هل بني إسرائيل يهود!؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
هُناكَ عدّةُ دراساتٍ مُختصّةٍ بهذا الموضوعِ بيّنَت أنَّ اليهودَ المُعاصرينَ - كانوا ولا يزالونَ - يُشيعونَ وينشرونَ أنّهم نسلُ بني إسرائيلَ الأوائلَ الذين قطنُوا بفلسطين، وهُم في زعمِهم وارثُو أولئكَ الإسرائيليّينَ الأوائلَ الذينَ كانوا في فلسطين. وقد ساعدَ على نشرِ مقالتِهم هذه إعلامُهم المُضلِّلُ, وبعضُ الكُتّابِ المحسوبينَ على المُسلمينَ مِـمّن أيّدَ ذلكَ عَن عمدٍ أو عَن غيرِ عمد. ولكِن سنُبيّنُ في هذا الجوابِ أنَّ هُناكَ فرقاً واضِحاً بينَ بني إسرائيلَ وبينَ اليهود, وسنعمدُ في جوابِنا على ثلاثةِ أمورٍ علميّةٍ رئيسةٍ، هيَ: المصدرُ التّاريخيّ، واللّغويّ، والدّينيّ، وهذهِ الأمورُ الثّلاثةُ، تجتمعُ أساساً في النّصِّ القُرآنيّ، الذي سيشكّلُ الإعتمادُ على آياتِه الحلقةَ الأوسعَ في سعينا هذا.
أوّلاً– أصلُ تسميةِ (بني إسرائيل)، وذكرُهم في القُرآن:
في هذا البابِ سنعرضُ لدراسةِ بني إسرائيلَ قبلَ أن نعرضَ لدراسةِ اليهودِ، بحسبِ السّبقِ التّاريخيّ للأوّلِ على الثّاني، إذ لم تأتِ آيةٌ مِن آياتِ القرآنِ على ذكرِ اليهودِ في المواضعِ التي ذُكرَ فيها موسى عليه السّلام أو مَن سبقَهُ منَ الأنبياءِ جميعاً، في حينِ أنّ بني إسرائيلَ قَد رافقَ وجودُهم جميعَ الأنبياءِ الذينَ أعقبوا إسرائيلَ (يعقوب عليه السّلام) وصولاً إلى المسيحِ عليهِ السّلام كما سَيَبِينُ ذلكَ لاحقاً. وكذلكَ كانَ ورودُ ذكرِ يعقوبَ عليهِ السّلام , وبنيهِ في القُرآنِ الكريم أكثرَ مِـمّا ذُكرَ اليهودُ بأربعةِ أضعافٍ، وكذلكَ كانَ ذكرُ موسى عليه السّلام، بَل لم يذكُر القُرآنُ العظيمُ نبيّاً بمثلِ ما جاءَ على ذكرِ موسى عليه السّلام.
فإذا إتّضحَ ذلكَ فآنَ الأوانُ أن نُبيّنَ أصلَ تسميةِ بني إسرائيلَ, فنقول: إنَّ إسرائيلَ كما هوَ معروفٌ، هوَ الاسمُ الثّاني ليعقوبَ عليهِ السّلام، ومِن هُنا أُطلقَ على أبنائِه: (بنو إسرائيلَ)، وهُم الأسباطُ الإثنا عشرَ، وهُم: يوسف، وبنيامين، ولاوي، ويهودا (يهوذا)، ويساكر، وشمعون، ونفتالي، وجاد، ودان، ورؤبين، وزبولون، وأشير. ومعنى إسرائيل كما وردَ في المصادرِ العربيّةِ هوَ: (صفوةُ اللهِ), أو (عبدُ الله)، في حينِ جاءَ معناها الحرفيّ في العهدِ القديم، بمعنى الذي يصارعُ اللهَ، وأصلُها عندَهُم (إسرا) يُصارِع و(إيل) بمعنى الإلهِ، وسببُ ذلك يُعزى إلى أنّ كتبةَ العهدِ القديمِ كانوا منَ اليهودِ، إذ زعمُوا أنَّ يعقوبَ تصارعَ معَ اللهِ جلَّ وعلا حتّى بلغَ منهُ الجهدُ، فأطلقَ اللهُ عليه هذا الاسمَ. (تعالى اللهُ عمّا يقولونَ علوّاً كبيرا).
وأمّا يعقوبُ (إسرائيل): فهوَ ابنُ النّبيّ إسحاقَ بنِ إبراهيم، كانَ على دينِ آبائِه، (حنيفاً مُسلماً)، ولَم يكُن على دينِ اليهودِ، الذينَ ظهروا بعدَه بأكثرَ مِن أربعةِ أجيالٍ، هذا إذا افترضنا أنَّ التّوراةَ التي نزلَت على موسى هيَ شريعةُ اليهودِ، وبالتّالي فالتّوراةُ أُنزِلَت بعدَ يعقوبَ عليهِ السّلام , ولم يعهَدها أو يعاصِرها. وقَد نوّهنا آنِفاً أنّهُ لمَ يُذكَر أحدٌ في القُرآنِ الكريمِ, لا مِنَ الأنبياءِ ولا مِنَ المُرسَلينَ ولا منَ الملائكةِ، كما ذُكرَ موسى عليه السّلام، وكذلكَ بنو إسرائيلَ تكرَّرَ ذكرُهم في القُرآنِ الكريمِ كما لم تتكرَّر قصّةٌ أُخرى عنِ الأُممِ الأولى، عَن الأقوامِ الذينَ تلقَّوا الوحيَ واستمَعوا إليه، سواءٌ أكانَ إستماعُهم إستماعَ طاعةٍ أم إستِماعَ مَعصِيَة. ومَن يقرأ القرآنَ العظيمَ ويتدبّرُ آياتِه يلحظُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُخاطِبُ بني إسرائيلَ بصفتِهم أتباعَ رسالةٍ واضحةِ المعالمِ، منهُم المُطيعُ ومنهُم العاصي بناءً على ما ذُكرَ مِن حالاتٍ مُختلفةٍ تعرّضَ لها بنو إسرائيلَ في مراحلَ تاريخيّةٍ مُتفرّقةٍ، إذ منها ما يعودُ إلى عصرِ ما قبلِ موسى عليه السّلام، ومنها ما يعودُ إلى عصرِه، ومِنها ما يعودُ إلى زمانِ داودَ وسُليمان عليهما السّلام، وهكذا وصولاً إلى اللّحظةِ التي رُفعَ فيها المسيحُ عليه السّلام إلى السّماء. فانظُر إلى هذهِ النّصوصِ القُرآنيّةِ العظيمةِ كيفَ تتحدّثُ عَن بني إسرائيلَ, فمثلاً:
قولُه تعالى: (يَا بَنِي إِسرَائِيلَ اذكُرُوا نِعمَتِيَ الَّتِي أَنعَمتُ عَلَيكُم ) [البقرةُ: 40]
وقولُه تعالى: (وَإِذ أَخَذنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسرَائِيلَ لَا تَعبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) [البقرةُ:83].
وقولُه تعالى: (سَل بَنِي إِسرَائِيلَ كَم آتَينَاهُم مِن آيَةٍ بَيِّنَةٍ) [ البقرةُ:211].
وقولُه تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسرَائِيلَ)[ آلُ عمران:93].
وقولُه تعالى: (لَقَد أَخَذنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسرَائِيلَ وَأَرسَلنَا إِلَيهِم رُسُلًا) [المائدةُ:70].
وقولُه تعالى: (وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسرَائِيلَ اعبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم) [المائدةُ:72].
وقولُه تعالى: (وَإِذ كَفَفتُ بَنِي إِسرَائِيلَ عَنكَ إِذ جِئتَهُم بِالبَيِّنَاتِ) [ المائدةُ:110].
