر: إمَّا على الأشخاصِ، أو على أصحابِ المحالِّ التّجاريّةِ أو غيرِ ذلك، هذا إذا كانَ البلدُ ينبغي التّحفّظُ على نظامِه فهُنا يتدّخّلُ الحاكمُ الإسلاميّ ويُشرّعُ وجوبَ دفعِ الضّريبةِ، أمّا إذا كانَ النّظامُ ينبغي سقوطُه أو إسقاطُه فهُنا يصيرُ دفعُ الضّريبةِ حراماً، فهذا موضوعٌ واحدٌ، ولكنّهُ يتغيّرُ باختلافِ الظّروفِ والزّمان.

2-    وهناكَ مثالٌ آخرُ، وهوَ مسألةُ تحريمِ التّنباكِ (التّتن) مِن قبلِ السّيّدِ الشّيرازيّ (قده)، فهوَ حرّمهُ لظروفٍ مُعيّنةٍ؛ إذ كانَ يستفيدُ منهُ الأجنبيّ، فهوَ حرّمهُ حتّى لا يستفيدَ الأجنبيّ، أمّا إذا فرضَ أنّهُ لا يستفيدُ منهُ وذهبَ ذلكَ الظّرفُ، فحينئذٍ يعودُ حلالاً ولا محذورَ فيه.

3-    كذلكَ: الإحتكارُ، فهَل هوَ حرامٌ أو لا؟ فإذا فرضنا أنّهُ يُؤثّرُ على الإقتصادِ بحيثُ صارَ المعروضُ في الأسواقِ أقلَّ منَ الطّلبِ، فحينئذٍ سوفَ ترتفعُ الأسعارُ ويُؤثّرُ ذلكَ على البلدِ فهُنا يتمكّنُ الحاكمُ الإسلاميّ أن يُحرّمَ الإحتكارَ ويوجبَ البيعَ بسعرٍ مُحدّدٍ.

4-    وهناكَ مثالٌ آخرُ، وهوَ مسألةُ العُملةِ الصّعبةِ، فهَل يجوزُ إخراجُها منَ البلدِ أو لا فيما إذا كانَ الإخراجُ بمقدارٍ مُعتدٍّ بهِ وكانَ ظرفُ البلدِ عصيباً ؟

يمكنُ القولُ: إنَّ إخراجَ العُملةِ يُؤثّرُ على البلدِ فيصيرُ مُحرّماً بالعنوانِ الثّانوي، أمّا إذا إستقرَّت أمورُ البلدِ بشكلٍّ جيّدٍ وازدادَت عندَنا العُملةُ الصّعبةُ فحينئذٍ نُجوّزِ إخراجَها.

وأخيراً، هَل مُخالفةُ القانونِ جائزةٌ أو لا؟ فالقانونُ مثلاً يقولُ: لا يجوزُ سرقةُ الكهرباءِ ويلزمُ دفعُ أجورِها ولا يجوزُ التّخلّفُ عنها وغيرُ ذلكَ منَ الأمورِ فحينئذٍ هَل مُخالفةُ القانونِ جائزةٌ أو لا ؟ إذا فرضنا أنَّ هذهِ المُخالفةَ جانبيّةٌ ولا تؤثّرُ شيئاً إذا كانَ البلدُ مُستقرّاً ولا تؤثّرُ المُخالفةُ أو المُخالفتاِن فلا مُشكلةَ هُنا، أمّا إذا فُرضَ أنَّ البلدَ يمرُّ بفترةٍ حرجةٍ ويلزمُ منَ المُخالفةِ حصولُ خللٍ في الكهرباءِ مثلاً ومِن ثمَّ يحصلُ خللٌ في البلدِ، فحينئذٍ لا يجوزُ ذلكَ بالعنوانِ الثّانوي، ولابُدَّ للفقيهِ أن يلحظَ العناوينَ الثّانويّةَ في كُلِّ فترةٍ ويحكُمَ بما يتناسبُ وتلكَ الفترة.

والخُلاصةُ: إنَّ تغيُّرَ الحُكمِ بتغيّرِ الزّمانِ في هذا القسمِ ينبغي الإتّفاقُ على قبولِه، نعَم، قَد نختلفُ في الصُّغرى أحياناً مثلَ: هَل يلزمُ إختلالُ النّظامِ إذا فُرضَ أنّهُ لَم تُدفَع الأجورُ أو لا؟ ولكِنَّ هذا إختلافٌ في الصُّغرى.

الفصلُ الثّاني: ما إتُّفقَ على ثباتِه، و عدمِ تأثُّرهِ بالزّمانِ.

ولهذا القسمِ أيضاً مواردُ وهيَ:

الموردُ الأوّلُ: ما إذا كانَ لدينا حكمٌ معيّنٌ، ونستعينُ بالإستحساناتِ، والظّنونِ لتخصيصِه بتلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ السّابقةِ، وأمثلةُ هذا الموردِ:

1-    ديّةُ المرأةِ، فإنَّها نصفُ ديّةِ الرّجلِ كما هوَ ثابتٌ، لكِن قَد يقالُ: إنَّ هذا نحملُه على الزّمنِ السّابقِ الذي لَم تكُن فيهِ المرأةُ يداً عاملةً، وإنّما كانَ الرّجلُ هوَ اليدُ العاملةُ، فمَن قتلَ رجُلاً فقَد قتلَ يداً عاملةً ففقدَت الأسرةُ يداً عاملةً فينبغِي للجاني أن يُعوّضَ بالدّيّةِ كاملةً، وأمّا المرأةُ فليسَت يداً عاملةً فنصفُ الدّيّةِ، أمّا في زمانِنا فقَد أصبحَت المرأةُ يداً عاملةً كالرّجلِ فمنَ المُناسبِ أن تكونَ ديّتُها مساويةً لديّةِ الرّجلِ، إذَن، نُخصّصُ هذا الحُكمَ بذلكَ الزّمانِ !

