"أن تعرف ربك. أن تعرف ما صنع بك . أن تعرف ما أراد منك. أن تعرف ما يخرجك من دينك " ممكن شرح هذه الرواية الواردة عن الإمام الكاظم ع
السلام عليكم ورحمة الله
عنِ الإمامِ الكاظمِ (عليهِ السّلام): وجدتُ علمَ النّاسِ في أربعٍ: أوّلها أن تعرفَ ربّكَ، والثّانيةُ أن تعرفَ ما صنعَ بكَ، والثّالثةُ أن تعرفَ ما أرادَ منكَ، والرّابعةُ أن تعرفَ ما يُخرجكَ مِن دينِك.. كشفُ الغمّةِ: ٣ / 45.
جمعَت هذهِ الرّوايةُ أركانَ العلومِ والمعارفِ التي يجبُ أن يسعى الإنسانُ في تحصيلِها، فكلُّ واحدةٍ منها تعدُّ أساساً للعلمِ ونظاماً للمعرفةِ ومفتاحاً للكثيرِ منَ الحقائقِ، مُضافاً إلى تكاملِ هذهِ الأركانِ فيما بينَها حيثُ تعودُ جميعُها إلى الرّكنِ الأوّلِ وهوَ معرفةُ اللهِ تعالى، ومنَ الواضحِ أنَّ معارفَ القُرآنِ وما جاءَ بهِ الأنبياءُ والرّسلُ يدورُ حولَ هذهِ الأركانِ، مما يعني أنَّ شرحَ الحديثِ مُفصّلاً يعني الكلامَ عنِ الإسلامِ في كلِّ أبعادِه ومعارفِه وهذا ما لا يمكنُ القيامُ به، ولِذا سوفَ نختصرُ شرحَ الحديثِ في نقاطٍ مُحدّدة:
أوّلاً معرفةُ اللهِ: لا يمكنُ للعقلِ الإنسانيّ أن يُؤسّسَ لمعرفةٍ موثوقةٍ ما لَم ترتكِز تلكَ المعرفةُ على حقيقةٍ مُتعاليةٍ وُجدَت معَ الإنسانِ بالفطرةِ؛ وذلكَ لأنَّ المعرفةَ تبتدئُ عندَ الإنسانِ بحدسٍ فطريٍّ يجعلُه يثقُ في الوجودِ بوصفِه حقيقةً لها واقعيةٌ، فنقطةُ البدايةِ في المعرفةِ هيَ الإيمانُ باللهِ بوصفِه الحقيقةَ الأكثرَ ظهوراً عندَ الإنسانِ، ومن دونِ الإيمانِ باللهِ الذي يُعطي الموجوداتِ واقعيّتَها لا يمكنُ الوثوقُ في وجودِها، وعندَما شكّكَت بعضُ الفلسفاتِ في اللهِ شكّكَت في كلِّ معارفِها فبدأَت بالنّسبيّةِ السّفسطائيّةِ وانتهَت بالعدميّةِ، وقَد وصفَ اللهُ هذهِ الحالةَ في قولِه تعالى: (أَو كَظُلُمَاتٍ فِي بَحرٍ لُجِّيٍّ يَغشَاهُ مَوجٌ مِن فَوقِهِ مَوجٌ مِن فَوقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ إِذَا أخرَجَ يَدَهُ لَم يَكَد يَرَاهَا ۗ وَمَن لَم يَجعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ) والإعترافُ باللهِ ليسَ بالضّرورةِ أن يكونَ إعترافاً مُصرّحاً بهِ كما هوَ حالُ المؤمنينَ وإنّما هوَ جزءٌ مِن كينونةِ الإنسانِ حتّى لو لَم يلتفِت إليهِ أو صرّحَ بعدمِه، فمتى ما وثقَ العقلُ في معارفِه كانَ ذلكَ بداعي الاعترافِ باللهِ سواءٌ كانَ ظاهراً أو باطناً، فالمُصحِّحُ للمعرفةِ ليسَ العقلُ أو الحسُّ بعيداً عَن هذهِ الحقيقةِ المُتعاليةِ؛ بلِ الثّقةُ في الموجوداتِ المُنبعثةِ منَ الإيمانِ باللهِ هيَ التي