وقولُه تعالى: (قَد جِئتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِن رَبِّكُم فَأَرسِل مَعِيَ بَنِي إِسرَائِيلَ) [ الأعرافُ:105].
وقولُه تعالى: (وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) [ الأعرافُ:137].
وقولُه تعالى: (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَت بِهِ بَنُو إِسرَائِيلَ) [ يونس:90].
وقولُه تعالى: (وَآتَينَا مُوسَى الكِتَابَ وَجَعَلنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسرَائِيلَ) [الإسراء:2].وهكذا هيَ الآياتُ في [الإسراء:4], و[الإسراء: 104], و[طه:94], و[الشّعراء:59], و[الجاثية:16], و[الصّفّ:14].
وآخرُ آيةٍ تناولَت ذكرَ بني إسرائيل، بحسبِ التّسلسلِ التّاريخيّ للأنبياءِ عليهم السّلام وقصصِهم في القُرآنِ، وليسَ بحسبِ نزولِ الآيات، هيَ التي وردَ فيها قولُه تعالى: (فآمنَت طائفةٌ مِن بني إسرائيل وكفرَت طائفةٌ فأيّدنا الذينَ آمنوا على عدوِّهم فأصبحوا ظاهرينَ) [الصّفُّ:14], إذ مثّلَت هذهِ الآيةُ حقبةً تاريخيّةً شهدَت صراعاً واضحاً بينَ (بني إسرائيل واليهود)، وهذا يشيرُ إلى اِبتداءِ، أو اِستمرارِ مرحلةٍ تتمثّلُ باِغتصابِ اليهودِ للسُّلطةِ الدّينيّةِ، وتحويلِها كاملةً إلى دستورٍ فئويٍّ قبليٍّ، فكانَ ذلكَ بمنزلةِ إعلانِ إنتهاءِ شريعةِ موسى عليهِ السّلام بشكلٍ تامٍّ، وجعلِ اليهوديّة مكانَها, والآيةُ المِفصليّةُ في التّفريقِ العقديّ، والوجوديّ بينَ بني إسرائيلَ واليهودِ جاءَت في قولِه تعالى: (يا أيّها الذينَ آمنوا كونُوا أنصارَ اللهِ كما قالَ عيسى ابنُ مريمَ للحواريّينَ: مَن أنصاري إلى اللهِ قالَ الحواريّونَ: نحنُ أنصارُ الله, فآمنَت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرَت طائفةٌ, فأيّدنا الذينَ آمنوا على عدوِّهم فأصبحُوا ظاهرين)، وتفسيرُها مُرتبطٌ زمنيّاً باللّحظاتِ الأخيرةِ التي سبقَت، وشهدَت، رفعَ السّيّدِ المسيحِ عليه السّلام إلى السّماءِ، إذ طلبَ مِن أتباعِه التّمسّكَ بتعاليمِ الإيمانِ برسالتِه ومُناصرتِه، بحيثُ آمنَت بهِ مجموعةٌ (طائفةٌ) مِن نسلِ بني إسرائيل، وقالوا بأنَّ المسيحَ هوَ بشرٌ بالكاملِ، وعبدٌ مِن عبادِ الله، وقامَ اللهُ برفعِه إليهِ، وهؤلاءِ هُم (الحواريونَ) تلاميذُ المسيحِ عليهِ السّلام , وأمّا الطّائفةُ الثّانية، والتي وصفَها القرآنُ بالتي كفرَت؛ فقسمٌ قالَ: بأنَّ المسيحَ هوَ اللهُ، رفعَ نفسَه إلى السّماءِ، وقسمٌ قالَ: بأنّه ابنُ اللهِ، وقامَ اللهُ برفعِه بعدَ أن صُلبَ. وهذهِ الطّائفةُ هيَ التي أُطلقَ عليها (النّصارى)، الذينَ قالوا (المسيحُ ابنُ الله)، وقالوا أيضاً (نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبّاؤه).