2-    ومِن هذا القبيلِ أيضاً: مسألةُ الإرثِ، فيقالُ: نُخصّصُ قولَه تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النّساء: 11] بذلكَ الزّمانِ باعتبارِ أنَّ الذي يصرُف في البيتِ هوَ الرّجل فينبغي أن يأخُذَ حِصّةً أعلى والمرأةُ مُؤمّنةٌ، أمّا في هذا الزّمنِ فقد أصبحَت المرأةُ تصرفُ في البيتِ أيضاً فمنَ المُناسبِ أن تكونَ حِصّتُها منَ الإرثِ كحصّةِ الرّجل!، وعلى هذا المنوالِ قد توجدُ أمثلةٌ أخرى.!

إنَّ هذا المثالَ وسابقَهُ ينبغي أن نتّفقَ على بطلانِه، وأنَّ عُنصرَ الزّمانِ لَم يُؤخَذ في هذا الحُكم؛ إذ أنَّ هذا التّخصيصَ مبنيٌّ على الإستحسانِ والظّنونِ، ولا يجوزُ أن نرفعَ اليدَ عنِ الإطلاقِ الأزمانيّ في الدّليلِ إلّا بدليلٍ، والظّنُّ والإستحسانُ ليسا منَ الدّليلِ في شيء!

وإذا أردنا أن نسيرَ هذا المسارَ، فيلزمُ أن نقولَ: إنَّ مَن يلتزمُ بهذا الكلامِ - كديّةِ المرأةِ وغيرِها - يلزمُ أن يلتزمَ في قاعدةِ الطّهارةِ: (كلُّ شيءٍ لكَ طاهرٌ...) بأنَّها تختصُّ بذاكَ الزمنِ؛ لأنَّ الماءَ كانَ قليلاً فالشّارعُ يحتاجُ إلى أن يُشرّعَ قاعدةَ الطّهارةِ، أمّا في هذا الزّمنِ فالماءُ كثيرٌ .!!،وكذا بالنّسبةِ إلى الصّلاةِ فإنّهُ يلزمُ أن يقولَ بأنّها تختصُّ بذلكَ الزّمنِ لأنَّ النّاسَ كانوا بحاجةٍ إلى أن يرتبطُوا باللهِ (عزَّ وجلَّ)، ولا توجدُ لديهم وسيلةُ إرتباطٍ فاحتاجوا إلى وسيلةٍ وهيَ الصّلاةُ، أمّا في هذا الزّمنِ فنحنُ مُرتبطونَ باللهِ عزَّ وجلَّ حيثُ نرى آثارَ قُدرتِه في السّماءِ والأرضِ فلا نحتاجُ إذَن إلى الصّلاةِ.!!، وسببُ بطلانِ جميعِ ذلكَ واحدٌ، وهوَ ما أشرنا إليهِ مِن أنَّ دليلَ حُكمِ الدّيّةِ أو الإرثِ لهُ إطلاقٌ أزمانيّ، ولا يجوزُ رفعُ اليدِ عنِ الدّليلِ إلّا بدليلٍ وما ذُكرَ مُجرّدُ ظنٍّ واستحسانٍ، فلا يمكنُ رفعُ اليدِ عَن ذاكَ الدّليلِ بهذا.

سؤالٌ وجواب:

وهُنا قد تسألُ: كيفَ قبلتُم تأثيرَ الزّمانِ في القسمِ الأوّلِ، بينَما لم تقبلوهُ هُنا؟!

وجوابُه: أنَّ القسمَ الأوّلَ وفي كلِّ مواردِه كانَ عندنا جزمٌ، فلَو أخذنا مثالَ الموردِ الأوّلِ: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِنْ قُوَّةٍ)، لوجدنا أنَّ المصداقَ في نفسِه مُتغيّرٌ، وليسَ قابِلاً للثّباتِ، فمنَ الطّبيعيّ حينئذٍ أن يتغيّرَ باختلافِ الزّمانِ، وأن يترُكَ الشّارعُ تحديدَه لنا وحسبَ اختلافِ الزّمانِ، والأمرُ نفسُه يجري في مثالِ الموردِ الثّاني الذي صبَّ الحُكمَ فيه على عطورٍ خاصّةٍ، فقُلنا إنّهُ في زمانِنا قَد حصلَت عطورٌ أرقى مِن تلكَ، فبالأولى أو بالجزمِ بعدمِ الخصوصيّةِ؛ نتعدّى إليها، ومِن حقّكَ أن تقولَ: إنّهُ لا يوجدُ لديَّ جزمٌ، وعندَها فلا ينبغي لكَ أن تتعدّى بَل تبقَى على تلكَ العطورِ التي جاءَت في الحديثِ فقَط، وتُجوّزَ هذهِ العطورَ الأخرى، فالتّعدّي إلى بقيّةِ العطورِ لا يكونُ إلّا بالجزمِ، وهكذا بالنّسبةِ إلى الموردِ الثّالثِ وهوَ آيةُ الإستئذانِ حيثُ حملناها على ذلكَ الزّمنِ لأنّنا قُلنا أنَّ أوقاتَ الإستراحةِ كانَت هيَ تلكَ الأوقات، فالمدارُ جزماً هوَ على وقتِ إلقاءِ الثّيابِ وهذا يختلفُ باختلافِ الأزمنةِ، وهوَ ليسَ اعتماداً على الاستحسانِ والظّنِّ وإنّما هوَ اعتمادٌ على حُكمِ العقلِ القطعيّ وعلى البداهةِ والجزمِ لا على الظّنونِ، وهكذا بالنّسبةِ إلى بقيّةِ مواردِ القسمِ الأوّل.

والخلاصةُ، فما ذكرناهُ في مواردِ القسمِ الأوّل ليسَ إعتماداً على الظّنوِن، وإذا قالَ شخصٌ إنّي لا يحصلُ عندي قطعٌ في تلكَ المواردِ بَل يحصلُ عندي ظنٌّ فنحنُ نقولُ لهُ إذَن لا يجوزُ لكَ أن تُقيّدَ بذلكَ الزّمنِ بل إعمَل بهِ بلحاظِ جميعِ الأزمانِ. إذَن الضّابطُ عندَها هوَ حصولُ الجزمِ، وإذا لَم يحصُل الجزمُ فتقييدُ الحُكمِ بذلكَ الزّمنِ أمرٌ مرفوضٌ.

