ممكن بحث حولَ نظريّةِ الزمانِ والمكانِ في الأحكامِ الشرعيّة .  

: الشيخ معتصم السيد احمد

السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه :  

منَ المؤكّدِ أنَّ الزمانَ والمكانَ ليسَ لهُما تأثيرٌ على الأحكامِ الشرعيّة الثابتةِ، فهيَ لم تُشرَّع لفترةٍ زمنيّةٍ مُحدّدةٍ حتّى تنتهي بانتهاءِ تلكَ الفترة، وإنّما وجدَت لتكونَ صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكان، ومِن هُنا فإنَّ الذي يتبنّى تأثيرَ الزمانِ والمكانِ على الأحكامِ إنّما يقصدُ الأحكامَ المُتعلّقةَ بالموضوعاتِ الظرفيّة، وهذا النوعُ من الأحكامِ يُشكّلُ المساحةَ الاجتهاديّةَ التي يمارسُ فيها الفقيهُ ولايتَه التشريعيّة على المُتغيّراتِ بما يتناسبُ والقواعدَ الأصوليّة.  

وعليهِ هناكَ أحكامٌ ثابتةٌ وأحكامٌ مُتغيّرة، وما يتأثّرُ بالزمانِ والمكانِ هيَ الأحكامُ المُتغيّرة، وقد اصطلحَ الشهيدُ الصّدرُ على هذا النوعِ منَ الموضوعاتِ بمنطقةِ الفراغِ التشريعي، والمقصودُ منَ الفراغِ ليسَ الفراغ منَ الحُكمِ الشرعي بشكلٍ مُطلق، وإنّما الفراغُ منَ الحُكمِ الإلزاميّ لجميعِ الأزمنةِ، فمنَ المؤكّدِ أنَّ كلَّ الوقائعِ الحياتيّةِ لها حكمٌ يناسبُها منَ الأحكامِ الخمسة (الوجوبُ، والحُرمة، والاستحبابُ، والكراهةُ، والإباحة) وما هوَ مباحٌ يمكنُ أن يترتّبَ عليهِ حُكمٌ إلزاميٌّ ثانويّ بحسبِ ما تقتضيهِ المصلحةُ، ويقولُ الشهيدُ الصّدر في ذلك: (ولا تدلُّ منطقةُ الفراغِ على نقصٍ في الصورةِ التشريعيّة، أو إهمالٍ منَ الشريعةِ لبعضِ الوقائعِ والأحداث، بل تعبيرٌ عن استيعابِ الصّورة، وقدرةِ الشريعةِ على مواكبةِ العصورِ المُختلفة؛ لأنّ الشريعةَ لم تترُك منطقةَ الفراغِ بالشكلِ الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنّما حدّدَت للمنطقةِ أحكامَها، بمنحِ كلِّ حادثةٍ صفتَها التشريعيّةَ الأصليّة، معَ إعطاءِ وليّ الأمرِ صلاحيّةَ منحِها صفةً تشريعيّةً ثانويّةً حسبَ الظروفِ. فإحياءُ الفردِ للأرضِ ـ مثلاً ـ عمليّةٌ مباحةٌ تشريعيّاً بطبيعتِها، ولوليّ الأمرِ حقُّ المنعِ عن مُمارستِها وِفقاً لمُقتضياتِ الظروف) (اقتصادُنا ص 725)، ومثالُ إحياءِ الأرضِ الذي يشيرُ إليه في معرضِ كلامِه، لهُ علاقةٌ بروايةِ محمّدٍ بنِ مُسلم عن الإمامِ الصّادقِ (عليه ‏السّلام) التي وردَ فيها: (أيّما قومٍ أحيوا شيئاً منَ الأرضِ وعمروها فهُم أحقُّ بها وهيَ لهم)، فمعَ أنَّ الرّوايةَ تؤكّدُ حُكمَ الإباحةِ في إحياءِ أيّ أرضٍ واستملاكِها بذلك، إلّا أنَّ الفقيهَ يمكنُه أن يتدخّلَ ويمنعَ مِن ذلكَ إذا لم يكُن الزمانُ والمكانُ يسمحانِ بمثلِ هذا الفعل، حيثُ لم يكُن لهذا الحُكمِ وقتَ تشريعِه أيُّ محذورٍ مُترتّبٍ عليه، أمّا اليوم ومعَ تطوّرِ الحياةِ وتنظيمِ وسائلِ الإنتاجِ قد يؤدّي هذا الحُكمُ إلى الفوضى وضياعِ الحقوق، فيجوزُ للفقيهِ حينَها أن يُبدّلَ الحُكمَ الأوّلي بالإباحةِ إلى حُكمٍ آخرَ ثانوي وهوَ منعُ تملّكِ الأرضِ بمُجرّدِ الزراعة.   

وإذا أردنا أن نُقرّبَ المسألةَ بمثالٍ مُعاصر، يمكنُنا أن نضربَ مثلاً بمرضِ الكورونا الذي يُشكّلُ تحدّياًعالمياً في هذا العصر، فلو فرضنا أنَّ إعطاءَ اللقاحِ لجميعِ أفرادِ المُجتمعِ هوَ الضمانُ الوحيدُ للقضاءِ على هذا المرض، فيجوزُ حينَها للفقيهِ أن يُفتي بوجوبِ أخذِه معَ أنَّ حُكمه الأوّليّ هو الإباحةُ، وعليهِ هناكَ الكثيرُ منَ الموضوعاتِ الظرفيّةِ التي تكونُ أحكامُها ثانويّةً ومُتغيّرةً بحسبِ الظرفِ الزّمانيّ والمكاني.  

للوقوفِ على تفاصيلَ أكثر حولَ هذا الموضوع يمكنُ الرّجوعُ إلى دراسةٍ بعنوانِ تأثيرِ الزمانِ والمكانِ في الاجتهادِ لدى الشهيدِ الصدرِ للكتابِ محمود زماني، التي نُشرَت في مجلّةِ فقهِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) العددُ 46.