ثانياً– (اليهودُ) في المصادرِ التّوراتيّةِ والتّاريخيّةِ:
في العبريّةِ (هيتبعيل) – هيتياهيد، تهوّد - صارَ يهوديّاً وأيضاً: فعلُ يهُد - هَوّدَ، أي جعلَهُ يهوديّاً. نستنتجُ مِن ذلكَ أنَّ هذا المُصطلحَ لم يُشتقّ مِن جذرِ فعلٍ مثلَما هوَ مُتوقّعٌ, وإنّما اشتقَّ مِن اسمِ (يهودا). بمعنىً آخر، إنَّ هذهِ الدّيانةَ تُنسَبُ إلى شخصٍ مثلِ الزّردشتيّةِ أو البوذيّةِ، أو لمنهجٍ فكريٍّ أو فلسفيٍّ مثلَ الماركسيّةٍ مثلاً، والإسمُ العلَمُ هذا هوَ يهودا، أحدُ أبناءِ يعقوبَ والأسباطِ الإثنَي عشر. وأمّا اليهوديّةُ فتتّفقُ أغلبُ التّعريفاتِ الإصطلاحيّةِ على نقاطٍ: أنّها إسمٌ يُطلَقُ على دينٍ يعتنقُه بنو إسرائيل، ويعتقدونَ فيها بأنّها مُنزلَةٌ منَ السّماءِ على موسى, وتلقّى الشّريعةَ على جبلِ سيناءَ بعدَ خروجِه ببني إسرائيلَ مِن مِصر، وتتمثّلُ في مجموعةِ العقائدِ والشّرائعِ والطّقوسِ وقواعدِ السّلوكِ، تراكمَت على مدى آلافِ السّنين، ولغويّاً أصلُ مُصطلحِ (يهوديّ) وطريقةُ استخدامِه في العهدِ القديمِ لا يُعرَف إلّا منَ المصادرِ الدينيّةِ, وخصوصاً مِن أسفارِ الكتابِ المُقدّسِ، وتشيرُ هذهِ المصادرُ، إلى أنَّ أصلَ لقبِ (يهوديّ) هوَ يهوذا بنُ يعقوب وأُطلقَ أصلاً على أبناءِ السّبطِ الذي خرجَ منهُ، ثمَّ أُطلقَ على سُكّانِ مملكةِ يهوذا التي أسّسها أبناءُ السّبطِ معَ أبناءِ بعضِ الأسباطِ الأصغرِ الذينَ أقامُوا بجوارِه. وفي الوثائقِ التّاريخيّةِ التّوراتيّةِ تُذكَرُ هذهِ المملكةُ باسمِ (بيتِ داود) نسبةً إلى سُلالةِ الملكِ داود (النّبيّ داود في الإسلام).
وفي سفرِ الملوكِ الثّاني ( 18،26 ) يُذكرُ اسمَ (يهوديّة) كإسمِ اللّهجةِ المحكيّةِ في مدينةِ أورشليم، منذُ السّبي البابليّ سنةَ 587 ق.م، وأصبحَ لقبُ (يهوديّ) يشيرُ إلى كلِّ مَن خرجَ مِن مملكةِ يهودا وواصلَ إتّباعَ ديانتِها وتقاليدِها، وعليهِ تكونُ اليهوديّةُ سُلالةً وليسَت ديانةً كما يُعتَقد، وهُم الذينَ جعلوا مِن سبطِ (يهوذا) سبطَ الملوكِ عندَ أبناءِ إسرائيلَ أصلاً لهُم عوضاً عنِ الدّيانةِ التي نزلَت في التّوراةِ على النّبيّ موسى عليهِ السّلام قبلَ داودَ وسُليمانَ بما لا يقلُّ عَن ثلاثةِ قرونٍ مِن خلالِ موازنةٍ بينَ الأحداثِ وحسابِ الأجيالِ بينَ المرحلتين، كما أنّ اليهودَ في توراتِهم الحاليّةِ، يعدّونَ كلّاً مِن داوودَ وسُليمانَ عليهما السّلام واللّاحقينَ لهُما عبارةً عَن ملوكٍ وليسُوا أنبياءَ، بدعوى أنَّ الشّريعةَ اليهوديّةَ اللّاحقةَ التي تطوّرَت منذُ القرنِ الثّاني للميلادِ تَعُدُّ كلَّ مَن وُلِدَ لأمٍّ يهوديّة يهوديّاً، وهذا الإدّعاءُ لا يتأثّرُ بهويّةِ الأبِ أو أسلوبِ الحياةِ الذي يتّبعُه الإنسانُ، وبهذا تكونُ اليهوديّةُ ديناً مُرتبِطاً بعرقٍ - نسبٍ - أو ما نسمّيهِ اليومَ قوميّةً، وبالتّالي فهيَ ليسَت ديانةً تبشيريّةً كما هو سائدٌ في الدّياناتِ السّماويّةِ, وغالبيّةُ الأديانِ الوضعيّةِ، تشترطُ رابطةَ الدّم.