الموردُ الثّاني لِما لا دخلَ للزّمانِ فيه: ( مُناقشةُ تعدّدِ القرءاتِ).

 أن يُدّعى أنَّ دلالةَ الألفاظِ على معانيها هيَ قضيّةٌ قابلةٌ للتّغيّرِ بتغيرِ الزّمانِ، فاللّفظُ أو الجملةُ قد يدُلّانِ على معنىً مُعيّنٍ في زمانٍ، ولكِن بعدَ مرورِ زمانٍ تتغيّرُ تلكَ الدّلالةُ وذلكَ المعنى، وهذا مطلبٌ قَد ثبتَ في علمِ اللّغةِ، فإذا تمَّت هذهِ المُقدّمةُ المفروضةُ في علمِ اللّغةِ نأتي إلى مقامِنا ونقولُ:

 إنَّ الأحكامَ الشّرعيّةَ مُستفادةٌ منَ الدّلالاتِ اللّفظيّةِ للكتابِ الكريمِ أو السّنّةِ الشّريفةِ، فما يُفهَمُ مِن هذهِ الألفاظِ قابلٌ لأن يتغيّرَ بتغيُّرِ الزّمانِ، وعليهِ: فما فهمَهُ الأوائلُ مِن هذهِ الرّواياتِ والنّصوصِ لا يُمثّلُ الحقيقةَ المُطلقةَ، وإنّما هوَ مقبولٌ في تلكَ الدّائرةِ الزّمنيّةِ، وأمّا في زمانِنا فقَد نفهمُ مِن هذهِ الألفاظِ شيئاً آخرَ تِبعاً لتغيّرِ الزّمانِ، وهذا معناهُ أنّهُ لا يمكنُ أن نُقدّمَ حُكماً شرعيّاً ونقولَ عنهُ أنّهُ ثابتٌ بنحوِ الحقيقةِ المُطلقةِ، بَل هذا الحُكمُ هوَ فهمٌ لي في هذهِ الحقبةِ الزّمنيّةِ، وبعدَ فترةٍ منَ الزّمنِ يمكنُ أن تفهمَ أنتَ حُكماً آخرَ قَد يختلفُ عنِ الحُكمِ الأوّلِ.

إذن، فغايةُ ما نمتلكُه هوَ فهمٌ عنِ الأحكامِ الشّرعيّةِ، وإلّا فالحُكمُ الشّرعيُّ ليسَت لهُ حقيقةٌ ثابتةٌ بنحوِ الإطلاقِ، وإنّما هُناكَ أفهامٌ تختلفُ باختلافِ الأزمانِ عَن ذلكَ الحُكمِ الشّرعيّ، فلا يمكنُ أن نقولَ بثبوتِ أحكامٍ شرعيّةٍ مُستمرّةٍ وذاتِ حقيقةٍ مُطلقةٍ، ثمَّ يُسحَبُ هذا المطلبُ على الإسلامِ نفسِه، وليسَ أحكامهِ فقَط، فيُقالُ: لا يمكنُ أن يُقدَّمَ الإسلامُ على أنّهُ حقيقةٌ مطلقةٌ، بحيثُ نقولُ هذهِ هيَ حقيقةُ الإسلامِ، وإنّما الذي عندَك هوَ فهمٌ لهذهِ الفترةِ الزّمنيّةِ للإسلامِ، ولعلّهُ في الزّمنِ السّالف كانوا يفهمونَ عنهُ شيئاً آخرَ ولعلّهُ في زمنٍ آتٍ يُفهمُ شيءٌ ثالثٌ، فالإسلامُ إذَن ليسَت لهُ حقيقةٌ مُطلقةٌ أيضاً وإنّما هُناكَ اجتهاداتٌ في بيانِ حقيقةِ الإسلامِ، فأقصى ما عندي وعندَك هوَ اجتهادٌ لا أنّه هوَ الحقيقةُ الثّابتةُ بحيثُ مَن خرجَ عَن هذا الخطِّ فنقولُ هوَ ليسَ بمُسلمٍ، وعليهِ: لا ينبغي أن يُكفِّرَ بعضُنا بعضاً، فإنَّ هذا لا معنى لهُ فإنَّ التّكفيرَ فرعُ أن تثبتَ حقيقةً مُطلقةً للإسلامِ، والمفروضُ أنَّ الحقيقةَ المُطلقةَ ليسَت ثابتةً لا عنِ الإسلامِ ولا عَن أحكامِه، بَل هُناكَ تعدّدُ فَهمٍ أو قراءاتٍ أو اجتهاداتٍ أو رؤىً... هذا ما كتبته بعضُ الأقلامِ الحديثةِ، ونتيجةً لهذا سيكونُ للزمانِ التّأثيرُ التّامُّ بنحوٍ يُغيّرُ مِن فهمِنا للإسلامِ لا لأحكامِه فقَط!.

 أربعُ مُناقشاتٍ لهذا الفكرِ الحديث:

أوّلاً- إنَّ هذا يعتمدُ على قضيّةٍ أخذَها مفروغةً عِن علمِ اللّغةِ وهيَ أنّ دلالاِت الألفاظِ قابلةٌ للتّغيّرِ بتغيّرِ الزّمان - وهذهِ قضيّةٌ ثبتَت في علمِ اللّغةِ - ولولا هذهِ القضيّةِ لَم يأتِ هذا الكلامُ، ونحنُ نؤمنُ بذلكَ أيضاً، ولكِن نقول:

إنَّ مُجرّدَ احتمالِ التّغيّرِ لا يكفي للحُكمِ بالتّغيّرِ، بَل ما دُمنا نحتملُ التّغيّرَ مِن دونِ وجودِ مُؤشّراتٍ وقرائنَ على حصولِ التّغيّرِ فمنَ اللّازمِ البناءُ على عدمِ حصولِه، فهُناكَ أصلٌ عُقلائيٌّ انعقدَت عليهِ سيرةُ العُقلاءِ وهوَ: أنَّ اللّفظَ أو الجُملةَ إذا كانَت دالّةً على هذا المعنى فيُبنى عليهِ إلى أن يثبُتَ الخلافُ، أمّا بمُجرّدِ احتمالِ التّغيّرِ فلا يكفِي لرفعِ اليدِ عَن دلالتِها السّابقةِ، وهذا أصلٌ ثابتٌ بينَ العُقلاءِ ولولا ذلكَ للزمَ أن لا نستفيدَ منَ الكُتبِ القديمةِ؛ لأنَّ احتمالَ أنَّ دلالةَ الألفاظِ قَد تغيّرَت قائمٌ، فإذا كانَ هذا يكفي للبناءِ على أنَّ هذا الذي عندَنا هوَ فهمٌ وليسَ نفسَ المطلبِ الذي يُفهَمُ في تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ والذي أرادَهُ صاحبُ ذلكَ الكتابِ فسيكونُ شراؤنا للكتابِ وقراءتُه لا معنى له، والحالُ أنَّ الأصلَ العُقلائيَّ قائمٌ على البناءِ على بقاءِ الدّلالةِ إلى أن يثبُتَ التّغيّرُ، فما دامَ لَم يثبُت التّغيّرُ فاحتمالُ التّغيّرِ وحدُه لا يكفي، فنحنُ يوجدُ عندَنا أصلٌ بهذا الشّكلِ وهوَ أصلٌ يقبلُه حتّى مَن يتكلّمُ بهذا الكلامِ وإلّا يلزمُ أن لا ينتفعَ إلّا بالكُتبِ التي أُلِّفَت في زمانِه، أمّا المُؤلّفةُ قبلَ زمانِه فلا يستفيدُ منها، و لا يوجدُ أحدٌ يفعلُ ذلكَ، وواضحٌ أنّهُ على مبانينا لا توجدُ مُشكلةٌ إذ نقولُ: إنَّ هذهِ سيرةٌ موجودةٌ وحيثُ إنَّ الشّرعَ قَد أمضاها فتكونُ حُجّةً، ولا أقلَّ مِن أنَّ هذهِ القضيّةَ (البناءُ على بقاءِ الدّلالةِ السّابقةِ) عُقلائيّةٌ، لا يمكنُ أن يتخلّى عنها العاقلُ. إذَن، فالأصلُ والأساسُ الذي استندَ إليهِ هذا الفكُر؛ باطلٌ.

ثانياً- ليسَت الأحكامُ الشّرعيّةُ هي ناشئةً دائِماً منَ الألفاظِ؛ فإنَّ الكثيرَ منها ثابتٌ عندَنا لا منَ الألفاظِ، فالصّلاةُ واجبةٌ والصّومُ واجبٌ والغيبةُ حرامٌ ... وهكذا، فهذهِ لمَ تنشأ منَ الألفاظِ، بَل بقطعِ النّظرِ عنِ الألفاظِ، فهيَ شيءٌ مُسلّمٌ قَد توارثناهُ بنحوِ القطعِ، ومِن ضروريّاتِ الإسلام التي تلقّيناها يداً بيدٍ، ولَم نستخرجها مِن ألفاظِ المعصومِ حتّى يُقالَ: هذا فهمٌ مِن تلكَ الألفاظِ، ولعلَّ الغيرَ يفهمُ شيئاً آخرَ بَل حصلنا عليها يداً بيدٍ وهوَ ما نُعبّرُ عنهُ: بالتّلقّي مِن خلالِ الإرتكازِ المُتوارثِ كما تمسّكنا بذلكَ في مسألةِ القُربيّةِ في اعتبارِ القُربةِ في الصّلاةِ والصّومِ والحجِّ والغُسلِ إلخ .

إذَن، لا يمكنُ أن يُقالَ: ليسَت هُناكَ حقيقةٌ مُطلقةٌ عنِ الأحكامِ الشّرعيّةِ وعنِ الإسلامِ، كلّا بَل إن تمَّ ما ذكرتُه فإنّما يتمُّ فيما إذا إستُفيدَ منَ الألفاظ أمّا الذي لَم يستفِد منَ الألفاظِ فيمكنُ تقديمُه كحقيقةٍ مُطلقةٍ.

ثالِثاً- إنَّ دلالةَ الألفاظِ على نحوين: دلالةٌ صريحةٌ أو ظاهرةٌ بظهورٍ جليٍّ، وأُخرى غيرُ صريحةٍ وبظهورٍ ليسَ بذلكَ الوضوحِ، فإنَّ للظّهورِ درجاتٍ، بعضُ درجاتِه جليّةٌ جدّاً، وبعضُها ليسَت كذلكَ، وما ذُكِرَ إن تمَّ فهوَ يتمُّ فيما كانَ الظّهورُ فيهِ ليسَ جليّاً، أمّا إذا فرضَ أنَّ الدّلالةَ كانَت صريحةً فعادةً ما كانَت دلالتُه صريحةً لا يحصلُ فيهِ التّغيّرُ بتغيّرِ الزّمانِ كما إذا قيلَ: يحرمُ فعلُ الشّيءِ الفُلانيّ، فكلمةُ (يحرمُ) لا تقبلُ التّغيّرَ بتغيّرِ الزّمان، فهيَ إمّا صريحةٌ أو ظاهرةٌ بظهورٍ جليٍّ في الحُكمِ الإلزاميّ، وهذا منَ البعيدِ التّغيّرُ فيهِ بتغيّرِ الزّمان، وإنّما الذي يقبلُ التّغيّرَ بتغيّرِ الزّمانِ هيَ تلكَ المعاني التي لَم تكُن مِن قبيلِ الصّريحِ أو الظّاهرِ بالظّهورِ الجليّ، وحيثُ إنَّ الكثيرَ منَ الأحكامِ الشّرعيّةِ تستندُ إلى الصّراحةِ وإلى الظّهورِ الجليّ- فإنَّ ما ذُكرَ لا يتمُّ في مُطلقِ الأحكامِ الشّرعيّةِ، ولئِن تمَّ فهوَ يتمُّ في بعضِها.