حقّقَت الإطمئنانَ بهذهِ الإدراكاتِ، فمعرفةُ اللهِ كحقيقةٍ فطريّةٍ تُشكّلُ أساساً للعقلِ بوجودِ حقائقَ يجبُ الوثوقُ بها. ومِن هُنا كانَت معرفةُ اللهِ في المنظورِ القُرآنيّ بمثابةِ النّورِ الذي تستضئُ بهِ جميعُ الحقائقِ الأُخرى، فاللهُ هوَ رأسُ الهرمِ في نظامِ المعرفةِ القُرآنيّ ومِن ثمَّ تتدرّجُ المعارفُ منَ القمّةِ لتستوعبَ كلَّ الحقائقِ في ترابُطٍ منطقيٍّ حتّى الوصولِ إلى قاعِ الهرمِ، وعليهِ يُمثّلُ التّوحيدُ الخيطَ النّاظمَ لمعارفِ القُرآنِ الكريمِ، فلا يمكنُ الإيمانُ بأيّ حقيقةٍ أو التّصديقُ بأيّ حُكمٍ شرعيّ إلّا بعدَ الإستنادِ على الإيمانِ باللهِ تعالى، فالحقائقُ في المنظورِ القُرآنيّ تستمدُّ حقيقتَها منَ اللهِ تعالى وكلُّ ما في الوجودِ مُرتبطٌ بهِ سُبحانَه، قالَ تعالى: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض..). يقولُ مولى محمّد صالح المازندرانيّ في شرحِ أصولِ الكافي في شرحِه لهذا الحديثِ (أوّلُها أن تعرفَ ربّك) ولمعرفتِه مراتب:
الأولى وهيَ أدناها: أن تعرفَ أنَّ لهذا العالمِ صانعاً.
الثّانيةُ: أن تُصدّقَ بوجودِه ووجوبِه ظاهراً أو باطناً.
الثّالثةُ: أن تترقّى إلى توحيدِه وتنزيهِه عنِ الشّركاءِ.
الرّابعةُ: أن تترقّى إلى الإخلاصِ لهُ وهوَ التّعرّي عَن كُلِّ ما سواهُ.
الخامسةُ: أن تنفي عنهُ الصّفاتِ التي تعتبرُها الأذهانُ له. وكلٌّ منَ الأربعِ الأولى مبدأٌ لهُ بعدَها.)
وقَد أكّدَت رواياتُ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) وبشكلٍ دائمٍ على معرفةِ اللهِ بوصفِها المفتاحَ لكلِّ العلومِ والمعارفِ فكثيراً ما نجدُ في رواياتِهم هذهِ العبارةَ (أَوَّلُ الدِّينِ مَعرِفَتُهُ) في إشارةٍ واضحةٍ إلى أنَّ الدّينَ الذي يُمثّلُ المعرفةَ الواقعيّةَ بالأشياءِ والحقائقِ لا يكونُ إلّا بمعرفةِ اللهِ تعالى. جاءَ عنِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام) أنَّه قالَ: (لو يعلمُ النّاسُ ما في فضلِ معرفةِ اللهِ تعالى، ما مدّوا أعيُنَهم إلى ما متّعَ اللهُ بهِ الأعداءَ، مِن زهرةِ الحياةِ الدّنيا ونعيمِها، وكانَت دُنياهُم أقلَّ عندَهُم ممّا يطؤونَهُ بأرجُلِهم، وتنعّموا بمعرفةِ اللهِ، وتلذّذوا بها تلذُّذَ مَن لم يزَل في روضاتِ الجنانِ معَ أولياءِ اللهِ، إنَّ معرفةَ اللهِ عزَّ وجلَّ أنسٌ مِن كلِّ وحشةٍ، وصاحبٌ مِن كلِّ وحدةٍ، ونورٌ مِن كُلِّ ظُلمةٍ، وقوّةٌ مِن كُلِّ ضعفٍ، وشفاءٌ مِن كُلِّ سقمٍ). وعنهُ (عليه السّلام): معرفةُ اللَّهِ سبحانَه أعلى المعارفِ. وعنهُ (عليه السّلام): مَن عرفَ اللَّهَ كملَت معرفتُه).