ثالثاً– معانٍ حولَ اليهودِ في اللّغةِ العربيّةِ:
في بعضِ معاجمِ اللّغةِ العربيّةِ جاءَ معنى كلمةِ (اليهودِ) أنّهُم بنو إسرائيلَ، مِن قومِ موسى عليهِ السَّلامُ ويُطلَقُ عليهم العبرانيّونَ، مِن نسلِ إبراهيمَ عليه السَّلام، عاشوا في مصرَ فترةً منَ الزَّمنِ إضطهدَهُم فرعونُ، وأنقذَهُم موسى عليه السّلام.
وهذا المعنى يُشكَلُ عليهِ بأنّهُ يخلطُ بينَ بني إسرائيل، وبينَ اليهودِ مِن جهةٍ أُخرى لكونِ ما جاءَ في معنى اليَهُود هوَ: قومٌ مِن أَصل ساميّ .وقيلَ إِنَّهم سُمُّوا كذلكَ باسم يهوذا أَحدِ أَبناءِ يعقوبَ.
رابعًا– اليهودُ في القُرآن، واقترانُ ذكرِهم بالنّصارى:
بالعودةِ إلى الآيةِ الكريمةِ التي تطرّقنا إليها في نهايةِ الفقرةِ السّابقةِ: (فآمنَت طائفةٌ مِن بني إسرائيل وكفرَت طائفةٌ فأيَّدنا الذينَ آمنُوا على عدوّهم فأصبَحُوا ظاهرين). (14 / الصّفّ)، نستدلُّ على أنَّ مجموعَ مَن آمنَ بالسّيّدِ المسيحِ عليهِ السّلامُ ساعةَ رفعِه إلى السّماءِ، كما وردَ في تفسيرِ الآيةِ السّابقة، هُمُ الحواريّونَ، ثُمَّ أخذَت الرّسالةُ المسيحيّةُ بالإنتشارِ على يدِهم في بقاعِ العالمِ القديم. والمُلفِتُ هوَ اجتماعُ اليهودِ مع النّصارى في غالبيّةِ الآياتِ القُرآنيّةِ اللّاحقةِ، وتبنّيهِم نفسَ التّوجُّهاتِ الفكريّةِ والدّينيّةِ, كتلكَ التي تدّعي أنَّ اللهَ لهُ ولدٌ، أو أنّهُم (اليهودُ والنّصارى) أبناءُ اللهِ وأحبّاؤه، أو عدمُ رضاهم عنِ الرّسولِ الأكرمِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله), إذ لَم يتّبِع مِلّتَهُم وغيرِها منَ التّوجّهاتِ. وقبلَ استعراضِ آياتِ اليهودِ، نودُّ أن نُشيرَ إلى أمرٍ مُهمٍّ وهوَ: أنَّ مَن يقرأُ الآياتِ التي تتعرّضُ لليهودِ يلحظُ أنَّ اللهَ تعالى يُخاطبُهم في جميعِ تلكَ الآياتِ بصفتِهم عُصاةً وكُفّاراً فقَط، بخلافِ خطابِه لبني إسرائيل، الذينَ بيّنَ اللهُ تعالى في كثيرٍ منَ الآياتِ تفضيلَهُم على عالمي زمانِهم، وتحليلِ الطّيّباتِ لهُم، وعدمُ تعميمِ الأحكامِ عليهم، وكانَ اللهُ تعالى يضربُ للمُسلمينَ الأمثلةَ مِن بني إسرائيل، في الطّاعةِ والمعصيةِ على حدٍّ سواء. وثماني آياتٍ ذُكِرَ بها اليهودُ في القُرآنِ الكريم، مِنها سبعةٌ مُقترنةٌ بالنّصارى, فمِنها قولُه تعالى: (وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيسَتِ اليَهُودُ عَلَى شيء) [البقرةُ:113]، توضّحُ هذهِ الآيةُ مدى النّظرةِ الدّونيّةِ التي ينظرُ بها كلٌّ منَ اليهودِ والنّصارى بعضهم لبعضٍ، فاليهودُ لا يعترفونَ بوجودِ شريعةٍ ذاتِ قيمةٍ عندَ النّصارى، والعكسُ كذلكَ.