رابِعاً-  لو سلّمنا بكلِّ ما قالوه، فغايةُ ما يثبتُ هوَ إمكانُ الإختلافِ في الأزمنةِ المُختلفةِ، فالموجودونَ قبلَ مائةِ سنةٍ، إذا ذكرُوا حُكماً فيمكنُ أن نقولَ: إنَّ هؤلاءِ فهمُوا حسبَ اجتهادهِم وقراءتِهم ونحنُ الآنَ نفهمُ حسبَ قراءتِنا واجتهادِنا، أمّا أن  يحصلَ الإختلافُ في العصرِ الواحدِ (وليسَ في العصورِ المُختلفةِ) ونعدُّ هذا الإختلافَ وليدَ إختلافِ الزّمنِ؛ فهذا لا معنى لهُ، فإنَّ اختلافَ الزّمنِ لا يُؤثّرُ على الفهمِ في الزّمنِ الواحدِ، فمثلاً: في عصرِنا لو فهمَ أحدٌ الآيةَ الكريمةَ: (للذّكرِ مثلُ حظِّ الأُنثيينِ) الآنَ أنَّ الرّجلَ يأخذُ ضعفَ حصّةِ الأُنثى، وافترضنا أنَّ شخصاً أو أشخاصاً قبلَ مائة سنةٍ قالوا: نحنُ نفهمُ منهُ التّساوي، فهذا الاختلافُ نتيجةَ اختلافِ الزّمانِ يمكنُ قبولُه، ويمكنُ تبريرُه على أنّهُ إختلافٌ في الإجتهادِ والرّؤى والقراءةِ، ويكونُ وجيهاً فيما إذا فرضنا وجودَ جماعةٍ تعيشُ في هذا العصرِ وجماعةٍ تعيشُ في ذلكَ العصرِ واختلفَ فهمُهم، أمّا في الزّمانِ الواحدِ نحنُ نفهمُ منهُ أنَّ الرّجلَ يأخذُ الضّعفَ وأصحابَ الأقلامِ الحديثةِ يفهمونَ مِن ذلكَ المساواةَ فهذا شيءٌ بعيدٌ، بَل لا يمكنُ أن يُبرّرَ باختلافِ الزّمانِ لفرضِ أنَّ الزّمانَ واحدٌ، وليسَ مُتعدِّداً.

هذا مُضافاً إلى أنّهم يقولونَ مثلاً هكذا:- إنَّ (للذّكر مثلُ حظِّ الأُنثيين) يعني في الزّمنِ السّالفِ حيثُ لَم تكُن المرأةُ يداً عاملةً وإنّما كانَ الرّجلُ هوَ اليدُ العاملةُ فمنَ المُناسبِ أن تكونَ حصّةُ الرّجلِ ضعفَ حصّةِ الأُنثى، أو هوَ ينفقُ والمرأةُ لا تنفقُ فمنَ المناسبِ أن تكونَ حصّةُ الرّجلِ ضعفَ حصّةِ الأنثى أمّا في زمانِنا فهيَ تُنفِقُ كما ينفقُ الرّجلُ وهيَ يدٌ عاملةٌ كيدِ الرّجلِ، وهكذا بالنّسبةِ إلى الدّيّةِ فديّةُ المرأةِ نصفُ ديّةِ الرّجلِ،- كما في الرّواية - فيُقالُ هذا ناظرٌ إلى ذلكَ الزّمنِ، وليسَ إلى هذا الزّمن.

فهذا الذي يقولونَه في الحقيقةِ هوَ ليسَ إختلافاً في دلالةِ اللّفظِ باختلافِ الزّمانِ، فدلالةُ اللّفظِ لَم تختلِف، أي أنّهُم لم يفهمُوا شيئاً خلافَ ما نحنُ نفهمُه، بَل كُلّنا نفهمُ شيئاً واحداً، ولكِن هُم يريدونَ أن يحملوا ذلكَ على تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ، حيثُ كانَت المرأةُ لا تُنفقُ، ولَم تكُن يداً عاملةً، وهذا لم ينشأ مِن إختلافِ دلالةِ اللّفظِ باختلافِ الزّمنِ، إنّما يتصوّرُ هذا المعنى فيما لَو فرضَ أنّهم فسّروا جُملةَ: "للذّكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين" بالمُساواة، فنقولُ: نعَم، هذا إختلافٌ في الفهمِ باختلافِ الزّمنِ، أمّا أن نقولَ: إنَّ الفهمَ واحدٌ وهوَ أنّهُ للرّجلِ ضِعفُ حصّةِ الأُنثى ولكنَّ هذا خاصٌّ بذلكَ الزّمنِ مثلاً فهذا لَم ينشأ مِن إختلافِ دلالةِ الألفاظِ والجُملِ باختلافِ الزّمانِ.

 إذَن، هذا حملٌ لهذهِ الدّلالةِ على فترةٍ زمنيّةٍ مُعيّنةٍ، ولا ربطَ لهُ باختلافِ الدّلالةِ اللّفظيّةِ باختلافِ الزّمانِ.

الفصلُ الثّالثُ: ما يخضعُ للنّظرِ، ويقبلُ الإحتمالين.

في هذا القسمِ يمكنُ كلّا الإحتمالين، فلا نتمكّنُ أن نقولَ: ينبغي الإتّفاقُ على تأثيرِ الزّمانِ فيها، أو ينبغي الإتّفاقُ على عدمِ تأثيرِ الزّمانِ فيها، بَل كِلا الإحتمالين وجيهانِ، بالإمكانِ أن يُقالَ بتأثيرِ الزّمانِ فيها، وبالإمكانِ أن لا يُقالَ بتأثيرِه، ونذكرُ مجموعةَ أمثلةٍ:

المثالُ الأوّلُ: ما دلَّ على تكثيرِ النّسلِ.

 ففي الحديثِ الشّريفِ عنهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه(: تزوّجوا فإنّي مُكاثرٌ بكُم الأممَ غداً في القيامةِ، حتّى أنَّ السّقطَ يقفُ مُحبنطئاً [محبنطيّاً] على بابِ الجنّةِ، فيُقالُ لُه: أدخُل فيقولُ: لا، حتّى يدخُلَ أبوايَ قبلي(المصدرُ نفسُه ج21، ص358، أبوابُ أحكامِ الأولادِ، ب1ن ح14، آل البيت)، وقَد جاءَ في معاني الأخبارِ للصّدوق (رحمهُ اللهُ): المحبنطيّ بغيرِ همزٍ المُتغضّب المُستبطئُ للشّيءِ (وكأنَّ السّقطَ يقفُ غاضِباً على تأخُّرِ أبويه) وأمّا المحبنطئ بالهمزِ: العظيمُ البطنِ المُنتفخ (معاني الاخبار، الصّدوق، ص291، ط مؤسّسةُ النّشرِ الإسلاميّ)، وذلكَ كنايةً عَن شدّةِ غضبِه كأنّهُ تنتفخُ بطنُه.

 والشّاهدُ هوَ قولُه (صلّى اللهُ عليهِ وآله): "تزوّجوا فإنّي مكاثرٌ بكُم الأممَ غداً في القيامةِ" فمنَ الأشياءِ المُسلّمةِ في تعاليمِ الإسلامِ كثرةُ النّسلِ، فإنّها مُحبّذةٌ؛ لِهذا الحديثِ ولغيرِه ولكِن، هَل لقائلٍ أن يقولَ:

إنَّ هذا الحديثَ وما شاكلَهُ ناظرٌ إلى الزّمانِ القديمِ الذي كانَ فيه المُسلمونَ قليلٌ فأرادَ النّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أن يكثُرَ المُسلمونَ في مُقابلِ بقيّةِ الأُممِ ولا يشملُ مثلَ زمانِنا؟!، وقَد يُضافُ إلى ذلكَ شيءٌ آخر وهوَ أنَّ الحياةَ في ذلكَ الزّمنِ كانَت حياةً بدائيّةً، فالنّسلِ يأتي وهوَ في البيتِ أو الزّقاقُ أو في الشّارعِ وتنقضي الحياةُ بهذا الشّكلِ، ولكِن في زمانِنا أصبحَت الحياةُ مُعقّدةً فيحتاجُ إلى مدارسَ ومُستشفياتٍ وإلى دارٍ بوصفِ كذا وغيرِ ذلكَ وإذا فتحنا البابَ على مصراعيه فحينئذٍ يصعبُ القيامُ بخدمةِ هؤلاءِ، فتبقى حينئذٍ شريحةٌ منَ النّاسِ بلا مُستشفياتٍ ولا تعليمٍ ولا غيرِ ذلكَ، إنّهُ قَد يقولُ البعضُ ذلكَ، فإمّا أن يكونَ ناظِراً إلى ذلكَ الزّمانِ الذي كانَ فيهِ المُسلمونَ قليلونَ أو هوَ ناظرٌ إلى ذلكَ الزّمانِ الذي لَم تكُن فيهِ حاجةٌ إلى المدارسِ وغيرِها ولا يشملُ مثلَ زمانِنا، وهذهِ قضيّةٌ قابلةٌ للأخذِ والعطاءِ، فليسَ هذا مِن موردِ ما ينبغِي الإتّفاقُ على تأثيرِ الزّمانِ فيهِ أو ينبغي الإتّفاقُ على عدمِ تأثيرِ الزّمانِ فيه بَل هوَ شيءٌ مُحتمَلٌ ولكِنَّ هذا مُجرّدُ إحتمالٍ وجيهٍ، وليسَ لهُ مثبت.

المثالُ الثّاني: ما دلَّ على أنَّ كلَّ رايةٍ تخرجُ قبلَ قيامِ المولى (الإمامِ المهديّ) فهيَ رايةُ ضلالٍ.

 كما في صحيحةِ أبي بصيرٍ عَن أبي عبدِ اللهِ (عليه السّلام): "كلُّ رايةٍ تُرفعُ قبلَ قيامِ القائمِ فصاحبُها طاغوتٌ يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ عزَّ وجلَّ" (وسائل الشيعة، العاملي ج15، ص52، أبوابُ جهادِ العدو، ب43، ح6) فإنّهُ قَد يُقالُ: إنَّ هذهِ الرّوايةَ ناظرةٌ إلى ذلكَ الزّمانِ الذي كانَ فيهِ أصحابُ الرّاياتِ يخرجونَ لأهدافٍ غيرِ صحيحةٍ (بهدفِ الدّعوةِ إلى أنفسِهم)، فهيَ ناظرةٌ إلى مثلِ ذلكَ الزّمانِ، أمّا لَو فرضَ أنّهُ خرجَ في زمانِنا شخصٌ لا يدعو إلى نفسِه، بَل يدعو لإسقاطِ النّظامِ الظّالمِ مِن دونِ دعوةٍ إلى النّفسِ، ثمَّ بعدَ ذلكَ تُشكَّلُ حكومةٌ، فمثلُ هذا لا يكونُ مشمولاً بهذهِ الرّوايةِ؛ لأنَّ هذا نحوٌ منَ الأمرِ بالمعروفِ، والأمرُ بالمعروفِ لا يسقطُ فهوَ موجودٌ في كلِّ زمانٍ.

على أن يكونَ إحتمالُ نجاحِنا عُقلائيّاً بدرجةٍ مُعتدٍّ بها، لا أنّنا نُعطي الضّحايا كما في بعضِ الدّولِ، ولا يُعرَفُ ما هيَ العاقبةُ، بَل يُفترضُ أنّه يوجدُ عندَنا عدّةٌ وعددٌ، وقالَ الخُبراءُ إنَّ هذا الشّيءَ مضمونٌ، وأنا أيضاً لا أدعو إلى نفسِي بَل أُعطي القيادةَ إلى شخصٍ مِن دونِ أن يدعو إلى نفسِه وإنّما يدعو إلى إقامةِ الحقِّ ثمَّ بعدَ ذلكَ يختارونَ شخصاً مِن خلالِ الإنتخاباتِ أو غيرِ ذلكَ، ومثلُ هذا في الحقيقةِ هوَ إقامةٌ للعدلِ، فهذهِ الرّواياتُ لا تكونُ شاملةً لمثلِ هذا، هكذا قَد يُقالُ، فهَل هوَ مقبولٌ؟ إنّهُ شيءٌ وجيهٌ ولا بأسَ به.

المثالُ الثّالثُ: ما دلَّ على حُرمةِ بيعِ الدّمِ أو بيعِ غيرِ ذلكَ من الأعيانِ النّجسة.

 والدّمُ في زمانِنا أصبحَ ذا فائدةٍ كبيرةٍ وتتوقّفُ عليه حياةُ الكثيرِ، وحينئذٍ يمكنُ أن يُقالَ:

 إنَّ الرّواياتِ النّاهيةَ عَن بيعِ الدّمِ ناظرةٌ إلى تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ التي كانَ الهدفُ فيها هدفاً باطِلاً كالأكلِ أو غيرِ ذلك، أمّا مثلُ زمانِنا الذي تتوقّفُ عليهِ الحياة فلا تكونُ شاملةً لهُ، وما هوَ نظرُكَ في هذا؟ إنّهُ شيءٌ وجيه. إذَن، القضيّةُ تتبعُ نظرَ الفقيهِ ويمكنُ أن يبني على هذا، أو على ذاك، نعَم، دليلُ الذي يقولُ: نُبقيها على إطلاقِها واضحٌ؛ لأنّه هوَ مُقتضى الإطلاقِ الأزمانيّ، وأمّا مَن أرادَ أن يذهبَ إلى كونِ الزّمانِ مُؤثّراً فلابُدَّ وأن يدّعي الجزمَ والقطعَ، فإذا حصلَ القطعُ والجزمُ فنعَم، وإلّا فلا يمكنُ أن يرفعَ اليدَ عنِ الإطلاق.

 

 

المثالُ الرّابعُ: ما دلَّ على حُرمةِ الشّطرنج.

 فقَد يقالُ: إنَّ ما دلَّ على حُرمتِه ناظرٌ إلى تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ التي كانَ يُتَّخذُ فيها الشّطرنجُ كوسيلةٍ للهو وقضاءِ الوقتِ والتّسلية، أمّا في زمانِنا الذي أصبحَ فيه الشّطرنجُ وسيلةً لتقويةِ الذّهنِ، وخرجَ عَن كونِه مِن آلاتِ التّرفِ والتّقامرِ، فهُناكَ مجالٌ لدعوى إنتفاءِ الحُرمة؛ لأنَّ الرّواياتِ ناظرةٌ إلى تلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ.

المثالُ الخامسُ: الإلزامُ بتسجيلِ الزّواجِ بشكلٍ رسميّ، بحيثُ مَن لَم يُسجِّل الزّواجَ يُعاقَب .

فهُناكَ مُشكلةٌ حاصِلُها:

إنَّ منَ الأحكامِ الشّرعيّةِ هوَ أنّهُ لَو وجدنا رجُلاً وامرأةً يسيرانِ في شارعٍ أو في زقاقٍ ويدّعي أنّها زوجتُه وهيَ تدّعي أنّهُ زوجُها، فهَل نأخذُ بكلامِهما أو لا؟ نعَم، نأخذُ بكلامِهما ولَو مِن بابِ أنَّ الحقَّ لا يعدوهُما، يعني: أنّهُ مِن حقِّهما أن يتزوّجا، والشّارعُ جوّزَ لهُما ذلكَ، وذلكَ حقٌّ لهُما، فأعملاهُ فلِماذا تُراقبُهما؟! إنّهُ لا يجوزُ لكَ ذلكَ بَل عليكَ أن تتركَهُما .

ولكِن إذا فرضَ أنَّ تطبيقَ هذا الحُكمِ الشّرعيّ في زمانِنا ترتّبَت عليهِ مفسدةٌ، فحلّاً لهذهِ المُشكلةِ نقولُ:

لابُدَّ مِن تسجيلِ الزّواجِ، أي لابُدَّ مِن وجودِ مُستمسكٍ رسميٍّ ومِن دونِ وجودِه نأمرُ بتعزيرِهما . وما هوَ نظرُكَ بهذا ؟ إنَّ هذهِ قضيّةٌ قابلةٌ للأخذِ والعطاءِ فقَد يُقالُ: لا بأسَ بذلكَ والحُكمُ الشّرعيُّ الذي يقولُ: الحقُّ لا يعدوهما ويصدّقانِ، ناظرٌ إلى ذلكَ الزّمنِ الذي لَم تكُن فيهِ المفاسدُ موجودةً كما هو الحالُ في زمانِنا، أمّا مثلُ زمانِنا الذي نعلمُ بوجودِ المفاسدِ فيه فلا. إذَن، هذهِ مسألةٌ قابلةٌ للأخذِ والرّدِّ، ولا أقولُ حتماً يوجدُ للزّمانِ تأثيرٌ في هذهِ المواردِ.

المثالُ السّادسُ: ضمانُ العاقلةِ .

فرُبّما يقالُ: إنَّ العاقلةَ في قتلِ الخطأ هيَ التي تتحمّلُ الدّيّةَ، ولكِنَّ هذا نحملُه على ذلكَ الزّمانِ الذي كانَ فيهِ النّظامُ القبليُّ والعشائريُّ هوَ الحاكمُ، أمّا الآنَ خصوصاً في بعضِ الدّولِ التي تحكمُها المدنيّةُ ولا يوجدُ فيها نظامٌ عشائريٌّ أبداً فإذا قتلَ شخصٌ شخصاً آخرَ خطأً فهَل تأتي مسألةُ العاقلةِ؟

قَد يُقالُ إنَّ مثلَ هذا الحُكمِ نحملُه على النّظامِ القبليّ ولا نعمّمُه إلى المُجتمعاتِ المدنيّةِ، فإنَّ هذا شيءٌ لا بأسَ به، ولكِن قلتُ هذهِ قضيّةٌ قابلةٌ للأخذِ والعطاء.

المثالُ السّابعُ: ذبحُ الهدي.

لابُدَّ أن يذبحَ الحاجُّ الهديَ في مِنى، فرُبّما يُقالُ: إنَّ هذا واجبٌ بلحاظِ الزّمنِ الساّبقِ الذي كانَ يوجدُ فيهِ الفُقراءُ هُناكَ ويستفيدونَ منهُ، أمّا في مثلِ زمانِنا فلا، فإنّهم لا يستفيدونَ منه، فعلى فرضِ أنَّهُم  واقِعاً لا يستفيدونَ منه، لا أن (يُعلّبَ) ويُرسلَ إليهم، فهذهِ قضيّةٌ أُخرى، يأتي السّؤالُ: هَل نقولُ بسقوطِ كونِ الهدي مُعتبراً في منى ويجوزُ أن يذبحَ في بلدِه مثلاً ؟ إنّه رُبّما يُقالُ بذلكَ.

