"وجعلنا من الماء كل شيئ حي"كيف اصبح كل شيئ حي بسبب الماء. والنار تنطفئ منه ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
معَ أنَّ السّؤالَ مُضطربٌ وموضعُ الإشكالِ غيرُ واضحٍ، ألّا أنّهُ منَ المُمكنِ حصرُ الموضوعِ في عدّةِ صورٍ:
الأولى: هَل هذهِ الآيةُ مُختصّةٌ بالأحياءِ في كوكبِ الأرضِ أم تشملُ جميعَ الكواكب؟
والثاني: هلِ الماءُ المقصودُ في الآيةِ هوَ نفسُه الماءُ الموجودُ على الأرضِ والذي نشربُه أم هوَ شيءٌ آخر.
والثٌالثُ: هل تتحدّثُ الآيةُ عَن كونِ الأشياءِ جميعِها بما فيها الجماداتُ أصلُها الماءُ أم هيَ مُختصّةٌ فقط بالكائناتِ الحيّةِ؟
الرّأيُ السّائدُ في هذهِ الآيةِ أنَّ الماءَ هوَ سببُ حياةِ كلِّ الكائناتِ الحيّةِ، وهذا ما أثبتَهُ العلمِ الحديثُ حيثُ أشارَ إلى أنَّ الخليّةَ التي تُعدُّ الأساسَ لكُلِّ كائنٍ حيٍّ تتكوّنُ من 90% منَ الماءِ، وقَد أثبتَ العلماءُ أنَّ الماءَ هوَ السّائلُ الوحيدُ مِن بينِ جميعِ السّوائلِ الطّبيعيّةِ الذي يصلحُ لأن يكونَ وسطاً مُناسِباً لحدوثِ التّفاعلاتِ الكيميائيّةِ التي تلزمُ لتصنيعِ الموادِّ التي تحتاجُها أجسامُ الكائناتِ الحيّةِ، وهناكَ دراساتٌ علميّةٌ مُفصّلةٌ تناولَت أهمّيّةَ الماءِ بالنّسبةِ للحياةِ، وعلى هذا التّفسيرِ تُصبحُ دلالةُ الآيةِ قائمةً على إثباتِ حقيقةٍ لم تلتفِت لها البشريّةُ إلّا مؤخّراً معَ تقدّمِ العلومِ وهذا دليلٌ على الإعجازِ القُرآنيّ وكونِه كتاباً منَ اللهِ خالقِ كلِّ شيءٍ. وعليهِ تُصبحُ الآيةُ مُطلقةً تشملُ كلَّ كائنٍ حيٍّ سواءٌ كانَ على كوكبِ الأرضِ أو في كواكبَ أخرى، ولِذا نجدُ العلماءَ يدرسونَ فرصَ وجودِ كائناتٍ حيّةٍ في الكواكبِ الأُخرى مِن خلالِ دراسةِ وجودِ ماءٍ على تلكَ الكواكبِ باعتبارِ وجودِه دليلاً على وجودِ الحياةِ.
وهناكَ رأيٌ آخر وهوَ أنَّ الماءَ المقصودَ في الآيةِ ليسَ الماءَ الموجودَ في الدّنيا وإنّما هوَ أصلُ جميعِ الأشياءِ، بمعنى أنَّ الماءَ الذي نشربُه مخلوقٌ مِن ذلكَ الماءِ، وعليهِ تشيرُ الآيةُ إلى كونِ الماءِ هوَ أصلُ الوجودِ وعالمُ الخلقِ بكلِّ ما فيهِ مِن كواكبَ ومجّرات، وإذا رجعنا إلى تمامِ الآيةِ وهيَ قولُه تعالى: (أولم يرَ الذينَ كفروا أنَّ السّماواتِ والأرضَ كانتا رَتقاً ففتقناهُما وجعلنا منَ الماءِ كلَّ شيءٍ حي أفلا يؤمنونَ) نجدُ أنَّ الآيةَ تتحدّثُ عَن بدايةِ الخلقِ وكيفَ أنَّ السّماءَ والأرضَ كانتا كُتلةً واحدةً ثمَّ حدثَ الإنفتاقُ الذي يُعبَّرُ عنهُ حديثاً بنظريّةِ الإنفجارِ العظيمِ، وهيَ أحدثُ نظريّةٍ علميّةٍ لبدءِ نشوءِ الكونِ، حيثُ يرى أكثرُ العلماءِ أنَّ بدايةَ نشوءِ الكونِ وقعَ نتيجةَ إنفجارٍ كبيرٍ في النّجومِ التي تُسمّى بـ(سوبرنوفا) وهيَ نجومٌ تقلّصَت في داخلِها نتيجةَ الإنفجارِ الهائلِ ونتجَ عن هذا الإنفجارِ قذفُ كميّةٍ هائلةٍ جدّاً مِن جُسيماتِ النّيوترونِ التي أخذَت بتكوينِ العناصرِ بترتيبِ عددِ الإلكتروناتِ والبروتوناتِ. ونشأ مِن هذا الإنفجارِ سحابة ُ غازٍ أوّليّةٍ، ومِن هذهِ السّحابةِ نشأت المنظومةُ الشّمسيّةُ، وغيرُ ذلكَ منَ التّفاصيلِ المُثارةِ في هذهِ النّظريّةِ، وما يهمُّنا هوَ أنَّ الآيةَ تتحدّثُ عَن بدايةِ تشكُّلِ الكونِ ثمَّ يأتي بعدَ ذلكَ الكلامُ عنِ الماءِ، وقد جاءَ في رواياتِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) ما يشيرُ إلى ما أشارَت لهُ نظريّةُ الإنفجارِ العظيمِ وبتفاصيلَ تقتربُ مِن تفاصيلِ ما ذكرَه علماءُ الفيزياءِ الذينَ تحدّثوا عنِ الإنفجارِ العظيمِ، فقَد روى الكافي عنِ الإمامِ الباقر (عليه السّلام) أنّهُ قالَ: (كانَ كلُّ شيءٍ ماءاً، وكانَ عرشُه على الماءِ، فأمرَ اللهُ تعالى الماءَ فاضطرمَ ناراً، ثمَّ أمرَ النّارَ فخمدَت فارتفعَ مِن خمودِها دخانٌ فخلقَ اللهُ السّمواتِ مِن ذلكَ الدّخانِ، وخلقَ الأرضَ منَ الرّمادِ). وعنِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام)؛ في خبرٍ أخرجَه عليٌّ بنُ إبراهيم في تفسيرِه، أنّهُ قالَ: (كانَ عرشُه على الماءِ، والماءُ على الهواءِ، والهواءُ لا يحدُّ ولم يكُن يومئذٍ خلقٌ غيرُهما، والماءُ يومئذٍ عذبٌ فراتٌ، فلمّا أراد َ أن يخلقَ الأرضَ أمرَ الرّياحَ فضربَت الماءَ حتّى صارَ موجاً، ثمَّ أزبدَ فصارَ زبداً واحداً فجمعَه في موضعِ البيتِ، ثمَّ جعلَه جبلاً مِن زبدٍ، ثمَّ دحا الأَرضَ مِن تحتِه، فقالَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلعَالَمِينَ}. ثمَّ مكثَ الرّبُّ تباركَ وتعالى ما شاءَ، فلمّا أرادَ أن يخلقَ السّماءَ أمرَ الرّياحَ فضربَت البحورَ حتّى أزبدَت بها فخرجَ مِن ذلكَ الموجِ والزّبدِ مِن وسطِه دُخانٌ ساطعٌ مِن غيرِ نارٍ، فخلقَ منهُ السّماءَ، وجعلَ فيها البروجَ والنّجومَ، ومنازلَ الشّمسِ والقمرِ، وأجراها في الفلكِ وكانَتِ السّماءُ خضراءَ على لونِ الماءِ الأخضرِ، وكانَت الأرضُ غبراءَ على لونِ الماءِ العذبِ، وكانتا مرتوقتينِ ليس لهُما أبوابٌ).
وفي روايةٍ أخرى عنِ الإمامِ الباقرِ (عليه السّلام) قالَ: (وخلقَ الشّيء الذي جميعُ الأشياءِ منه، وهوَ الماءُ الذي خلقَ الأشياءَ منهُ فجعلَ نسبَ كلِّ شيءٍ إلى الماءِ، ولم يجعَل للماءِ نسباً يُضافُ إليه، وخلقَ الرّيحَ منَ الماءِ، ثمَّ سلّطَ الرّيحَ على الماءِ، فشققَت الرّيحُ متنَ الماءِ حتّى صارَ منَ الماءِ زبدٌ على قدرِ ما شاءَ أن يثورَ، فخلقَ مِن ذلكَ الزّبدِ أرضاً بيضاءَ نقيّةً ليسَ فيها صدعٌ ولا ثقبٌ ولا هبوطٌ ولا شجرةٌ، ثمَّ طواها فوضعَها فوقَ الماءِ، ثمَّ خلقَ اللهُ النّارَ منَ الماءِ فشققَت النّارُ منَ الماءِ حتّى ثارَ منَ الماءِ دخانٌ على قدرِ ما شاءَ اللهُ أن يثورَ، فخلقَ مِن ذلكَ الدّخانِ سماءً صافيةً نقيّةً ليسَ فيها صدعٌ ولا ثقبٌ) حيثُ تُؤكّدُ هذهِ الرّواياتُ مُضافاً إلى بدايةِ الخلقةِ على أنَّ الماءَ هوَ المادّةُ الأولى التي إستمدَّ منها الكونُ الوجودَ، وعليه يصبحُ كلُّ شيءٍ في عالمِ الوجودِ يعودُ إلى طبيعةٍ واحدةٍ وهيَ تلكَ المادّةُ الأوليّةُ التي سمّتها الآيةُ بالماءِ.
اترك تعليق