وكذلكَ قولُه تعالى: (وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم) [ البقرةُ:120].
وكذلكَ قولُه تعالى: (وقالتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحنُ أَبنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُل فَلِمَ يُعَذِّبُكُم) [المائدةُ:18].
وكذلكَ قولُه تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ) [ المائدةُ:51].
وكذلكَ قولُه تعالى: (وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغلُولَةٌ غُلَّت أَيدِيهِم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) [المائدة:64]، في هذهِ الآيةِ ربُّ العالمينَ ينعتُ اليهودَ بالبُخلِ، فألقى عليهِم لعنتَه، كما نشرَ بينَهُم العداوةَ والبغضاءَ إلى يومِ القيامة.
وكذلكَ قولُه تعالى: (لتجدنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمنوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنهُم قِسِّيسِينَ وَرُهبَانًا وَأَنَّهُم لَا يَستَكبِرُونَ) [المائدة:82]، هذهِ هيَ الآيةُ الوحيدةُ التي تُفرّقُ بشكلٍ واضحٍ بينَ اليهودِ والنّصارى في تعاملِهم معَ المؤمنينَ.
وكذلكَ قولُه تعالى: (وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابنُ اللَّهِ) [ التّوبة:30].
وكذلكَ قولُه تعالى: مَا كَانَ إِبرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُسلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ ﴿٦٧ آلُ عمران﴾ . فلاحِظ هذهِ الآيةَ الكريمةَ ودقِّق فيها، فهيَ تُعَـدُّ بحقٍّ مِن أشدِّ الآياتِ التي تدلُّ بوضوحٍ على أنَّ اليهوديّةَ لا تمتُّ بصلةٍ لدينٍ سماويّ، وهكذا النّصرانيّةُ، وأمّا آيّةُ: (وَآتَينَا مُوسَى الكِتَابَ وَجَعَلنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسرَائِيلَ) [الإسراء:2]، فلا يوجدُ فيها ما يُشيرُ إلى اليهودِ أو اليهوديّةِ، لأنّها توضّحُ أنَّ الكتابَ (التّوراةَ) الذي آتاهُ اللهُ لموسى عليه السّلام لَم يكُن لطائفةٍ اسمُها اليهودُ أو لديانةٍ اسمُها اليهوديّةُ، بَل هُدىً لـ “بني إسرائيل” وليسَ لمجموعةٍ أُخرى.