المثالُ الثّامنُ: (خيرٌ للمرأةِ ألّا ترى رجُلاً...)

 وردَ في الحديثِ الشّريفِ عنِ الإمامِ أميرِ المُؤمنينَ (عليهِ السلام) قالَ لنا رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): أيُّ شيءٍ خيرٌ للمرأةِ ؟ فلمَ يجبهُ أحدٌ منّا، فذكرتُ ذلكَ لفاطمةَ (عليها السلام) فقالَت: ما مِن شيءٍ خيرٌ للمرأةِ مِن ألّا ترى رجُلاً، ولا يراها، فذكرتُ ذلكَ لرسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) فقالَ: صدقَت، إنّها بضعةٌ منِّي (مستدرك الوسائل، النوري، ج14، ص289، أبوابُ مُقدّماتِ النّكاح، ب100، ح2).

إذَن، خيرٌ للمرأةِ ألّا ترى الرّجالَ، ولا يراها الرّجالُ، ولكِن قَد يُقال:

إنَّ هذا مُختصٌّ بتلكَ الفترةِ الزّمنيّةِ أيضاً؛ لأنّهُ في زمانِنا نحتاجُ إلى طبيبةٍ للنّساءِ مثلاً، وحينَ تمرضُ المرأةُ هَل نقولُ لها: إذهبي إلى الرّجالِ حتّى في القضايا النّسائيّةِ أو نقولَ: إبقي هكذا إلى أن يقضي اللهُ عزَّ وجلَّ؟!! هذا غيرُ مقبولٍ، فيُعيّنُ أن تتصدّى ثلّةٌ من النّساءِ إلى هذهِ القضيّةِ فيُصبحنَ طبيباتِ نسائيّةٍ على الأقلِ وهذا يستلزمُ الدّخولَ في المدارسِ والجامعاتِ وغيرِ ذلك، ويترتّبُ عليهِ أنّها ستخرجُ في كلِّ يومٍ، ويراها الرّجالُ. فإذَن، قد يقالُ إنَّ هذا ناظرٌ إلى ذلكَ الزّمانِ دونَ مثلِ زماننا .

نعَم، لا نفتحُ البابَ على مصراعيه، ونقولُ: فلتدخُل جامعةً مُشتركةً بينَ الذّكورِ والإناث، بَل لابُدَّ وأن نُنشئَ جامعةً خاصّةً بالنّساءِ، ونُحافظَ على الحشمةِ مهما أمكنَ، ولكِن بالنّتيجةِ، لابُدَّ أن نقوَل: يجوزُ أن تخرُجَ المرأةُ مِن بيتِها ويراها الرّجالُ بالمقدارِ الضّروريّ، إنّهُ رُبّما يقالُ ذلك.

المثالُ التّاسعُ والأخيرُ: نظامُ البنوك.

كما هوَ معروفٌ: لا يجوزُ أخذُ الفائدةِ في القرضِ، ولو تأخّرَ صاحبُ القرضِ عَن وفاءِ دَينِه في الموعدِ المُقرّرِ لا يجوزُ وضعُ غرامةٍ عليه، والآنَ أنشأنا بنكاً إسلاميّاً ولا نريدُ فيهِ أيَّ ربا فنُقرِضُ أموالَهُ للنّاسِ قُربةً إلى اللهِ تعالى، فمثلاً نُقرضُ شخصاً مليونَ دينارٍ ويكونُ أداؤه في ستّةِ أشهرٍ، فلَو فرضنا أنّهُ لم يأتِ بها على رأسِ الستّةِ أشهرٍ فلابُدَّ مِن وضعِ وسيلةِ ضغطٍ لاستعادةِ المالِ حتّى يستفيدَ منهُ شخصٌ آخرُ وحتّى يُتداولَ المالُ وحتّى نعيشَ نحنُ في هذا الزّمانِ الجديدِ لا في الزّمانِ القديمِ ففي زمانِنا هذا لا تتمكّنُ أن تقولَ نحنُ لا نحتاجُ إلى البنوكِ، فلابُدَّ مِن وجودِ بنوكٍ والمفروضُ أنَّ هذهِ البنوكَ إسلاميّةٌ وشرعيّةٌ .

وعلى هذا الأساسِ لَو كانَت توجدُ طريقةٌ منَ الطّرقِ الشّرعيّةِ يمكنُ مِن خلالِها فرضُ الضّريبةِ عليه لو تأخّرَ لا يلزمُ منها الرّبا فبها ونعمت، أمّا لو فرضَ أنّ هذهِ الطُّرقُ لم تنجَع ولم نحصُل عليها فهَل يمكنُ أن نفرضَ ضريبةً؟! فالإسلامُ لابدَّ أن يُسايرَ الحياةَ بمقدارٍ عُقلائيٍّ، ولا يمكنُ أن يُسايرَ الحياةَ إلّا بهذهِ الطّريقةِ فنفرضُ آنذاكَ ضريبةً حتّى يُمكنَ للبنكِ أن يشقَّ طريقَه في الحياةِ، فيقالُ: إنَّ ذلكَ جائزٌ والرّواياتُ التي دلَّت على أنّهُ لا يجوزُ المُطالبةُ بالأكثرِ ووضعُ الغرامةِ ناظرةٌ إلى تلكَ الفترةِ الزمنيّةِ التي يمكنُ فيها أن تسيرَ الحياةُ مِن دونِ نظامٍ بنكيٍّ أمّا مثلُ زمانِنا نقولُ بالجوازِ، وهَل هذا شيءٌ وجيهٌ أو لا؟، وعلى أيّ حالٍ منِ خلالِ كلِّ هذا إتّضحَ أنَّ هذهِ الحالاتِ (في القسمِ الثّالثِ) قابلةٌ للأخذِ والعطاء.