ثانياً أن تعرفَ ما صنعَ بكَ: وهيَ معرفةُ الإنسانِ لنفسِه وما أوجدَ اللهُ فيهِ من كمالاتٍ، وما أفاضَ عليهِ مِن نعمِه ظاهرةً وباطنةً، فمعرفةُ الإنسانِ بنفسِه وما فيهِ مِن نقاطِ قوّةٍ ونقاطِ ضعفٍ تعدُّ أساساً ضروريّاً لتشكيلِ معارفِه، وما نراهُ مِن إختلافٍ منظورٍ بينَ الفلسفاتِ البشريّةِ يعودُ وبشكلٍ مباشرٍ إلى نظرةِ كلِّ فلسفةٍ إلى الإنسانِ، وعليهِ فإنَّ التّقييمَ الموضوعيّ للإنسانِ يُعدُّ الخطوةَ الأولى لتحقيقِ معرفةٍ مُتوازنةٍ، فهُناكَ مَن جعلَ منَ الإنسانِ إلهاً وهناكَ مَن جعلَه حائِراً مُهمّشاً لا يكادُ يعرفُ شيئاً أو يجزمَ بحقيقةٍ، وكذلكَ الحالُ فيما يخصُّ الجانبَ الإجتماعيّ والسّياسيّ والقانونيّ كلّهُ قائمٌ على معرفةِ الإنسانِ بالإنسانِ، وأيُّ معرفةٍ مشوّهةٍ أو ناقصةٍ تنعكسُ على رؤيتِه في كلِّ هذهِ الحقولِ، ومِن هُنا نفهمُ كثرةَ النّصوصِ القُرآنيّةِ التي أكّدَت على نقاطِ القوّةِ في الإنسانِ مثلَ العقلِ والإرادةِ والآياتِ التي أكّدَت على نقاطِ الضّعفِ فيهِ مثلَ الهوى والشّهواتِ ومِن ثمَّ ربطَت آياتُ القرآنِ بينَ هذهِ الأبعادِ وبينَ مُهمّةِ الإنسانِ والرّسالةِ التي يجبُ أن يُؤدّيها .
ثالِثاً أن تعرفَ ما أرادَ منكَ: المقصودُ هوَ معرفةُ الحِكمةِ مِن وجودِ الإنسانِ والفلسفةِ وراءَ خلقِه، والإنسانُ في سعيه في هذهِ الحياةِ ينطلقُ مِن تقييمِه الأولى لوجودِه، فالذي لا يؤمنُ بوجودِ حِكمةٍ مِن حياتِه سوفَ يرتجلُ كلِّ خطواتِه، بخلافِ مَن يبني حياتَه على بصيرةٍ مِن أمرِه، وقد جاءَت رسالاتُ اللهِ لكَي تُرشدَ الإنسانَ إلى ما خُلقَ مِن أجلِه ومِن ثمَّ تُحمّلَهُ المسؤوليّةَ للقيامِ بما أمرَ بهِ، قالَ تعالى: (قُل هَـَذِهِ سَبِيلِيَ أدعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ)
رابِعاً أن تعرفَ ما يُخرجُكَ مِن دينِك: ليسَ كافياً أن يعرفَ الإنسانُ الحقَّ وإنّما يجبُ أن يعرفَ كيفَ يحافظُ على هذا الحقِّ، ففتنةُ الإنسانِ ليسَت في كيفَ يعرفُ الصّراطَ المُستقيمَ وإنّما في كيفَ يستمرُ على الصّراطِ المُستقيم، فتعقيداتُ الحياةِ وما فيها مِن عقباتٍ وتحدّيّاتٍ تجعلُ الإنسانَ في حالةٍ منَ التّهديدِ الدّائمِ في دينِه واعتقادِه وإيمانِه، ومِن هُنا كانَت معرفةُ الإنسانِ بهذهِ المزالقِ ضرورةً للحفاظِ على دينِه، قالَ تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيتَنَا وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ)
اترك تعليق