هل تُعَدُّ اليهوديّةُ ديانةَ بني إسرائيلَ السّماويّة؟
مِن خلالِ إجراءِ موازنةٍ يسيرةٍ بينَ الآياتِ التي ذُكرَ فيها بنو إسرائيلَ والآياتِ التي جاءَت على ذكرِ اليهودِ، نلحظُ أنَّ اللهَ جلَّ وعلا طلبَ منَ الرّسولِ الأكرمِ مُحمّداً (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وأتباعِه في عددٍ منَ الآياتِ التي جاءَت على ذكرِ موسى عليه السّلام وبني إسرائيلَ بأنْ يحذوا حذوَهُم في طاعةِ اللهِ تعالى، وأنْ يجتنبوا المعاصيَ التي ارتكبَها بنو إسرائيل.
وأمّا ما يتعلّقُ باليهودِ، فليسَ مِن آياتٍ تدلُّ على طاعتِهم للهِ تعالى، هذا فضلاً عَن أنَّ إحدى آياتِ الكتابِ العزيزِ جاءَت لتضعَ اليهودَ في مرتبةٍ هيَ أشدُّ كُفراً وإيلاماً وعداوةً للمُسلمينَ مِن باقي الدّياناتِ والمِللِ، وذلكَ في قولِه عزَّ وجل: “لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنهُم قِسِّيسِينَ وَرُهبَانًا وَأَنَّهُم لَا يَستَكبِرُونَ” (82/المائدة). فجاءَ ذكرُ اليهودِ قبلَ المُشركينَ.
فلو كانَت اليهوديّةُ ديناً سماويّاً - كما هوَ سائدٌ - أو أن يكونَ قسمٌ مِن مُعتنقيها منَ المُؤمنينَ بوحدانيّةِ اللهِ تعالى وبما أنزلَ على موسى (عليه السّلام) منَ الكتابِ، فهَل يُعقلُ أن يلعنَ اللهُ تعالى جميعَ اليهودِ على الإطلاقِ ودونَ استثناءِ أحدٍ منهُم؟ قالَ جلَّ وعلا: (وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغلُولَةٌ غُلَّت أَيدِيهِم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) [المائدةُ: 64], في حينِ نلحظُ أنَّ الأمرَ في بني إسرائيل على عكسِ ذلك, إذ نجدُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يلعنُ العُصاةَ مِن بني إسرائيل وليسَ جميعَهم, كما في سورةِ [المائدةِ: الآيةُ 78]: إذ يقولُ اللهُ تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعتَدُونَ)، ولعلَّ المعنى يشيرُ إلى فئةِ اليهودِ في ذكرِ الذينَ كفروا مِن بني إسرائيل، خصوصاً أنَّ ظهورَ اليهوديّةِ كانَ مُتزامِناً معَ قيامِ مملكةِ داوود وذُرّيتِه، وهوَ ما جعلَهُم ملعونينَ عندَ داوودَ عليهِ السّلام في (الزّبورِ)، وعندَ عيسى عليهِ السّلام (في الإنجيل) فلو تتبّعنا ترتيبَ الآياتِ الكريمةِ مِن 78 وإلى 82 منَ المائدةِ، فسنجدُ ما يلي: (لُعنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ (79) تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئسَ مَا قَدَّمَت لَهُم أَنفُسُهُم أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيهِم وَفِي العَذَابِ هُم خَالِدُونَ (80) وَلَو كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَولِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُم فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنهُم قِسِّيسِينَ وَرُهبَانًا وَأَنَّهُم لَا يَستَكبِرُونَ (82)، ولاحِظ هُنا في الآيةِ 82 , فهيَ تُطلِقُ على أولئكَ (الذينَ كفروا مِن بني إسرائيل) تسميةَ (اليهودِ)، وهذا يعني أنّهُم لا يدينونَ بدينِ بني إسرائيل الذي أنزلَهُ اللهُ تعالى على نبيّهِ موسى عليهِ السّلام. فنستنتجُ مِـمّا تقدّمَ أنَّ هُناكَ فرقاً بينَ بني إسرائيل وبينَ اليهود. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق